أمسيةً ثقافيّةً مغايرةً جريئةً أقامها نادي حيفا الثقافيّ برعاية المجلس المّليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ/ حيفا، في قاعة كنيسة مار يوحنّا المعمدان الأرثوذكسيّة في حيفا، بتاريخ 27-10-2016، ووسط حضور كبير من أدباء وكُتّاب وأصدقاء وأقرباء، إكرامًا للباحث النصراويّ المحامي وليد الفاهوم، وإشهار بحثه "دراسات في الدين والدنيا والإسلام السياسيّ"، وقد تولّى إدارة الأمسية المحامي فؤاد نقارة رئيس ومؤسّس نادي حيفا الثقافيّ مرحّبًا بالحضور، وشارك في الأمسية كلّ من قدس الأرشمندريت أغابيوس أبو سعدة متحدثا عن أهمّيّة الحوار السلميّ بين الشعوب، والأديب حنّا أبو حنا، ولظروف قاهرة تعذّر حضور المتحدثين المزمع حضورهما ومشاركتهما: الشيخ رشاد أبو الهيجا، ومحمد شريف رئيس الجماعة الإسلاميّة الأحمديّة، وتقديرًا لمشوار وليد فاهوم الأدبيّ والاجتماعيّ والسياسيّ، قدّم نادي حيفا الثقافي درع تكريم للمحتفى به، ممثّلا بـ: جريس خوري عضو المجلس الملي الأرثذكسي الوطنيّ حيفا، والمحامي كميل مويس عضو المجلس وأمين صندوقه، والمحامي حسن عبادي عضو نادي حيفا الثقافي والناشط الأدبيّ، والمحامي فؤاد نقارة، ثمّ قرأ الكاتب وليد الفاهوم ثلاث فقراتٍ من كتابه: عن فراس السوّاح والدولة العسكريّة ومآل الغطرسة، وعن سوريا التي تخوض حربًا عالميّة هي وحلفاؤها ضدّ الإرهاب الإسلامويّ، ومقطعًا من قصيدة ابن عربي أمير الصوفيّين العرب عن دين الحب، ثمّ شكر الحضور والمتحدثين والمنظمين، وتم التقاط الصور التذكارية أثناء توقيع كتابه المثير للجدل!
مداخلة المحامي فؤاد نقارة- رئيس ومؤسّس نادي حيفا الثقافيّ: الأخوات والأخوة مساؤكم خير. باسم المجلس الملّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا، وباسم نادي حيفا الثقافي وباسمي، نرحّب بكم وبرجال الدين الأجلّاء من مشاركين بالأمسية، وبكلّ مَن كرّمونا بحضورهم هذه الأمسية، أهلًا وسهلًا بكم في قاعة كنيسة مار يوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة في حيفا، ويُشرّفنا أن نستضيف الباحث والكاتب الزميل وليد الفاهوم، تقديرًا لمجهوده الكبير والشجاع وإصدار كتابه "مقالات في الدين والدنيا والإسلام السياسيّ"، مع حفظ الحقّ لكلّ قارئ أن يختلف مع كاتبنا على ما جاء في الكتاب من رأي أو استنتاج.
لقد تعذّر حضور الشيخ رشاد أبو الهيجاء، بسبب وفاة أخيه عمر- له الرحمة- في الأمس، واعتذر أمير الجماعة الإسلاميّة الأحمديّة الأخ محمد شريف لوجوده في الخليل.
يسرّنا أن يشاركنا هذه الأمسية قدس الأرشمندريت أغابيوس أبو سعدة الغنيّ عن التعريف، الذي يُعَدُّ ليس من رجالات حيفا فقط، بل من رجالات شعبنا العربيّ، لِما يتمتّع به من علم ومعرفة ورحابة صدر والترفع عن التقوقع والانعزال والتطرّف، فكتاباته وأفكاره وتحليلاته السلميّة تُنشر على الملأ بدون رهبة وبدون محاباة، وتُمثّل رجل دين متنوّر واعٍ ومثقفٍ بامتياز، إنّه مثال لرجل الدين الذي يستحقّه شعبنا.
وليد الفاهوم الكاتب والباحث الحامل للهمّ الفلسطينيّ: من مواليد الناصرة 1943، أنهى تعليمه الابتدائيّ في مدرسة الفرير، ومن ثمّ في المدرسة الثانويّة البلديّة في الناصرة، حاصل على شهادة البكلوريوس في موضوع الفلسفة وعلم النفس من الجامعة العبرية في القدس، إجازة الحقوق 1974، مارس المحاماة لمدّة 20 سنة في الدفاع عن السجناء السياسيّين في المناطق المحتلة، وهو ناشط اجتماعيّ في العديد من المؤسّسات الوطنيّة، ومن مؤسّسي اتّحاد جمعيّات العمل التطوّعيّ في الناصرة، والذي ضمّ 33 جمعيّة تطوّعيّة، وله العديد من الإصدارات الثقافيّة.
مداخلة الأرشمندريت أغابيوس أبو سعدة: الفهم الصحيح للدين يؤدّي إلى فهمٍ صحيحٍ لله وللآخر المختلف، لا خلاف في أنّنا نعيش اليوم في عالمٍ متغيّر؛ بل شديد التّغيُّر بسبب التّقدُّم التّقنيّ وثورة الاتّصالات والمعلومات، وعصر الفضائيّات، والسّماوات المفتوحة، وتَقلُّص الحواجز والمسافات بين دول العالم؛ وكأنّهم باتوا يعيشون في قريةٍ صغيرةٍ في عصر العولمة. وقد تمخّض عن هذا؛ غزوٌ جديدٌ يُطلَق عليه الغزو الثّقافيّ والفكريّ، وأصبحت الثّقافة الأقوى تمثِّل تهديدًا قويًا للثّقافات الهزيلة الضّحلة. والى جانب هذا، أدى التّصادم بين الثّقافات المتنوّعة في غياب لغة الحوار الرّاقي المتحضِّر إلى بزوغ تصرّفاتٍ وسلوكيّاتٍ وقيمٍ وظواهرَ نفسيّةٍ واجتماعيّةٍ واقتصاديّةٍ، قد تبدو غريبةً وشاذةً على الآخر. ومع تزايد التّصادمات الثّقافيّة والفكريّة في حلبة المجتمعات الدّوليّة والمحليّة، ظهرت أشكالُ جديدةٌ للعنف- على الرّغم من أنّه ظاهرةٌ قديمةٌ قِدَم البشريّة- تبعًا لتغيُّر وسائل العدوان وتطوّرها. والعنف سلوكٌ إيذائيٌّ قوامه إنكار الآخر، واستبعاده عن حلبة التّغالب، إمّا بقهره، وإمّا بنفيه إلى خارج الحلبة، وإمّا بتصفيته معنويًّا وجسديًّا. لذا؛ فإنّ معنى العنف الأساسيّ هو عدم الاعتراف بالآخر. كما أنّ العنف يشكّل أخطر مظاهر العدوان الّتي تلازم البشريّة. والى جانب هذا، فقد تكاثرت أعمال العنف الدّامية الّتي وصلت في معظم الأحوال إلى حدود اللّامنطق واللّامعقول، وباتت تشكِّل ظاهرةً خطيرةً تلتهم أمن وطمأنينة المجتمع الإنسانيّ، وتُعطِّل أيّ استثمارٍ عقلانيٍّ لجهود النّماء الإنسانيّ.
ويشهد المجتمع الإنسانيّ ثقافةً جديدةً لعنفٍ مختلفٍ لم يعتدْهُ من قبل، لذا لا بدّ من وقفةٍ من قبل المفكّرين والباحثين في كلّ المستويات العقائديّة الفكريّة والدّينيّة لدراسة هذه الظّاهرة، ومعرفة أسبابها وجذورها والتّصدّي لها، من خلال طرح استراتيجيّاتٍ لمواجهة ظاهرة العنف العالميّ. وقد تأثّر العالم بأسره بدوره من ظاهرة العنف، لأنّه يمثِّل كيانًا لا يُستهان به من كيانات العالم الإنسانيّ، وأصبحت أشكال العنف المختلفة شائعةً في كلٍّ من الشّارع، والمدرسة، والتّلفاز، ودور العبادة، وضدّ الطّفل والمرأة، ومن خلال الممارسات الدّينيّة والسّياسيّة. وأودّ في هذه المناسبة توجيه دعوةٍ دينيّةٍ واجتماعيّةٍ وإنسانيّةٍ إلى الإصلاحيّين المستنيرين من أبناء المجتمع الإنسانيّ، من أجل الوقوف سويًّا للتّصدي لظاهرة العنف في عالمٍ متغيّر، ونأمل من الله تعالى أن يكون هذا اللّقاء صرخةً مُدوّيةً لإيقاظ الضّمير الإنسانيّ، من أجل المحافظة على إنسانيّة الإنسان، الّذي بات يعيش شريعة الغاب، بدلاً من عيشه شريعة الله الّتي هي محبّةٌ وتسامحٌ وألفةٌ ومغفرةٌ وانفتاحٌ على الآخر المختلف عنّي دينًا وعِرقًا. من هنا علينا جميعًا أن نُلغيَ حرف "الرّاء" من كلمة "الآخر"، ليُصبح هذا الأخر أخًا لي في الإنسانيّة.
لقد بات من المؤكّد والضّروريّ أنّ نشر ثقافة التّسامح والتّعايش وقبول الآخر المختلف حاجةٌ أساسيّةٌ ومُلِحّةٌ وخاصّة، في ظِلّ هذه الظّروف الحسّاسة الحرجة الّتي نمرّ بها من كافة النّواحي الّتي نحن فيها، ويجب زرع هذه الثّقافة في نفوس وعقول الجيل النّاشئ، لأنّها تُساهم بشكلٍ فعّالٍ في خلق جيلٍ واعٍ قادرٍ على تحمُّل أعباء المسؤوليّة، وقيادة المرحلة القادمة بشكلٍ إيجابيٍّ وسليم، لأنّ الثّقافة بشكلٍ عامٍّ هي ثقافةٌ إنسانيّة، لذلك لا توجد ثقافةٌ عديمةُ القيمة كلّيّا، أو ثقافةٌ كاملةٌ مكمَّلةٌ تحتكر الحقيقة الإنسانيّة، وتختزل ثراء الوجود، وتمتلك حقّ فرض معاييرها وإيديولوجيّتها وأجندتها السّياسيّة والدّينيّة على الآخرين، بما في ذلك اللّيبراليّة الّتي تعيش أبهى أيّامها وأكبر انتصاراتها. لذلك نرى بأنّ السّبب الكامن وراء الاستقرار النّسبيّ والغنى الثّقافيّ لمعظم المجتمعات الغربيّة، يعود بالضبط إلى حقيقة أنّها لا تعتمد على عقيدةٍ سياسيّةٍ وحيدةٍ أو وجهة نظرٍ واحدةٍ للعالم، ولا يتحقّق التّسامح وقبول الآخر إلاّ بالحوار والتّواصل، والمشاركة الحقيقيّة في اتّخاذ القرار، لأنّ إقامة حوارٍ بنّاء وخلق فضاءٍ للنّقد والفكر المستقلّ، يُساعد المجتمع على عيش حالةٍ من الاستقرار والسّلام والتّعايش، مهما اختلفت أعراق ومعتقدات أبنائه. وإنّ الحوار والتّواصل دائمًا وأبدًا هو الطّريق الصّحيح لحلّ كافّة القضايا العالقة، وهو البديل الصّحيح عن فرض الرّأي بالقوّة، وبالحوار نحافظ على التّواصل والمحبّة والسّلام، ونعمِّق معاني الدّيمقراطية والتّعاون، ولا يكفي لنجاح الحوار مجرّد الدّعوة إليه دون اتّخاذ خطواتٍ عمليّةٍ تُترجِم ما اتُّفِقَ عليه من قبل الأطراف المتحاورة على أرض الواقع، وتُنمِّي الثّقة بين المتحاورين، فإذا لم يطمئنّ المتحاورين إلى المصداقيّة في إجراء الحوار، وإذا لم تُستَبعَد العوائق والموانع، يصبح الحوار سفسطائيّا دون غايةٍ أو هدف، أو مجرّد حوارٍ من أجل الحوار.
إنّ المجتمع المتجانس ثقافيًا يتمتّع بقوّةٍ مميِّزةٍ خاصّةٍ به، ويخلق مَناخًا تشترك فيه الثّقافات المختلفة لحوارٍ مُثمرٍ يعود بالنّفع على الجميع، ويساعد على إقامة حسٍّ مجتمعيٍّ تكافُليّ، وبذلك يُسهِّل عملية التّواصل الدّاخليّ بين أبنائِه، ويُغذِّي ثقافةً كثيفةً متماسكةً ويمدُّها بأسباب الحياة. وإنّ قبول ثقافة الآخر المختلف لا يعني بالضّرورة الاقتناع بها، إنّما هو إقرارٌ بوجود الاختلاف معها، وبوجود هذه الثّقافة وقبولها من قبل الآخر، شرط أن لا تكون تلك الثّقافة مبنيةً على حساب حقوق الآخر أو وجوده، كما ويجب النّظر إلى الآخر المختلف من دون تمييزٍ؛ بسبب الجنس أو الدّين أو القوميّة أو الخلفيّة الاجتماعيّة أو الاتّجاه السّياسيّ أو أيّ سببٍ آخر، وطالما أنّ الاختلاف لا يكون على حساب وجود الآخر أو حياته، فالآخر هو فردٌ مواطن، له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات، فيجب احترام هذا الاختلاف والعمل على تعزيز قبول ثقافة الآخر المختلف مهما بلغت درجة الاختلاف، وتفعيلها بشكلٍ طبيعيٍّ بما تنسجم مع واقعنا ومتطلَّباته.
وإنّ التّسامح والدّيمقراطيّة لهما اتّجاهان، أي أخذ وعطاء وتفاعل إيجابيّ مع قيمٍ إنسانيّةٍ جديدةٍ بعيدةٍ عن روح التّعصُّب والكراهية وشطب الآخر المختلف. حيث إنّه بغياب الدّيمقراطيّة تنعدم إمكانيّة تكافؤ الفرص في التّعبير عن الرّأي، وبغياب العدالة السّياسيّة تنقطع فرص الحوار والتّواصل بين مُكوِّنات المجتمع، وبغياب سلطة القانون يقع الضّرر على الجميع بدون استثناء. ولكن غياب ثقافة التّسامح وقبول الآخر المختلف هو من أكثر عوامل الواقع الّذي يعاني منه مجتمعنا في الوقت الحاضر، وهذا يمثِّل مسؤوليّةً يجب أن يضطلع بها الجميع من قوًى سياسيّةٍ ومنظمّاتٍ مجتمعيّةٍ ومؤسّساتٍ ثقافيّةٍ وحتّى علماء دين، ولكن بعض ما تم ذكرها هو فاقد لما عليه أن يعطيه للمجتمع، وحيث أن فاقد الشيء لا يعطيه بأيّ حالٍ من الأحوال.
إنّ الاعتراف والإقرار بثقافة التّسامح وقبول الآخر والاعتراف به هو أمرٌ جيّدٌ ومقبولٌ نظريّا، ولكن يجب العمل والنّضال من أجل ترسيخ قيمة هذه الثّقافة، وتطبيقها في الحياة اليوميّة بشكلٍ يعود بالفائدة على الجميع دون استثناء. ومن أجل العمل على نشر هذه الثّقافة، لا بدّ من اتّخاذ بعض الخطوات العمليّة في هذا المجال ألا وهي: (1) تَبَنِّي برامج علميّة وذلك لتنميّة الوعي المجتمعيّ؛ (2) وضع مناهجَ تعليميّةٍ جديدةٍ لإعداد جيلٍ واعٍ قادرٍ على تحمُّل أعباء المرحلة؛ (3) إيجاد أدواتٍ إعلاميّةٍ متطوّرةٍ على جميع الأصعدة؛ (4) نبذ كلّ أشكال التّطرُّف والتَّخلُّف والتَّشدُّد في المجتمع، عن طريق إقامة دوراتٍ تعليميّةٍ وندواتٍ تثقيفيّةٍ ولقاءاتٍ روحيّةٍ دينيّةٍ بين جميع أبناء المجتمع بمختلف أطيافه وانتماءاته المذهبيّة والطّائفيّة، ليتسنّى، على سبيل المثال، للمسلم أن يتعرّف على المسيحيّ، والمسيحيّ بدوره يتعرّف على المسلم، وهكذا دواليك. إنّ فكرة التّسامح وقبول الآخر، واللّجوء إلى الحوار وإلغاء فكرة شطب الآخر والثّأر وإناطتها بالقانون، يعتمد على استعداد الأطراف الّتي تريد بناء مستقبلها، على أساس تغليب المصلحة العامّة على الخلافات الشّخصيّة والمشاعر الدّفينة البعيدة عن التّعقُّل والتّروّي في نتائجها. وهنا لا بدّ من الإشادة إلى بعض الشّخصيّات التّاريخيّة المتسامحة:
المهاتما غاندي: من أقول صاحب سياسة المقاومة السّلميّة (فلسفة اللّاعنف) المعروف بتسامحه:
"أين يتواجد الحبّ تتواجد الحياة"؛ "إنّ اللّاعنف هو القوّة العظمى لدى الإنسان، وهو أعظم مِن ما أبدعه الإنسان من أكثر الأسلحة قدرةً على التّدمير". تُوفّي مقتولاً برصاص شخصٍ هندوسيٍّ متعصّبٍ لم تَرُق له عظمة التّسامح الغانديّة؛
من أقوال مارتن لوثر كينغ المناضل السّلميّ ضدّ التّمييز العنصريّ: "السّلام الحقيقيّ ليس مجرّد غياب التّوتُّر، بل إنّه إحقاق العدالة". "إنّ ثمرة اللّاعنف هي المصالحة وإيجاد المجتمع الحبيب". "الكراهية تُولِّد الكراهية- علينا مقابلة الكراهية بالمحبّة". "غايتنا ليست هزيمة الرّجل الأبيض أو إذلاله، بل كسب صداقته وتفهُّمه لحقوقنا". "فلسفة اللّاعنف لا تتأسَّس على الجُبن، إذ إنّ غايتنا تكمن في بناء مجتمعٍ يعيش في سلامٍ مع نفسه".
البابا القديس يوحنا بولس الثّاني الّذي تعرّض لحادثة اغتيال عام 1981 من قِبل (علي أقجا) التركيٍّ المتعصّبٍ، خرج على أثرها بجروحٍ بالغة، وأُدخِل المستشفى وأُخضِع لعملياتٍ جراحيّةٍ كادت تودي بحياته، لكنّه بالرّغم من ذلك التقى بقاتله وعفا عنه، وأخلى سبيله بكلّ رحابة صدر.
وبالرّغم من هذا وذاك، نلاحظ أنّ هناك تصميمًا واضحًا لدى كافّة المهتمِّين والغيورين على حريّة الإنسان وحقوقه المشروعة في الاستمرار بالعمل والنّضال الدؤوب، وبالوسائل المتاحة والممكنة في نشر هذه الثّقافة مهما كانت الضّريبة، وبفضل العولمة والتّقنيّة الحديثة، لا يمكن لأيّ مجتمعٍ اليوم عزل نفسه عن المؤثِّرات الخارجيّة، خصوصًا مع تنقُّل رأس المال والتّكنولوجيا والقوى العاملة والأفكار وما إلى ذلك، بحريّةٍ عبر الحدود الإقليميّة، وبالتّالي إنتاج صِيَغٍ جديدةٍ للتّفكير والحياة. يستحضرني ما جاء على لسان الفيلسوف ابن عربي الّذي قال: "لقد كنتُ قبل اليوم أُنكر صاحبي إذ لم يكن ديني إلى دينه دانٍ، لقد صار قلبي قابلاً كلّ صورةٍ، فمرعى لغزلان، وبيت لأوثان، ودير لرهبان، وكعبة طائف، وألواح توراة، ومصحف قرآن، أدين بدِين الحبّ أنى توجّهت ركائبه، فالحبّ ديني وإيماني". إنّ كلّ الأديان تسعى في طريق التّقرُّب إلى الله، ولو بأشكالٍ مختلفة؛ فعلى المرء أن ينظر إلى الأديان باعتبارها تجلّياتٍ متتاليةٍ للحقيقة الإلهيّة، بالإضافة إلى فكرة الحبّ نفسها، وما يمكن أن ترتقي به لتصل إلى الحقيقة المرتجاة. وحين نؤمن بأنّ الحبّ هو الّذي جعل الله يرسل أنبياءه ليعلِّم النّاس طرائق الوصول إليه، ندرك أنّ ما من سبيلٍ لبلوغ مرضاته أكثر من أن يُخلص النّاس في وُدِّهم لشركائهم في الإنسانيّة، فيتجنّبون بذلك غوائل التّعصّب، الّذي يقود إمّا إلى الكراهية والحروب، أو إلى أوهام الشّعور بالتّفوُّق والأفضليّة، وهذا ما لا يتّفق مع هدف التّعارف بين الشّعوب والقبائل المختلفة، الّذي أشار اليه القرآن الكريم، فليس أحدٌ أفضل من أحدٍ إلاّ بالتّقوى، والتّقوى في جوهرها خلقٌ كريمٌ لا ينسجم مع تجهُّم المتشدِّدين وادّعاءاتهم بالتّميُّز.
مداخلة الكاتب وليد الفاهوم: أوّلًا وقبل كلّ شيء، جئت لأسمع لا لكي أتكلّم، وكم يتوق الكاتب أن يسمع صدى ما يكتب. ثانيًا، جئتُ لكي أتعلّم، فيبقى الإنسان يتعلّم من المهد إلى اللحد، لكي أتعلّم من النقد الموضوعيّ العلميّ، من نقد الفكر لا نقد الشخص، كما جرت العادة لدى بعض المتمشيخين الجدد، فيتركون الفكرة لأنّهم عاجزون عن مجاراتها أو نقدها أو نقضها، ويتعربشون بشخص الكاتب وشخصيّته؛ طويل قصير، خِرّيج موسكو، عضو حزب، عميل روسيا والولايات المتحدة في الوقت ذاته.. هذا ما حدث لي فعلًا، وهكذا تمّت مهاجمتي قبل حوالي السنة في إحدى صحف الحركة الإسلاميّة عندنا في البلاد، مع أنّني خِرّيج الجامعة العبريّة في القدس، ولست عضوًا في الحزب الشيوعيّ، إنّما صديق إلى أبعد حدود الصداقة. هذه الأمسية عبارة عن حفل إشهار لكتابي، هذا الحفل الذي أعتزّ به، لأنّه هنا في هذا النادي الحيفاويّ الوطنيّ (بالمعنى الفلسطينيّ)، كان من المفروض أن يتواجد المتكلّمون الكرام؛ شيخٌ وكاهنٌ وأميرُ الجماعة الأحمديّة، لكن تغيّب الأوّل والأخير لظروف قاهرة، فنخاطبهم من خلال حضرة الغياب، ويعوّض تلك الخسارة هذا الحضورُ المتميِّزُ بأعلى درجات التميُّز. أشكركم جميعًا من شغاف القلب، وأخصُّ بالذكر "الأخ أبونا" أغابيوس، والمجلس الملّي الأورثوذكسيّ ورئيسه وأعضائه، كما وأخصُّ الزميل المحامي فؤاد نقارة "زمبرك نادي حيفا الثقافي"، والجنديّين المجهوليْن الزميل المحامي حسن عبادي وفضل الله مجدلاني .
لقد استغرق هذا الكتاب مدّةً طويلة، وكُتب على مدار ربع قرن ما يقارب ثلثَ حياتي (حياة الإنسان العاديّ)، بعضه نُشر في صحيفة الإتحاد الحيفاويّة، أمّا المواد الأخيرة منه فهي جديدة، ولم تنشر من ذي قبل، وقد تمّ تعديلُ بعضَ ما نُشر، ليتلاءم مع روح نصوص الكتاب والمنهج الذي اتّبعته، ففي البداية رأت دار النشر (مطبعة الحكيم في الناصرة) أن تطبع مئةَ نسخة، تمّ توزيعها على الأصدقاء وبعضِ أفراد "القبيلة" وبعضِ الكتّاب، لاستطلاع واستنباط بعضِ الملاحظات، وبناءً عليها تمّ إجراء بعض التعديلات، وكذلك إجراء طباعة بأحرف مشدّدة على بعض الأفكار الرئيسيّة لإبرازها، بحيث أنّ القارئ الكسلان يستطيع أن يقرأها، فيفهم مضمونَ الكتاب خلالَ ساعةٍ أو ساعتيْن.
وهنا لا بدّ لي من بعض الملاحظات، الأولى تتعلّق بخوف الشارع من الخوض بمثل هذه المواضيع التي يتطرّق لها الكتاب، وكأنّ سكين داعش قد وصلت إلى رقبته أو حنجرته! وهذا هو أحد أهداف هؤلاء القتلة: بثّ الرعب في الناس حتى تصل القلوبُ إلى الحناجر، (على حدّ تعبيرهم في الأدبيّات التي ينشرونها مع أفلامهم المرعبة)، هذا الخوف يتمدّد حتّى إلى التنظيمات الأقلّ دمويّة التي تتعامل بالسياسة، وإلّا فبماذا نفسّر صمت الشارع الأردنيّ، في أعقاب اغتيال الكاتب الصحفي والمفكّر ناهض حتّر؟ بماذا نفسّره سوى الخوف من جماعة الإخوان المسلمين ذات القاعدة العريضة في الأردن؟ بماذا نفسّر أيضًا إحجام أحد تجّار الكتب عن توزيع هذا الكتاب، بعد أن تمّ الإتفاق معه على ذلك، بادّعاء أنّه يأكل لقمة خبزه من الحركات الإسلاميّة، وهو لا ينوي التصادم معها؟ قلنا له: "نوّع يا أخانا، فمجتمعنا بأمسّ الحاجة إلى التعدّديّة، وبأمسِّ الحاجة إلى الحوار".. وهذا ما نقوله الآن في هذه الحضرة وفي كل زمان ومكان !
أنا (وأعوذ بالله من هذه الكلمة) ممّن يؤمنون بنظريّة موت الكاتب، فالكاتب يموت بعد أن يفرغ من الكتابة، ويصبح الكتابُ مُلكًا للناس جميعًا، فمنهم من اختلف ومنهم من ائتلف، لذلك، فالجدل يجب أن يكون مع مادّة الكتاب الباقية، وليس معي ككاتبٍ زائلٍ ولو بعد حين، فاسمحوا لي أن أكلّمكم في هذه الأُمسية من وراء حجاب! اسمحوا لي إن كلّمتكم من خلف حجاب!