ليس سرا ان بغداد في تاريخها المعاصر، لم تكن الا محطة صراعات قاسية ودموية، أوصدت أمامها أي مسار ممكن لحياة تنعم بشيء من الهدوء النسبي، ومعها صارت الرومانسية بوصفها نسقا ثقافيا معارضا للجمود وضد المعايير الاجتماعية والسياسية القديمة، متجسدا في الفنون البصرية، الموسيقى، والأدب عبر استثمار لقوة المشاعر والعواطف، أمرا صعبا، حيال نفوذ قوي للسياسات العنيفة، وحضور أقوى للقيم الدينية والعشائرية المتحجرة والكارهة لقيمة الدولة المعاصرة . وضمن هذا النسق، كانت هناك إنكسارات لوحشية قواه الأساسية : السياسة، الدين والعشائرية، وهو ما عناه عقد الخمسينيات من القرن الماضي، وما حفل به، من تمثلات "الرومانسية"، كصعود قيم الأدب الحديث والفنون الجميلة والنقد العميق .
المطربة مائدة نزهت أواخر خمسينيات القرن الماضي
ومن بين أفانين النغم الغنائي العراقي الذي بدا متمثلا تلك المرحلة النادرة وأفكارها التحديثية، أغنية بعنوان بدا غريبا، لكنه يعني قدرة الثقافة الاجتماعية البغدادية الذاهبة الى التمدن، والإتصال بالآخر، فعنوان مثل "نسمات رومبا وسامبا بغداد"، يعني إتصالا مع أنغام لاتينية كانت حققت شيوعا كبيرا في العالم بعد الحرب العالمية الثانية، مثل "رومبا" و"سامبا".
ناهيك عن رهافة تصويرية لم تكن الأغنية العراقية، وتحديدا في نصها الشعري، قد وصلت اليها، فالنص الذي كتبه حسن نعمة العبيدي، يبدأ :
نسمات من عطر الفجر مرت على شفاف الورد واتمايل الياسمين على الأغصان
والروض مليان بسحر نسمه تجي، ونسمه ترد وتطير حياها وشدا الألحان
وهذا التمهيد التصويري المتمثل لأثر الرومانسية في الأدب والفنون، يذهب تلقائيا وبعذوبة الى جانب تعبيري، ينفتح على صلة وجدانية بالوطن، فثمة النداء الجميل :
ما أجملك يا كون بسمات الشمس تزهي بروابي بلادنا
والنور على الوادي بدى محلاه وكحل عُيون أورادنا
وفي هذا تقارب الكلمات مستوى جماليا من التعبير عن المشاعر الوطنية، دون تلك الحماسة الجوفاء من الغثاثة "الثورية" التي ستنقض على كل ما هو وطني أنيق، والحضور القسري للزعيم السياسي والعسكري ملازما للحرب والسيوف والرايات والمشاعر القومية الكريهة، في الأغنية ثمة غنى جمالي تعنيه الأوطان:
نسمات من عطر الفجر هبت علينا من بعدها بشاير خير على الأوطان
تلك الأغنية النادرة المعبرة عن رومانسية أكثر ندرة في الحياة العراقية المعاصرة، لحنها وفق ذلك المفهوم الإتصالي مع النغم اللاتيني، وديع خوندة، لصوت زوجته المطربة مائدة نزهت، التي تفننت، لا في القدرة على تجسيد تلك الصور المحلقة في افق جمالي واسع، بل في اناقة الاداء، حد انها تبدو وكأنها أتقنت من قبل، أشكال الغناء الغربي، واللاتيني منه على وجه الخصوص .