مُقامي بالأقصُر، وتنقُّلي بين الضفتَينِ، هذه الأسابيعَ، أتاحا لي فرصةَ التأمُّلِ في ما على الفنّان أن يتّبِعه وهو يُقَلِّبُ وجوه العلاقة ، علاقتِه، هو، في ما يحيطُ به، ومَن يحيط .
في مُقامي بالأقصُر، حرصتُ على أن أُفَتِّحَ حواسّي حتى أقصاها : عيناً، وأُذُناً.
لقد بَعُدَ بي العهدُ، ونأت الديار :
أنا منذ عقدَينِ في أوربا المعقَّمة، الكالحة، أوربا الصامتة بأهلِها المغلَقين، وكِلابِها الصامتة .
لا صديقَ، ولا رفيقَ .
حتى أبناءُ ما كان بَلَدَكَ، أمسَوا أحياءَ- موتى، لِفَرْطِ محاولتِهم تقليدَ مَن يعيشون في كنَفِهم .
أقولُ : حرِصتُ على أن أفَتِّحَ حواسّي وأنا في الأقصُر .
أجلسُ في مقاهي الجنيهات الثلاثة، أتملّى الوجوهَ، سعيدةً أو شقيّةً . وأُنصِتُ إلى الحديث العابر، والنكتة اللاذعة .
ألتَذُّ بفصاحة أهل الصعيد، وبقربِ لهجتهم من لهجة البصرة الأولى، قبل أن تُجْهِزَ عليها الهجرةُ والحروب .
في أزقّة البرّ الغربيّ المنحدرة نحو النهر العظيم، ألتقي أطفالاً ونسوةً، وأُدعى إلى كوب شايٍ في هذا المنزل المتواضع أو ذاك .
ثمّتَ غرابةٌ في ملْبَسي، تثير لدى أهل البرّ الغربيّ، سؤالاً عن هويّتي، فيحاولون مخاطبتي بإنجليزيّة العابر . وأتذكّرُ الأخطل الصغير، وهو في طريقه إلى بغداد :
وتَطلّعَتْ زُمَرُ الجنادبِ من فُوَيهاتِ الثقوبِ
يتساءلون عن الفتى العربي في الزيّ الغريبِ
يتساءلون وقد رأوا قيسَ الملوَّحَ في شحوبي
والأغنياتِ على الشفاه مخضّباتٍ بالنسيبِ
*
في الأسواق، بين شارع التلفزيون، والمدينة المنوّرة، هنا في الأقصُر، أجِدُني بين أهلي، لم أصطدمْ بأمرٍ، ولم يصدمْني مَظهرٌ .
حتى توهُّمُ أنني أجنبيٌّ لم يصدِمْني .
ما إن أنطق بالعربية حتى تتعالى الضحكاتُ العذبة !
*
لأدخلْ، بعد هذه الديباجة الطويلة، إلى الفكرة التي تزدادُ إلحاحاً عليّ :
أنا آنَسُ بالناسِ .
لكني أشعرُ بالفزَعِ من " المثقفين ". وإذْ أراجعُ سيرتي أرى أن فترات إبداعي الأكثر امتداداً، هي تلك التي لم ألتقِ فيها بأولئك " المثقفين " :
في الجزائر، بين 1964 و 1971
لم ألتقِ أحداً بإطلاقٍ، لكن تلك الفترةَ كانت لديّ فترةَ غنىً وتجارب، أسفرَتْ عن ديوان " بعيداً عن السماء الأولى".
وفي لندن، حيث أعيش، كالناسك ، في الضواحي، لا أزورُ، ولا أُزارُ؛ كتبتُ بغزارةٍ لم أعهدْها في حياتي، وأصدرتُ " أعمالي" في مجلداتٍ سبعةٍ، تبلغُ صفحاتُها ثلاثة آلاف وخمسمائة صفحة، وهذا يعادل كل المتن الشِعري العربيّ، من الجاهلية حتى القرن الثالث الهجريّ .
والسبب ؟
لم ألتقِ " مثقفين " !
*
في هذه الأيّامِ، أثبتَ " المثقفون " أنهم الأسوأُ، خَلْقاً وخُلُقاً :
هم لسانُ الحاكمين، الظالمين، المتلمِّظُ كلسان الأفعى .
هم لاعقو نعالِ الشيوخِ والشّيخاتِ .
هم الرقباءُ الأشدّ ضراوةً على الفكرِ الحُرّ .
هم الوُشاةُ على أهل القلم النظيف .
هم اللاشيء !
*
صحيحٌ أني لا ألتقي " مثقفين، لكني ألتقي سياسيّين !
السببُ أني أعرفُ، القاعدةَ الذهبَ، القائلة بأن السياسة هي فنُّ الكذبِ .
أعرفُ أني ألتقي كذّابين. هكذا أُحسِنُ التعاملَ مع السياسيّين. أتركهم يكذبون عليّ ويكذبون، لأحلِّلَ ما قالوه، في ما بَعْدُ .
*
أنا مع الناس ...
إذاً : أنا الناس !
أنتم الناسُ أيّها الشعراءُ ...
لكنْ : أين الشعراء ؟
هل أمسى الشعراءُ، هم أيضاً، " مثقفينَ " ؟
الأقصُر 22.02.2017