هكذا مرَّ أسبوعان كاملان ، على مقامي بشارع الملِكة ، في هذه الحاضرة الكنديّة ، تورنتو . مرَّ أسبوعان كاملان ، لكن انطباعي الأوّلَ لا يزالُ أوّل :تورنتو ضيعةٌ شاسعة ، ضيعةٌ ضائعةٌ ، حَمادةٌ بيضاءُ بثلوجها وشجرها الأسود وطيورها السود ، ليس من مَعالمَ أو شواخص ، سوى تلك العمائر التي تكاد تلمسُ السماءَ طولاً. لكن تورنتو حاضرةٌ ، حاضرةٌ كبرى في شِبه القارة الكندية ، و كما ألِفْتُ عليّ أن أتقرّاها بادئاً ، شأن الكسالى ، بأقرب موضع : شارع الملكة حيث أقيمُ في حِمى صديقةٍ كريمةٍ من العراق الذي أعرفُ .أنا غير بعيدٍ عن الكنيسة المارونيّة ومسجد حمزة . أرى البحيرة الشهيرة ، بحيرة تورنتو شبه متجمدة ، وأرقبُ الناسَ من أهل هذا الحيّ الفقير يجرجرون أقدامهم على الثلج الموحل ، لائذين بالمقاهي الفقيرة كأهل الحيّ . في شارع الملكة مكتبةٌ واحدةٌ ، تدعى مكتبة النهر ، مع أن تورنتو ليست على نهر . ربما كان صاحب المكتبة يعني نهر المعرفة . لكن أهل هذا الحيّ فقراء ، لا تعنيهم الكتب كثيراً ، إذ لم أرَ شخصاً يدخل " مكتبة النهر " سوى صاحبها .حانات هذه المنطقة من " شارع الملكة " عتيقةٌ باليةٌ ، يدخلُ فيها أناسٌ شُعْثٌ غُبْرٌ ، مثقلون بالأيام والأسمال .أهل شارع الملكة مغرمون بالكلاب حدّ الولَه . بل لقد رأيتُ كلباً ينتعلُ حوافرَ تقيه لذع الثلج على الرصيف نصف الموحل ! والعجبُ أن كلاب تورنتو لا تُخْرِجُ ألسنتَها : برداً أو ترَفاً !ومن عوائد الناس هنا التعلُّقُ بمخازن المستعمَلات من ألبسةٍ وأدواتٍ ، مع أن المواد قد تباعُ ، أحياناً ، بسعرٍ أغلى من غير المستعمَل ! على أيّ حالٍ ، إن كنتَ في روما فعليكَ أن تفعلَ ما يفعله الرومانيّون : وهاأنذا أرتدي سروالاً وصداراً من مخزن ألبسةٍ مستعمَلةٍ غيرِ قريبٍ !
زرتُ كندا أكثر من مرةٍ ، ذهبت إلى فانكوفر وفكتوريا وكالغاري في مناسباتٍ ثقافية ، وأقمتُ حيناً في مركز " بانف " الثقافي بجبال الروكي الكنديّة ، لكني الآن أرى الحياة اليومية في كندا كما هي ... بين الناس الفقراء .
في شارع الملكة ، ترى شعوباً وقبائل متعارفةً : أناس من التبت وبلاد العرب وإفريقيا والكاريبي وشبه القارة الهندية والصين،
وفي منطقتي من شارع الملكة لا تكاد ترى أحداً من الأنجلو سكسون ، السادة الفعليّين في كندا . لكنني قررتُ البحث عن مظانِّهم ، فأنا قادمٌ من عاصمة الإمبراطورية ، حيث إليزابث الثانية ملكةٌ على كندا أيضاً ! وقد وجدتُ واحداً من هذه المظانّ : حانة رينو ... حيث الروّاد جميعاً من الأنجلوسكسون ، هناك شربتُ مع صديقتي بيرة غينس الإيرلندية مع أصابع البطاطا التي تُدْعى هنا " فرايز " .
بدأ الجوّ يتحسّن تدريجاً
الشمس تطلّ
والبحيرة تلتمع في البعيد.
أنا سعيدٌ!
الجمعة
14.3.2014
تورنتو في الشتاء