نظرات في الموت والحياة من خلال "الرحلة إلى العالم الآخر"
كريمة نور عيساوي
"الشاعر ابن ثقافته"، قياسا على "الشاعر ابن بيئته" وقس عليه كاتبة هذه المجموعة القصصية المائزة موسوعية المعرفة د.كريمة نور عيساوي، اجتمع فيها ما تفرق في غيرها . شاعرة لها مجموعة من الدواوين "صهيل من فلوات الأرواح" و "بقايا امرأة" و "خلف النافذة" و" رذاذ من شفاه البوح". مهتمة بشؤون المرأة، وكاتبة قصة، و لها مجموعة من الدراسات منشورة بمجلات دولية محكمة، ولها في أكثر من منبر مقالات هامة في مختلف مجالات الحياة، هذا فضلا عن تخصصها في علم الأديان المقارن، بحثا معمقا، وتدريسا جامعيا، ومحاضرة داخل الوطن وخارجه، مع اهتمامها بما يرتبط به من علوم كعلم الإجتماع وغيره. فكتابتها الإبداعية ليست كأية كتابة، لا بد وأن يتسرب إليها شيء من خلطة تكوينها الكيميائية هاته . ذلك ما لا يمكن أن تخطئه العين في ثنايا غرز قصصها "الرحلة إلى العالم الآخر" .
ففي قصصها هاته، تقرأ وكأنك تنشد قصائد شعرية بصورها البلاغية البديعة، وبلغتها السلسة الرامزة البديعة . إنها من قبيل ما يعرف في تراثنا العربي بالسهل الممتنع. ما من جملة إلا و تطفح بالمعاني المجازية الجميلة، تضفي على القصص جمالية على الرغم من قتامة مضامينها، التي تتماهى مع تيمة الموت أو ما يحوم حوله . إنها الخيط الناظم بين كل قصص المجموعة، في انسجام تام مع العنوان "الرحلة إلى العالم الآخر" .
فالمجموعة القصصية، بفنية عالية، ترصد مجموعة من الظواهر الإجتماعية . ففي قصتها "شيء من الذاكرة"، علاوة على نهايتها المأساوية، بانتحار الأم مخلفة طفلتين في عمرالزهور، نجد الكاتبة تعكس العداء المستشري بالبلاد المتخلفة، الذي يكنه أفراد أسرة الزوج للزوجة باعتبارها دخيلة عليهم . ففي لاشعورهم أن المرأة تخطف الرجل من حضن أمه وأخواته، في تناقض صارخ يستعصي على الفهم بين الموقف من ابنتهم لما تتزوج. إنهم يريدونها أن تكون أميرة الأميرات، مبجلة في بيت زوجها، على عكس زوجة ابنهم لا ينظرون إليها أكثر من خادمة . وإن كان مع الوعي بدأت مثل هذه الظواهر في الاندثار والتلاشي. فمباشرة بعد وقوع فاجعة الإنتحار في نهاية القصة، تسجل الكاتبة كيف أن الجدة من أمهما حضنتهما بحنو وأخبرتهما بلطف بأن أمهم "انتقلت إلى دار البقاء"، بينما عمتهما تدخلت بعنف، لتصم آذانهم الصغيرة بكلمات صادمة . فبصوت جهوري خشن، وبغضب جامح طفقت تعدد لهم بأن ما أقدمت عليه أمهم فضيحة مدوية ولعنة كبيرة، وأنها لم
تذهب إلّا بعد أن لطخت سمعة العائلة بالعار . وختمت معزوفتها القاسية قائلة :
"لقد انتحرت".
و بفنية عالية تنتقل الكاتبة من زمن الحدث المؤلم إلى زمن لاحق بعيد، كبرت فيه آلاء إحدى بنتي الضحية، أصبحت مهندسة لتبين من خلالها الآثار النفسية التي حملتها معها منذ صغرها، تضطر معها اليوم لتعرض نفسها على أخصائي نفساني .
و بتقنية المتمكن من صرة صنعته، تمزج في تناغم تام بين ما هو محسوس ملموس بما هو معنوي مجرد وهي تتحدث عن الزوج في قصة "أمل" يحاول إقناع زوجته بالعدول عن السفر، فتقول الكاتبة "أمسك برفق البنصر حيث يتربع خاتم الزواج ليقول لها، بعد خمسة عشر سنة كاملة بحلوها ومرها، تتركين كل شيء وراءك .. تدوسين التاريخ والحلم ..
من أجل البحث عن المجهول .. هل نسيت ونسيت وبدون رحمة رميت كل شيء في سراديب النسيان.. أصبح تاريخنا صفحة بيضاء تريدين كتابته من جديد لكن بمفردك". وبعيدا عن مقص الرقيب الذي تحدثت عنه في إحدى مقالاتها القيمة عن الكتابة، و التزاما منها بخطها النضالي العلمي والمعرفي والتنويري من أجل المواطن عموما والمرأة على الخصوص، مما ينم عن انسجامها مع ذاتها في إبداعها كما في حواراتها وكذا مقالاتها، فعلى لسان بطلة القصة تقول بأن قرار السفر لا رجعة فيه "بلد لم يحقق لقمة العيش لأطفاله، وطن تخلى عن أبنائه، وطن لم يوفر الدواء لمرضاه، لا أريده... لقد تعبت حتى الثمالة .. للأسف بلد يأكل كل شيء دون أن يقدم شيئا . لم أعد أتحمل البقاء.. أعطيت الكثير ولم آخذ إلا القليل" .
كلمات معدودات تلخص الوضع في أي بلد، وخاصة إذا كان من البلدان الغارقة في الثروات، ولا يوفر لمواطنيه لا غذاء ولا كساء ولا دواء ولا سقاء، فهل يستحق البقاء فيه ؟
وبجمالية عبرت في نهاية القصة عن الموت على لسان الزوج بقاموس لغوي يمتح من تيمة السفر:
"هل يمكن أن تكون هاجرت "أمل" دون تذكرة ودون طائرة ودون حقائب سفر ؟"
قصة وكأنك تستمع إلى معزوفة موسيقية حزينة في سكون الليل وهدأته . فكلمات القصة معدودة، لكن عميقة تلخص مأساة كل البلاد التي تأخذ من مواطنيها كل شيء، دون أن تقدم لهم أي شيء .
وفي قصتها "الخلايا النائمة" ببراعة ودون السقوط في الخطاب المباشر، تؤكد أن خلايا الإرهاب أشد فتكا بالإنسان من خلايا السرطان. مقارنة عميقة بين الزوج كمال الذي تنخرالخلايا السرطانية جسده، يعد أيامه بالساعات، تعمل زوجته أمنية ما في وسعها لإسعاده مؤكدة له أن الموت محدد بمكانه وزمانه، فإذا بالآية في نهاية القصة تنعكس ليفجع هو بموتها في إحدى العمليات الإرهابية، بعدما قضوا يوما جميلا ببرج إيفل، مرورا بجسر العشاق واقتنائهما قفلا وكتبا عليه اسميهما تأكيدا على حبهما العميق .
الكاتبة لم تكن من مدرسة الفن للفن. فهي تؤمن برسالية الإبداع ودوره في التغييرالمجتمعي، لكن أبدا لا تتسامح قيد أنملة أن يتحول الإبداع الأدبي إلى خطاب وعظي أو إرشادي . إنها بحكم تخصصها العلمي الأكاديمي، وبحكم حسها الفني تعرف جيدا الحدود الفاصلة بين جزر الأجناس التعبيرية وفنون القول فيها . فربما في قصتها "شيء من الذاكرة" تجيب ضمنا، لما ميزت بين موقف الجدة من حدث انتحار ابنتها واحتضانها للطفلتين بحنو وعطف وحدب، وبين موقف عمتهما عن السؤال الفقهي الذي يُمَكّن أم الأم من الحضانه بعد موت الأم . وفي قصتها "الصمت" تضع أصبعها على الجرح قلما ينتبه
إليه الأزواج . فالزوج في القصة لم يكتشف ما تملكه شريكة حياته من جمال، و رقة قوام، وخصلات شعر رائعة، وكيف أنها تمشي على استحياء، إلّا بعد فوات الأوان، بعد أن قرّ قرارها لتضع النقط على الحروف وتنهي علاقتها به . فقد انقلبت حيويتها و نشاطها وما كانت تغمره به من قبلات ولمسات وضحكات صاخبة، إلى أن أصبحت واجمة كمومياء من
عهد الفراعنة بتعبير الكاتبة، بفعل كلمة طائشة منه لما أمرها يوما بالصمت بطريقة فيها منسوب عال من العجرفة والسلطوية .
المجموعة القصصية في الواقع تحتاج لأكثر من قراءة، بمقاربات منهجية متنوعة . إنها تجمع بين صنعة كتابة فن القصة القصيرة بعناصرها المعروفة، وبين مضامينها الإجتماعية الأكثر حساسية . تقول الكاتبة وهي تعبر في قصة "أبي" أجمل تعبير وأرقاه عن الأب بما يليق بكده وجده من أجل أسرته وعائلته "لا زالت صورة أبي تتخطفني تهزني وهو يمسح
عن وجهه التعب بابتسامته المعهودة، ونحن نقف في طابور التحية تقبيل الأيادي نشوة لا تكتمل إلّا بسماع الله يرضى عليك، لا شيء يعادل المساء في بيتنا القديم . لا شيء يعادل شغب أبي في لبنة الأسرة وهو يتوسط عرش مملكته التي شيد أساساتها من عظام شبابه، وبنى طبقاتها من عضلات جسده، وأثث سقفها من خصلات شعره الأبيض، عضلات
اشتدت في ساحات حرب لقمة العيش تسع بنات وزوجة وأخت أرملة .. وريقات سقاها من عرق جبينه . أبي جبل لا تهزه رياح الألم ولا عواصف الوجع.. عرق أبي روح وريحان وجنة قرنفل" .
تعبيرات راقية، وصور جمالية رفيعة تعج بها قصص هذه المجموعة، يصعب عدها وحصرها، لا بد من ترك القارئ الحصيف ليكتشفها بنفسه. إنه اليوم في إطار نظرية التلقي أصبح رقما صعبا، بسلطات واسعة تخول له ملء بياضات النص الإبداعي وفق رؤيته .