ابرز نظرية اصعقت العالم وماتزال تثير صداما عقائديا
نرى الآن الكثيرين، يطبلون ويزمرون للنهضة الموهومة التي قامت بتأثير محمد عبدو وجمال الدين الافغاني متناسين الدعوة العلمية التي قامت بها مجلة (المقتطف) ومجلة (الشمس) حيث اوجدت اكبر يقضة علمية في وقت كان فية الوطن العربي في ثلاجة الجمود العثماني الذي جمد العقول العربية لثلاثة قرون او اكثر.
كانت مجلة (المقتطف) العلمية الزاهرة قبل قرن من الزمن شعلة علمية ثقافية يديرها فارس نمر ويعقوب صروف، اما مجلة الشمس فكانت تأتي بالدرجة الثانية في ايقاض الفكر العربي في دنيا العرب وكان يديرها إسبر الغريب. قبل قرن قام اللبنانيون بنهضة كبرى في مصر، التي كانت هي الأخرى نائمة تحت انقاض الماضي التليد يسيطر عليها الازهر بافكاره . من تراثهم الذي جمده جمال عبد الناصر، كانت جريدة الاهرام هرما في عصر بدأ بالنهوض ومن آثار هذه الثورة (دار الهلال) التي اسسها جرجي زيدان.
عندما كنت في الدراسة المتوسطة، كنت ارتاد مكتبة العشار العامة في البصرة وكنت اقرأ (المقتطف) وربما كانت هي النسخة الوحيدة التي كانت تصل البصرة، كنت اقرأ كل ماهو جديد في العلوم فيها، في وقت كانت فيه الجرائد والمجلات تلوك وتثرثر بالمعلومات وفي وقت لم يكن في اكثر الجرائد مترجمين من الصحف الاجنبية. ومجلة المقتطف الوحيدة التي عرّفت العرب قبل قرن بنظرية داروين في النشوء والارتقاء، كان مقدمها الاول شبلي الشميِّل (1860-1917) وحنا نمر (1900-1964)، ثم إسماعيل مظهر الذي ترجم كتاب داروِن (أصل الأنواع) إلى العربية، ود. محمد يوسف حسن، مترجم الفصلين الرابع عشر والخامس عشر منه بعد وفاة إسماعيل مظهر، ثم سلامة موسى وكان من انصار نظرية النشوء والارتقاء كذلك جميل صدقي الزهاوي، وغيرهم ممَّن كتبوا بحوثًا عدة في تأييد هذا المذهب. وكانت مجلتا المقتطف، والشمس اولى الصحف التي فتحت عيون القراء العرب ( وكانوا قلة ) على مذهب داروِن، حين قال الشاعر اللبناني (تيقظوا واستفيقوا ايها العرب).
كان العالم وخاصة اوربا في نهايات عصوره المنغلقة، مستيقظا على افكار علمية جديدة فارضة نفسها، انطلقت كبركان اذ كان الكثير من الطليعيين غير العلمين لا يستطيعون تصور ان ينقلب القرد انسانا دون تصور نظرية التطور لذا كانت اليقظة قبل ما يقرب من قرنين من الزمن اذ اصدر حنا نمر كتابه عام 1859، موضحا في مقدمة كتابه الالتباسات التي كانت سائدة فقال (إلى جانب إساءة الفهم "للمذهب الداروِيني"، بدأت معارضته وتأييده على نطاق عالمي واسع، وأثار عاصفة علمية لم تستكن، وربما لن تستكين إلى وقت طويل. غير أن صحته العلمية ثبتت في النهاية. فإذا معارضوه يتساقطون الواحد تلو الآخر، حتى لم يبقَ منهم سوى بعض المتعصبين، المتمسِّكين بالأسطورة والخرافة والميثولوجيا في حكايات الخلق وقصصه ونشوء الأنواع وتطورها والإنسان من بينها، بل أبرزها على الإطلاق. وقد كانت الثغرة الخطيرة في حجج المدافعين وبراهينهم قولهم إن القرد هو الذي تحول إلى إنسان، حتى وقع فلاسفة كبار ومفكرون عظام في هذا الخطأ العميق. نذكر للمثال فريدريك إنجلس الذي وضع دراسة بعنوان «دور العمل في تحول القرد إلى إنسان». فهو، رغم صواب كلِّ ما قال به في هذه الدراسة والدقة العلمية التي امتازت بها آراؤه، أخطأ في صياغة العنوان على هذا الشكل، لأن القرد لا يتحول، ولن يتحول إلى إنسان؛ وإنما نظرية النشوء تقول إن "القرد والإنسان" من نوع واحد يسميه حنا نمر "القرسان"، من كلمتي القرد والإنسان. وقد انقسم إلى أنواع، أبرزها اثنان، تطور كلٌّ منهما في طريق، وسار في سبيل مختلف عن سبيل الآخر. وكان من أثر هذا الفهم الخاطئ أن كثيرين ما يزالون إلى اليوم "ولاسيما في بعض الكتب المدرسية والأكاديمية" يعتقدون بإمكانية تحول القرد إلى إنسان إذا توافرت له الشروط الملائمة ذاتها أو المتقاربة للتطور والارتقاء، ناسين أن التاريخ لا يكرِّر نفسه إلا شكلاً، وأن الإنسان، فوق ذلك وعلى فرض إمكانية ذلك، لا يمكنه أن يسمح لنوع آخر بمشاركته السيادة على الطبيعة بعدما تمَّتْ له،هذا إذا افترضنا، جدلاً، إمكانية تكرار عملية النشوء نفسها، كما قلنا؛ فضلاً عن أن الأنواع الكثيرة التي نراها في الحيوان والنبات كانت من منشأ واحد؛ وقد تعددت وتنوعت واختلفت كمًّا وكيفًا، عبر عملية تطور طويلة جدًّا وقصة نشوء قاسية امتدت عشرات وعشرات الملايين من السنين).
يجب الالمام بما كان سائدا قبل حلول نظرية أصل الأنواع التي جاء بها تشارلز داروِن عندما وضع أسُسا إن لم تكن نهائية، وانما كانت شبه نهائية، فقد أصدر لامارك كتاب (فلسفة الحيوان) عام 1809، ثم كتابا آخرا (التاريخ الطبيعي للفقريات) ، معلنًا مبدأه في أن الأنواع ومنها الإنسان نشأت من أنواع أخرى. وتلاه علماء كثيرون في الاتجاه نفسه، بينهم سانت هيلير، وكيسِّرلنغ، وويلز، ولايل، وهربرت، واكثر من عشرين كتاب بارزين في علوم الحياة والفلسفة وغيرهم من العلماء الذين سبقوا داروِن أو عاصروه. وكان جدَّ دارون الطبيب إراسموس داروِن، من مؤيِّدي بوفون في آرائه. وعندما ظهر كتاب داروِن في (أصل الأنواع) عام 1859، تأكد المذهب نهائيًّا، وثبت وأُقِرَّ وبَطُلَ كونه فرضيةَ نظريةٍ، آخذًا صفة القانون الطبيعي الثابت والمعترَف به علميًّا وفلسفيًّا. وكانت أبرز حقيقة في ذلك أن الإنسان مركَّب، مثلما هي عليه الحيوانات الثديية. فالعظام والعضلات والأعصاب والأوعية الدموية والأمعاء والدماغ لها مثيلاتها في القرود والشمبنزي أو الخفاش وغيرها. وقد أعلن مؤيِّدو المذهب، كالعالم التشريحي هكسلي وغيره، تشابُه دماغ الإنسان ودماغ الحيوانات العليا المتطورة؛ وكذلك منكرو المذهب، مثل بيشوف وسواه، حيث قالوا إن كلَّ شقٍّ وكلَّ ثنية من دماغ الإنسان موجودة في دماغ القردة الأورانغ أوتان؛ فهي تشبَّه الإنسان شكلاً وسلوكا. ويسمَّونها (إنسان الغابة). ومما قاله هكسلي إنه في ازمان متأخرة من تطور جنين الإنسان تظهر الانحرافات المميِّزة له من جنين القرد، في حين أن جنين القرد ينحرف عن جنين الكلب في تخلُّفه بمقدار ما ينحرف الجنين الإنساني عن جنين القرد. هذه الحقائق انما هي حقائق ثابتة يؤكدها الاستقراء. ويتسائل هكسلي (هل يلَّد الإنسان بطريقة تختلف عن طريقة نمو اجنة الكلاب والطيور والضفادع والأسماك وغيرها من الفقريات ؟) ثم يؤكد أن طريقة نمو الاجنة البشرية، خاصة في المراحل الجنينية الأولى، مماثل تمامًا لأسلوب النمو الجنيني عند الحيوانات الأخرى التي هي أدنى منه على سلَّم التطور والارتقاء، وأن الإنسان أقرب إلى القردة من قُرب القردة إلى الكلاب فالشقَّة بين القردة والكلاب تتسع، وبين القردة والإنسان تضيق.
أما العالم بيشوف رغم كونه احد معارضي مذهب داروِن فلا يرى بدا من الاعتراف بـ (إن تلافيف الدماغ في جنين البشر في الشهر السابع يكون، من حيث النمو والتكوين، مماثلاً لدماغ القردة المعروفة بالجيبون عند بلوغها). تاثر تشارلز داروِن بما وضعه في 1813 وعلق عليه ويلز فيما جاء في كتاب داروِن عن (الانتخاب الطبيعي)؛ ثم تبعه ماثيو في عام 1831. من آراء حول الانتخاب الطبيعي؛ إلا أن نظرياتهما بقيت لاكثر من نصف قرن مجهولة تقريبًا لمجموعات التاريخ الطبيعي، حتى جاء كتاب أصل الأنواع لتشارلز داروِن في العام 1859، فعُرِفت نظرية النشوء والارتقاء على نطاق واسع، فاحدثت انفجارا هائلا بين اصحاب مذهب القيم الموروثة في (الخلق) من الكتب المقدسة، فراحوا يحاربون النظرية بلا هوادة وبجميع الوسائل. وحينما نشر مؤلَّفه (تحدُّر الإنسان) في عام 1871 حاولوا تسخيفه بكل الطرق لكن دون جدوى. الواقع ان العالم (وولاس) كان قد توصَّل إلى النظرية قبل ان ينشر داروِن كتابه بسنة واحدة، أي في 1858 إلا أنها في الأخير نُسِبت إلى داروِن واقترنت به لأنه وضحها حين كتبها في 1842، وقدَّمها لبعض المؤسَّسات العلمية المتخصِّصة.
لعل عدم فهم النظرية الارتقاء يعود إلى صعوبة بعض تعقيداتها. وقد كتب داروِن في 1861 إلى أحد مراسليه الكثيرين يقول (إنك تفهم كتابي! هذا أمر قلما وجدته عند الذين ينتقدونني) وقال هكسلي في 1888 (إن كتاب أصل الأنواع من أصعب الكتب استيعابًا)، رغم مرور ثلاثون سنة على على صدوره آنذاك، وما زال الكثير منال مفكِّرين آنذاك بعيدين عن تفهُّم حقيقة المذهب والنظرية. واعلن العالم هوكر صراحةً أنه من أصعب المؤلَّفات قراءةً، إذا شاء الإنسان الإستفادة منه إستفادة كاملة حقيقية. ذلك في الغرب اما نحن في الشرق فرغم التعريف به من مجلة المقتطف قبل ما يزيد على القرن من الزمن فان امره مازال طوطما والداروِينية ليست مشجعة في التدريس ومن الطبيعي ان الازهر يزدريها حيث لايزال قادة الازهر يرفضون كون الارض كروية. (داروين لم يكن فظا في قوله باننا سليلوا القرود، بيد انه لم يذهب اكثر مما قال) هذا ما قاله (فرانس دي وال) العالم في حياتية القرود من جامعة ايموري الاميركية، ثم اضاف يقول (نحن قرود في كل النواحي ابتداء من اذرعنا وارجلنا الطويلة وفقداننا للذنب وعاداتنا وطبائعنا).
الانسان في 96% من مورثاته (الجينات) تشابه مورثات قرد الشمبنزي، ولكن لماذا يختلف الانسان عن اخيه قرد الشمبنزي. ان دماغ الانسان اكبر ثلاث مرات من دماغ قرد الشمبنزي ودماغ الانسان اكثر تعقيدا من دماغ قرد الشمبنزي. هذا ماقاله (ديفد هوسيير) من جامعة كاليفورنيا في دراسته للخارطة الوراثية للانسان والخارطة الوراثية لقرد الشمبنزي.
المبدأ القائم في الداروينية هر ان التطور آت من القفزات البايولوجية Mutation ، والقفزات البايولوجية في المعنى الدقيق غير موجودة لكنها نتاج تطورات صغيرة متلاحقة عبر العصور والدهور فهذه التطورات الصغيرة وهي (تراكم تغييرات ACCUMULATION OF VARIATION) فالاعضاء في الانسان لم تكن على حالها يوم انفصل عن الشمبنزي فاليد مثلا كانت اقل تخصصا في العمل في عهود الانفصال من الشمبنزي بل اخذت في التطور الى ان اصبحت يد الانسان يداه الحالية وهذا الامر لم يحدث بطفرة بل بتراكم تغييرات حدثت عبر آلاف ألاف السنين.
في الغرب هناك فئات دينية تعارض الداروينية فجائت بنظرية التصميم الذكي intelligent design خاصة في الولايات المتحدة الامريكية، هذه الفئات لا تنفي فكرة تطور الكائنات بل تؤيّدها (لان التطور تويّده كلّ الاكتشافات التي وجدها الانسان من خلال الاحافير المتحجرة Fossils وادلة اخرى مثبّتة علميا) وتختلف فئات التصميم الذكي مع الداروينية في انّ محرّك آلية التطور هو المصمّم الاعظم (الله الخالق). ومن باب الدعابة المعاضين يدعون (أن أذكى قرد هو أكثر بلاهةً من إنسان ابله ؟) ولو قال هنا احدٌ بان الانسان مخلوق خلق من الطين لاصبح اضحوكة للناس بعد ان اصبح التطور من الثوابت العلمية الي لا جدال حوله. وتحاول هذه الفئات جاهدة الى تثبيت فكرتهم في الكتب المدرسية. وعكس ذلك نجد ان الازهريين يصرّون على ان الانسان مخلوق من الطين ثمّ نُفخ الروح فيه, ويصرون على ان نظرية التطور جاء بها الملحدة.