نظريات وتاريخ العمارة

2014-09-24
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/e06dedac-612d-41ba-8ba5-e4ec928cdd73.jpeg
 يتساءل بعض الدارسين في أقسام الهندسة المعمارية  والتخطيط العمراني، وكذلك غيرهم من غير المتخصصين بالعمارة : لماذا نقوم بتدريس مقررات تاريخ ونظريات العمارة في عصورها المختلفة، رغم أننا في خطاب عقلنا البحثي، نسعى للتوصل الى أفكار تصميمية معاصرة، نابعة من واقعنا الأجتماعي والبيئي الراهن ؟ . ولا أخفيكم بأن أحد عمداء كليات الهندسة لدينا ( وهو من تخصص هندسي آخر )، حاول أن يؤثر على هيئة أعضاء قسم العمارة في كليته، طالبا منهم أن يرفعوا المقررات التي تخص تاريخ ونظريات العمارة من المناهج المقررة  ..
سأحاول أن أجيب على هذا السؤال بقدر ما وفرت لي خبرة أكثر من أربعين عام في  المجالين، الهندسي والأكاديمي من معرفة .
تقوم منطقة الأنطلاق بأي فكرة تصميمية في العمارة أو في غيرها من المجالات التصميمية على شبكة من المرتكزات التي تتفتح على شتى العلوم والمعارف والفنون، وتقف في مقدمتها الفلسفة بتكوناتها المركزية الأصيلة، وهي تشتغل على تمتين آواصر العقل وتسنده بطاقة معرفية ذات ضبط منهجي ورؤيوي عالي، وتحقق له بعد النظر وسعة الأفق وحيوية التفكير، وأصالة الموقف. وربما من دون التأسيس الفلسفي لحدود منطقة النظرية المعمارية، فإن الفكرة التصميمية لأي مشروع معماري سيفتقد أساسا متينا من أسس تكوينها وبنائها، وقوة فعالة من قوى العمل على مقاربة التخطيطات الأولية للفكرة التصميمية التي إعتمدت أصلا في تشكيل الفكرة على معين فلسفي، على النحو الذي يستحيل إدراك عمقها الفكري وقيمتها ورمزيتها من دون حضور طاقة تفكير ذات بعد فلسفي يكون بوسعه حل شفراتها، وتحليل تحميلاتها الفلسفية المتنوعة .
لقد أفرزت التغيرات المتسارعة التي مرت بها المجتمعات العربية ظواهر عمرانية غريبة عن رؤية المجتمع وتطلعاته، ففي حين كانت هناك رغبة على المستوى السياسي لتحديث المدينة العربية، لم يواكب ذلك تحديث حقيقي للبنى الإجتماعية،  وهذا بدوره دفع كثيرا من المخططين (العمرانيين والإجتماعيين) لإثارة هذه الإشكالية.
في كل عمل إبداعي ( والهندسة المعمارية من أكثر الأعمال تمثيلا للإبداع ) ينهض العقل البحثي على" رؤية " تناسب طبيعته وتكوينه وخصب مرجعياته فالرؤية رهينة دائما بأسس التكوين المعرفي والفلسفي للعقل، فحين تكون هذه المرجعيات ذات طبيعة ناريخية وتراثية رصينة وأصيلة تتزيّا الرؤيا بهذا الأفق وتتحلى بمضمون هذه المرجعيات، ويمكن أن يصطلح عليها ب " الرؤية التاريخية التراثية " التي يتفتح فيها العقل البحثي على مكامن التراث الأصيلة ومضامينه الغزيرة، حيث تسعفه الرؤية في النظر الصحيح  والتعامل الأصيل والرصد الموضوعي للإبداعات والظواهر والقيم التي يختزنها هذا التراث . ويجعل منه مادة أساسية يصوغ منها وبها جزءاً من رؤيته الراهنة التي تحتاج إليها النظرية . وحين تكون الرؤية حداثية فهذا يعني أن المرجعيات الفلسفية تكون في أعلى كفاءة إشتغالها في التكوين والتأسيس، فضلا على شبكة المعارف الحديثة التي ينبغي أن يكون لها حضور أصيل في جوهر هذه الرؤية، وفي الوقت نفسه تكون هذه الرؤية مطلعة إطلاعا جيدا على التراث بوصفه الحاضنة الأساسية للمعرفة عموماً، على أن نفرق هنا تفريقاً علمياً ومعرفياًعالياً بين " المعرفة القديمة والمعرفة الحديثة " .
ولابد من التمييز هنا في إطار تحديد مفهوم العقل البحثي الخلاق بين المعرفة التراثية والمعرفة الحداثية، وبين المعرفة القديمة و المعرفة الحديثة، فالمعرفة التراثية معرفة مهمة وضرورية لا  بدّ منها بوصفها تاريخاُ حياً للذاكرة الشعبية والثقافية، إذ لا يمكن لمعرفة حديثة أن تقوم من دون إستيعاب المعرفة التراثية وتمثلها وإعادة إنتاجها، وهي تختزن ماضي الأمة وتاريخها الثقافي والرؤيوي، ولابد في السياق نفسه / المعرفة الحداثية التي عليها أن تواكب العصر وتنهل من معارفه غير المعروفة داخل ميدان المعرفة التراثية، من أجل إحداث نوع من المواءمة المطلوبة بين المعرفة التراثية المضيئة والمعرفة الحداثية الخلاقة، لدعم زؤية الفكرة التصميمية النظرية  في العمارة، وهي الرؤية الراهنة التي يعتمها هذا العقل في تشكيل مناخه النظري الذاهب الى حقل الإجراء التصميمي . أما العلاقة التقليدية الصراعية بين بين المعرفة القديمة والمعرفة الحديثة فهي مختلفة عن العلاقة بين المعرفة التراثية والمعرفة الحداثية، فالمعرفة القديمة معرفة منتهية الصلاحية وأصبحت بحكم القدم المعرفي التقليدي لا تصلح للعصر الحديث وقد جاء بمعرفة  أخرى لها صلة وثيقة بمفهوم العصر وتقاناته وحاجاته وضروراته وقيمه وحساسياته، لذا أصبح بحكم الإلزام المنطقي ترك المعرفة القديمة واللجوء الى المعرفة الحديثة ذات القيمة المعرفية العالية في ضوء معطيات العصر ومتطلباته المتنوعة والمتعددة
على هذا الصعيد يمكن فهم صورة المنهج وآليات إشتغاله في ضوء إدراك الرؤية بمعناها المتعدد آنف الذكر، فالمنهج يستجيب لطبيعة الرؤيا – شكلاً وجوهراً- ويحقق متطلباته في توفير طبيعة منهجية خاصة تتفاعل مع الرؤية تفاعلاً موضوعياً منتجاً، فالرؤية  التاريخية والتراثية تختلف في مناهجها عن مناهج الرؤية الحداثية إختلافاً جذرياً، وإذا ماكان الأمر يتطلب تحديد الرؤية  أولاً فإن تحديد المنهج يأتي ضرورةً على وفق ذلك، على النحو الذي يجعل المناهج الحداثية قابلة ومؤهلة لإرتياد مناطق الرؤية  التاريخية والحداثية والحفر في مساحتها  ومن ثم إنتاج القراءة المطلوبة التي تحتاج إليها هذه الرؤية  .
إن تجاهل الأتجاه الثقافي ببعده الإجتماعي عند تطوير أو التعامل مع البيئة الحضرية قد يفرز تناقضا عميقا بين التكوين الفيزيائي لها وبين ثقافة المجتمع الحقيقية، وأثار أزمة الهوية العمرانية  كإحدى القضايا الملحة التي يفترض معالجتها في المدينة العربية المعاصرة .
إن مناهج المعرفة التاريخية والتراثية هي مناهج سياقية محدودة تناسب وضع هذه المعرفة التي هي بحكم الزمن معرفة ليست متعددة ولا متشعبة، بحيث لا تحتاج الى مزيد من المناهج تتعدد في أنساقها وتتنوع في معطياتها . لذا كانت مناهجها ذات طبيعة تقليدية واضحة المعالم على صعيد مرجعياتها النظرية وإجراءآتها التطبيقية، في حين تنوعت المناهج الحداثية تنوعا شديدا وعالي المستوى، من أجل إستجابة قصوى لتنوع رؤيتها وتعددها وإنشطارها المعرفي، لذا تكاثرت هذه المناهج وتعمقت بسرعة كبيرة، وأصبح بذلك على غير المتخصص الإحاطة بها وملاحقة إنجازاتها، إذ هي ذات محمولات فلسفية ومعرفية وعلمية عميقة ومعقدة تناسب عمق المعرفة الحداثية وعلميتها ومعرفيتها وتعقيدها، ولا بد لها من عقل بحثي يوازي عمق رؤيتها المتعددة والواسعة، وطبيعة إجراءاتها التي تنهض على قوة وعي وإدراك وشمول في النظر والمعاينة والرصد والتحليل والتأويل . لكنه مع ذلك ثمة مشكلات منهجية كبيرة في هذا الإطار ينبغي مراجعتها والنظر المعمق فيها وتحليلها، من أجل فهم دقيق للرؤية المنهجية التي أرستها طلائع المناهج النقدية الحديثة خاصة، وطبيعة هذه المناهج النظرية وحساسية إجراءاتها في ميدان التطبيق على المشاريع الأبداعية . لأن عدم إلقاء الضوء الكافي عليها، يبقي الكثير من طبقاتها طي الغموض والشك والألتباس وسوء الفهم، ويوفر فرصة كافية لنقدها نقداً عاماً من دون فهمها والسعي الى الإفادة منها وتطويعها لخدمة التوجهات النظرية المحلية .
ونستطيع أن نجزم  بأن المنهج التاريخي يستخدم في دراسة كثير من الموضوعات والمعارف البشرية حيث يعد التاريخ عنصر لا غنى عنه في إنجازات الكثير من العلوم الإنسانية وغير الإنسانية فكثير من الدراسات للظواهر الاجتماعية حتى يتم فهمها يحتاج ذلك إلى دراسة تطور تلك الظواهر تأريخياً ليكتمل فهمها. ويعتمد المنهج التاريخي على وصف وتسجيل الوقانع وأنشطة الماضي ولا يقف عند هذا الحد بل يتعداه إلى تحليل الوثائق والأحداث المختلفة وإيجاد التفسيرات الملائمة والمنطقية لها على أسس علمية دقيقة من أجل الوصول إلى نتائج تمثل حقائق وتعميمات تساعد في فهم الماضي والاستناد عليه في فهم الحاضر من اجل التنبؤ بالمستقبل. فالمنهج التاريخي له وظائف رنيسة تتمثل في التفسير والتنبؤ وهو أمر مهم للمنهج العلمي الذي يتبعه المخططون الحضريون والمعماريون .
 حيث تكمن أهمية إستخدام المنهج التاريخي في البحث في أنه يقوم من خلال دراسة الأحداث المعاصرة والإتجاهات المستقبلية في ضوء ما حدث في الماضي وذلك بتقويم حركة التغيير أو التقدم أو فهم للمشكلات المعاصرة وإمكانية التنبؤ بها قبل وقوعها وبذلك يحقق المنهج التاريخي الاستفادة من الماضي من أجل التنبؤ بالمستقبل والاستفادة من الحاضر لتفسير الماضي. والأسلوب العلمي لمحاولة الوصول إلى الحقيقة هي ميزة يتصف بها البحث التاريخي طالما أن الخطوات التي يمر بها هذا النوع من البحوث لا تختلف عن الخطوات التي تستخدم في مناهج البحث بصفة عامة وأن كانت البحوث التاريخية لا تعتمد على جمع البيانات على الأفراد بل تبحث عن بيانات موجودة من قبل.
كما أن البحث التاريخي يسهم بالكشف عن فرع معين من الحقائق, وتتعلق بجهود الإنسان ومنجزاته في الماضي, وبصورةٍ أدق أن التاريخ هو العلم الذي يحاول الإجابة عن الأسئلة التي تتعلق بما بذلته الإنسانية من جهودٍ تنصب في المعرفة العلمية عن الماضي الإنساني. إضافةً إلى ذلك التأكد من صحة حوادث الماضي بوسائل علمية والكشف عن أسباب الظاهرة بموضوعية في ضوء ارتباطها بما قبلها أو بما عاصرها من حوادث وربطها بالظواهر الأخرى المتفاعلة معها. وتبرز أهمية المنهج التاريخي في كونهِ يُستخدم في حل مشكلات معاصرة على ضوء خبرات الماضي, ويساعد على إلقاء الضوء على اتجاهات حاضرة ومستقبلية" والتعرف على تاريخ وتطور النظم وعلاقتها بالنظم الأخرى والبيئة التي نشأت فيها مع معرفة تطور المشاكل وحلولها السابقة ودراسة سلبيات وإيجابيات هذه الحلول. كما يساعد على إلقاء الضوء على اتجاهات حاضرة ومستقبلية . ويهدف المنهج التاريخي التأكد من صحة حوادث الماضي بوسائل علمية. والكشف عن أسباب الظاهرة بموضوعية على ضوء ارتباطها بما قبلها أو بما عاصرها من حوادث. وربط الظاهرة التاريخية بالظواهر الأخرى الموالية لها والمتفاعلة معها.
      أتمنى أن أكون قد وفقت بالإجابة .
 
د.هاشم عبود الموسوي

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved