وداعا مظفر النواب*..ترجلت اليوم من على صهوة جواد الشعر.. بعد أن اخترَقَتْ كلماتُك سجوف الصمت والرداءة.. وزلزلت عروش الحكام العرب ,
“سرت في اتجاهك العمر كله، وعندما وصلت، انتهى العمر”.(الشاعر الراحل مظفر النواب
لكي نتعرف على خصوصية وجذور شعر مظفر النواب فاننا بحاجة للرجوع إلى قصائده الأولى، وقد وجدنا أن إإحدى قصائده لم تنشر غير مرة واحدة، ولكنها رغم ذلك تحمل الكثير من هذه الخصائص والجذور فقد نشرت مجلة الطليعة الكويتية لسان حال حركة القوميين العرب بعددها الصادر في السابع والعشرين من نيسان عام 1974 ولاول مرة قصيدة الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب التي تعتبر من ارقى قصائد الاستشراف الميداني للواقع العربي الذي سيحصل بعد سبعينات القرن الماضي اضافة إلى اعتبارها إحدى قصائد الشاعر القريبة من قصائد جيل الرواد في الشعر الحديث الذي برز من جيل بدر شاكر السياب والمغذى بجمال قصائد بلند الحيدري ..
وقد يرى الكثير أن ما بين مظفر وجيل الرواد بعداً زمنياً عداأان أحداث قصائد جيل الرواد لم تكن حادة وثورية كما هي في شعر مظفر، هنا لا بد من التنويه أنني سوف لن أبحث في عموم شعر مظفر النواب حتى يتحتم على المقارنة بين ذاك الجيل وشاعرنا بقدر قصيدته عروس السفائن ..
وقد اهتم الشعراء بالتعبير عن واقع الأُمة العربية حتى اضحت القصائد تروي لنا قصة مملوءة بصورة الواقع السياسي والاجتماعي الذي يكتب فيه الشاعر قصيدته .
ويتميز النواب بحدة ومأساوية ذلك مركّزاً على دور السلطة في ذلك .
ووسط تردي واقع الامة وانتكاساتها التي تعاقبت بعد هزيمة حزيران 1967 وما ترتب عليه الوضع اهتزت مشاعر شاعرنا النواب…
ومن كان يظن ان أُممية مبادئ مظفر النواب تبعده عن احساسه العروبي فتلك حسابات خاطئة واتهامات باطلة لذوق وخلق الشاعر الذي اعقب قصائده بعد عروس السفائن بالكثير من القصائد ذات البعد التعبوي لجماهير الشعوب العربية وتحفيزها ضد حكامها بإعتبارأن الملوك والرؤساء العرب هم المسؤولون عما جرى ويجري حتى الان ..
وهذا ما عنيته أول الأمر بالقول أن هذه القصيدة استشرافية لواقع حدث وسيحدث..
ــ عروس السفائن الصقت ظهري الكسير على خشب الشمس فيك
ــ حريصا على الصمت
ــ مدمي من الناس في البر استنجد البحر
ــ ان الحروف ــ المخالب في غيبتي
ــ نهشت ما تبقى من الصبر في مضغة القلب
ــ فلتقلعي يا عروس السفائن جهرا ..
ــ فما عدت احلم بين انتكاس الرؤوس ..
ــ اذن دارت الشمس دورتها , وارتأتني الرؤى .. نائما تحت
ــ الف شراع …
ــ مجوسية قصتي معبد النار فيها .
ــ وقلبي على عجل للرحيل .
ــوقلبي على عجل للرحيل ..
اذا كان معتاداً ان يبدأ أغلب الشعراء بقصائدهم بالتغني والتغزل بحبيبة القلب ثم تفتح قريحتهم على واقعة القصيدة .. فإن مدخل النواب كان أنينه وتعبه مما يجري حوله من أحداث رغم أن مأساته الشخصية في ابتعاده القسري والذي صار فيما بعد اختيارياً وبعداً عن الوطن كان يجب أن يهزه ويبكيه فيما هو عليه من ألم الواقع العربي ..
واختيار الشاعر لأداته البحر والسفينة في الانطلاق بهذه القصيدة كان لغرض مصالحة نفسه لنفسه .. ولأن ذلك يبعد القصيدة عن المباشرة ويجعل صورها أكثر حسية وأقرب للرمز والإيحاء
اذ يقول ..
ــ بعيدا عن الزمن المبتلى يا سفينة !
ــ ان قليلاً من الوزر امتعتي المزدهاة
ــ ولن تثقلي بالقليل ..
ــ سأُبقي المصابيح موقدة في بهاء الصباح، مصالحة بين صحو الصباح وصحوي
ــ وأُبقي الرياح دليلي ..
ويستمر مظفر في التغني بوحدانية أحزانه وأنينه على واقع يهز مواجعه حتى تستصرخه روحه إلى صياح ومناداة اليمة ..
يستصرخ البحر الذي ركبه وسفينته المفترضة تخيلاً او قد تكون حقيقة ذلك أن الشاعر قضى أغلب حياته متنقلاً أثقلته أنظمة الردة وجراحه منها.. كما يقول في إحدى قصائده ..
(( واه من العمر بين المقاهي لا يستريح
أرحني قليلا فإني بدهري جريح ))
يتواصل أنين الشاعر في عروس السفائن صارخا من الألم ..
ــ ساصرخ يا بحر.. يا بحر ! يا رقص ! يا رب !
ــ يا عتمات
ــ زحار بكل التقاليد، هذا هو الوقت .
ــ فلتعصف الأزمات
ــ أم القوم ماتوا . ــ هو الإنفلات المدمر آت دويا يغذي دوياً ,
ــ كأن المقادير جاءت لها عجلات ..
ــ سينتكس الكون مما ستلقي البراكين من حمم .
ــ او تكون الحياة ..
واذ تبدء أوجاع الشاعر في تحديد الأنظمة التي اتخذت الثورية سلوكاً مضاءاً لها .. فنراه يبكي على واقعة جعلها مقدمة لمقطع الدخول إلى تشخيص الأنظمة المعنية بالصراع حيث يبدء من سوريا ..
(( في مدينة كذا القريبة من دمشق، وبتاريخ كذا … منع دفن طفلة من اللاجئين في مقبرة المدينة .. لأنها من اللاجئين .. ثم دفنت برشوة ))
ــ الا فلينهض المعدمون الصعاليك . قد أوغل الأغنياء ..
ــ لقد منعوا دفن طفلة من اللاجئين , لئلا تدنس بغريب ارض الشام .
ــ فليسمع العرب النجباء
ــ لقد كان في الفجر.
ــ في مطر الفجر.
ــ في شجر الفجر .
ــ اذ منعوا دفنها .
ــ عرق الفجر .
ــ فليعرق الفجر .
ــ شاهدة عرقت .
ــ ينطق الطين لو ينطق الطين .
ــ لكنها الارض ملك لرب العباد ..
ــ وهذه الجنازة اصغر من اصبعي. ــ انما رفضوا
ــ كلهم رفضوا
ــ لا ليس عهدي باهلك يا شام هذا ..
ويرحل شاعرنا المهاجر على اجنحة الضيم وحرمان الحنين للوطن,يرحل الى مصر باكيا ويخاطبها برمزها الالهي..فرعون..ذاك الذي عصى ربه وكان جبروتا واهرامه الشاخصة عبر العصور رمزا لحضارة مصر ..
ــ افرعون اسرع
ــ يا من تخلد اهرامك الموت
ــ اسرع !
ــ هناك من يبتني هرما للمخازي
ــ تقزز وجه الالهة , والهب ظهر الجياد
ــ سياطا .. واقرصها
ــ صمت
ــ قف ايها السادن الابدي
ــ فمن يملكون السدانة قد سرقوا شعب مصر
ــ زوروا شعب مصر ,
ــ وقعوا باسم مصر , ومصر براء ..
وحتى نأتي الى بنيوية القصيدة وموسيقاها وتفعيلتها لابد ان نتواصل في مسك ختامها حلم الشاعر الذي اختاره قسرا واختيارا ذاتيا ..انه العراق،لقد امسك النواب بوابة العراق من نجومه وهو على ظهر سفينته وفي بحره اللجي
ــ عروس السفائن ! ادعوا النجوم الى قمرتي , فأنا الان اولم نذرا
ــ والبس ابهى ثيابي .
ــ فقد كنت عند نحيل العراق
ــ وان كان حلما
ــ وكان العراق على مهره عاريا مثلما ولدته السماء
ــ وكان على عتبات العراق , الفضاء .
ــ وبين ضلوعي , فضاء به نجمة لست أدري بماذا تضاء ..
ــ وفي نجمتي تلك يجتمع الله .. والأنبياء ..
وفي فضاء جفاء الشاعر مع عشقه العراق تحتشد في صدره غيوم كثيفة سرعان ما تزيحها آمال أي شاعر حالم , وما أجمل من حلم يحمله مظفر النواب لبلده بقوة الشاعر الثائر ..
ــ ايا وطني ضاق بي الإناء
كأن الجمال، بليل الجزيرة سوف يطول عليها الحداء
ــ كأن الذي قتل المتنبي، لشعري ابتداء
ــ لأمرٍ يهاجر هذا الذي اسمه المتنبي
ــ وتعشقه بالعذاب النساء
ــ وما قدر أنه في الجزيرة يوماً، وفي مصر يوماً
ــ وفي الشام يوماً
ــ فارض مجزأة ,
ــ والتجزء فيها جزاء
ــ عروس السفائن كل على قدر الزيت فيه يضاء ..
مظفر النواب في عروس السفائن تعدى في صياغته الشعرية موضوعه المعتاد فباتت العناية باللغة الشعرية متلازمة لموضوعه السياسي وقد تقدم في استشرافه لواقع حال الأُمة في لغة ثورية لازمته طويلاً وطويلاً حتى في ما بعد قصيدته هذه، اذ كانت هذه القصيدة بمثابة الأساس لقصائده اللاحقة، وكـــأنها قد زرعت نفسها في مسيرة النواب للعشر فضلاً عن ذلك السفر في روح القصيدة فقد ظهرت تاثيرات احساسه القومي رغم إيمانه باممية القضية التي ناضــــــل من أجلها عبر سني حياته .
ولم يكن ظاهراً في موسيقى القصيدة أي اضطراب الذي غالباً ما يقع فيه شعراء القصيدة الحرة الطويلة ..
مظفر النواب يكتب من خارج فلول الكتابة، إنه مهندس على المادة الورقية حيث يسور قصائده بقسوة التحدي، والتمرد، والمواجهة، والثورة.. إنّ الكم الكبير من الاستلاب المتماهي في قصائده يجعل القارئ يعيش ارهاصات وجدانية وتاريخية مجمعة في المادة الشعرية من صور وتشظي وانبناء وانسحاب.. الشعر يشبه الوحي، هكذا تقول قصائده، فهو يصدر عن رؤية ورؤيا وكلاهما ضرب من ضروب الإمتداد الانثروبولوجي . فجمالية الاستلاب في شعر مظفر النواب تتأصل في انغراس معطياتها وافرازاتها في أعماق تاريخ المعارضة السياسية والتاريخية العربية الرافضة للاستبداد والقاطعة مع القمع وحكم البوليس السري . لقد سربل النواب ذاته بعباءة ظاهرها المبدع وباطنها الثائر المتمرد .
فالاستلاب ليس في واجهة قصائده فحسب بل في ذاته الفردية والجماعية، يعبر عنها من خلال فلسطين والعراق وليبيا واليمن.. إنها حالة عشق، يدافع فيها الشاعر العاشق لقضايا الناس عن المفقود والمنشود، لأنه تواق لبلوغ انسانية هذه الأُمة الممزقة . انسانية لا وازِع لها إلّا الضمير، يسعى من خلالها لثورة عارِمة على العادات البالية والتقاليد الاجتماعية الساذجة والروح الهدّامة . ويناضل لظهور كل شيء للعلن، فهو يعلن الهزيمة داخل النصر، ويعلن النصر من داخل الهزيمة، فلا حال مستقر عنده، وهنا تكمن حقيقة الاستلاب الذي يعيشه الشاعر إنساناً ومواطناً وسياسياً وعسكرياً… يعيشه طفلاً ورجلاً وامراة وشيخاً… والاستلاب خوف ووجع ووطن في قصائده،
ختاماً، لم يكن إعلان اسم مظفر النواب مرشحاً لجائزة نوبل للآداب ثم فوز الكاتب البريطاني من أصل ياباني كازو ايشيغورو سوى مواصلة لحالة الاستلاب التي يعيشها الشاعر، ولو سنحت الفرصة بعيداً عن الموضوعية المطلوبة لقلت : مظفّر النواب لا يمكن أن يحيا دون استلاب.
لكنه سيعيش اليوم في قلوب مريديه.. من البحر إلى البحر..
نَم بسلام أيها الشاعر العظيم.. ولروحك السلام..