"وجوه" خالد الشيخ وهدى عبدالله مغناة الأزمة الإنسانية العربية المعاصرة

2020-03-13

 

 

علي

نتذكر في الموسيقى العربية المعاصرة "مغناة" كبيرة صاغها بإبداع موسيقي فذ، مارسيل خليفة، إعتماداً على نص الشاعر الكبير محمود درويش، فكانت "أحمد العربي". هي "مغناة" (على وزن "ملهاة" أو "مأساة" في التصنيف الدراسي للمسرح الكلاسيكي) عن قضية العرب الكبرى في القرن العشرين: قضية فلسطين، حين يزيح عنها درويش كل ما سبق من حماسة خارجية ليدقع بجوهرها الإنساني. من هنا يأخذ خليفة عمله الفريد ذلك وينوع عليه أبعاداً تعبيرية قلما نجدها في عمل موسيقي عربي معاصر .

بعد نحو عقد ونصف تقريباً من "أحمد العربي"، وتحديدا في العام 1997 ربحنا "مغناة" جديدة، هي التي قدمها الموسيقي البحريني خالد الشيخ، في عمل غنائي ونغمي مميز، وتضمن نصوصاً شعرية لقاسم حداد وحملت عنوان "وجوه" وجاءت على هامش معرض تشيكلي في العاصمة المنامة .

هذه المرة، وبحسب رؤية الشاعر قاسم حداد، لا ثمة قضية "كبرى"، بل بؤر مكثفة لأزمة الإنسان العربي المعاصر، أزمة القمع المتنوع الجهات والمعاني والأسباب، أزمة القلق المشروع، وغربة التعايش مع تحولات مدمرة لكل شيء .

هذا التشظي في الرؤية والتعبير جسده الشيخ تعبيرياً في موسيقاه، فلا شكل محدد، فثمة الموسيقى المجردة والتصويرية وثمة الغناء الفردي، الثنائي والجماعي، كذلك مجموعة من القراءآت لنصوص أخرى (غير المغناة) للشاعر حداد تولى الشاعر العربي الكبير أدونيس تقديمها وفق طريقة فريدة في الإلقاء، واظهرت مشاركة صاحب "المفرد بصيغة الجمع" مؤازرته للعمل بوصفه عملاً يشير لتغير في الذائقة الموسيقية، والغنائية وتحولها من التسلية العابثة إلى عمل فني وثقافي مؤثر. ليس هذا فحسب بل أن مشاركة أدونيس صارت جزءاً جوهرياً من العمل لجهة أنه حين ينتهي من مقطع شعري، تدخل الجوقة لتنشد مقطعاً آخر متصلاً بالمعنى أو اللفظ .

استغرق الإعداد للعمل ثلاث سنوات، كما يشير الكتيب المرفق للشريط- جاء كمرافقة شعرية وموسيقية لمعرض للفنان التشكيلي البحريني ابراهيم بوسعد، والذي كان يحرص على حث الشاعر قاسم حداد لتجربة كهذه والذي بدوره أقنع ايضاً الفنان خالد الشيخ بتقديم رؤية موسيقية وتلحينية للنصوص وتجربة الرسوم ايضاً ·

وجاءت الصياغة الموسيقية والتلحينية -وهذا ما يهمنا هنا في هذه الإشارة- على مستوى الفنان خالد الشيخ من خلاله، البناء الشعري وصعوبته لنصوص قاسم حداد، فهي (نثرية) غالباً وتفتقر للإيقاع الموسيقي الخارجي الذي يسهل عادة من مهمة الملحن والموسيقى، كذلك احترامه لخصوصية النصوص ومحاولته بناء موسيقى لاتتحول إلى مجرد انعكاسات للمعنى في النصوص أو توضيحات له ·

كما أن تلك الصياغة الموسيقية حين انتقلت إلى التلحين، حاولت إيجاد أشكال رفيعة في التعبير، وهذا ما حققته اعتماداً على غناء تعبيري شارك فيه الفنان خالد الشيخ إلى جانب اوبرالية الصوت هدى عبدالله وصاحب الصوت القوي النبرات حسام أحمد، ومعهم جوقة منشدة من الموهوبين . ورغم معرفة الفنان خالد الشيخ للنتائج التي تترتب على عمله و(مغامرته) هذه إلّا أنه واجه التجربة بشجاعة تحسب له، فالعمل يضعه على طريق يفترق من خلاله بعيداً عن أنماط شعبية (خليجية أو عربية) ترضي الذائقة العادية التي تستجيب للسهولة في الغناء والموسيقى، أو تجاربه "الشعبية" في الغناء والتلحين كما في "كمنجة"، و"يا عبيد" و"نعم نعم" وغيرها ·

كما ان الشيخ تحمّل "خسارة" أخرى هي في تصديه لإنتاج الإسطوانة، غير إنه "ربح" مستوى فنياً كبيراً، حين دفع بتجربته نحوآنماط تعبيرية متقدمة، تجعله يربط وبوعي بين الموسيقى والأُغنيات وبين العمل الفني والثقافي الحقيقي الذي يؤكد على رفعة المعني الإنساني وتقدمه، وفي وقت تصبح فيه ألوان الموسيقى والغناء العربية السائدة اليوم في مقدمة عوامل إفساد وتسطيح الذوق عند أجيال عدة .

وإذا كنا أشرنا إلى ثيمة العمل "وجوه" بكونها تكثيفاً لأزمة الفرد عربيا وإنسانيا في عصرنا، فإن لا مقطع في العمل يجسد هذا المعنى بجمال فريد كما جسدّه مقطع "بلادك أيها المجنون"، فثمة معنى شفيف للوطن- الإنسان البسيط في صعوده وحطامه، في أمله النادر وألمه المديد فهو الذي "يقول للموتى صباح الليل إذا ماتوا" .

ولأننا حيال عمل موسيقي- غنائي يذهب إلى الأشواق قبل كل شيء، فلا شوق يعصف بالإنسان المأزوم كالذي يفعله به الحب، داؤه الفاتن، فكانت ثنائيات خالد الشيخ- هدى عبد الله، مقطوعات من الفتنة الروحية الباذخة والترف النادر في عصرنا، كأن النص- الموسيقى يواسينا قبل التواري الكسير والغياب الموحش .

وضمن هذا الإيقاع الحاني تأتي جوهرة الأشواق مقطوعة "مكان آمن للحب" لنربح نشيداً نادراً عن عواطفنا البسيطة ولكنها الجوهرية، أن نقاوم كل هذه القوى الغادرة بأغنية عن الحب وإليه . وهو ما فعله الثنائي الشيخ- عبدالله فيما أصوات المجموعة تعلو وتعلو نشيداً عن المصير الإنساني .

*نشرت في "الرأي" الأردنية 1997.

 
 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved