حارسة أختام فرنسا وكاتمة أسرار ساركوزي..
سمراء رشيقة..صاحبة حضور قوي وابتسامة عريضة..تحمل الجنسيتين المغربية و الفرنسية..الذكاء الحاد أهلها لتكون أول امرأة من أصول مهاجرة تحتل منصب حارسة أختام الجمهورية "وزيرة العدل"..تعلمت من فقر أسرتها الاعتماد على النفس فأصبحت نموذجاً عصامياً يحتذى به..خرجت للعمل مبكراً من أجل توفير نفقات تعليمها وتربية إخوتها، فباتت جديرة بتحمل أي مسؤولية تسند إليها فيما بعد..كانت تدرك أن التعليم أفضل استثمار، فحصلت على أعلى الدرجات في القانون والاقتصاد..ظلت تتدرج في المناصب حتى أصبحت قاضية ، ثم ذراع ساركوزي اليمنى عندما كان وزيراً للداخلية، ثم المتحدث الرسمي باسمه في سباق الرئاسة الفرنسية..ولها فضل كبير في فوزه بمقعد الرئاسة.
ولدت رشيدة داتي في السابع والعشرين من نوفمبرعام 1965 في منطقة سان ريمي وسط شرق فرنسا لأسرة مهاجرة فقيرة، لأب مغربي وأم جزائرية لم ينالا حظهما من التعليم، كان والدها يعمل بنّاءً باليومية ليسد أفواه أولاده الـ12(ثماني بنات وأربعة أولاد)، و كانت تحتل المركز الثاني بينهما، وهو مركز أهلها لتشارك والدها مسؤولية إخوتها ورعايتهم بعد وفاة والدتها، ولذا اعتبرت وفاة والدتها عقاباً لها في الدنيا، حيث خرجت للعمل مبكراً من أجل المساهمة في دعم إخوتها مالياً ومن أجل أن تحقق حلمها وتكمل تعليمها، ففي السادسة عشرة من عمرها، وبينما كانت تدرس بالمدرسة الكاثوليكية عملت مساعدة ممرضة ثم محاسبة في أحد المحال التجارية. وبعزيمتها القوية وإصرارها على مواصلة تعليمها استطاعت التوفيق بين عملها ودراستها حتى التحقت بجامعة ديجون، التي تخرجت فيها وحصلت منها على ماجستير في القانون العام وآخر في العلوم الإقتصادية.
طموح واسع
بعد تلك المؤهلات العليا التي حصلت عليها رشيدة أصبحت مؤهلة لترك الأعمال المتواضعة التي كانت تشغلها أيام دراستها، حيث أمنت لها مؤهلاتها في بداية حياتها العملية وظيفة جيدة في إحدى شركات النفط الفرنسية، لكن طموح الشابة السمراء وإرادتها الجامحة في الوصول والنجاح جعلها أكبر من التوقف عند شغلها هذه الوظيفة ولا غيرها من الوظائف التي احتلتها فيما بعد في العديد من المؤسسات الكبرى، فذهبت تكثف اتصالاتها والبحث عمن يساندها من مشاهير الاقتصاد والسياسة في حياتها لتحقق طموحاتها. ويأتي بحث رشيدة عمن يمد لها يد المساعدة في الحياة العملية بعيداً عن فكرة الوساطة أو المحسوبية، وإنما بدافع من إيمانها واقتناعها التام بأن المبادرة هي سر النجاح وأن الحظ والصدفة لا يحققان الطموح، ونجحت بالفعل في الوصول إلى أكثرهم تأثيراً و نفوذاً في المجتمع الفرنسي. لكن من المشاهير الذين تعرفت عليهم وكيف تسللت إليهم وأقنعتهم بمؤهلاتها وقدراتها؟ تروي رشيدة أنها بينما كانت تعمل في إحدى العيادات الخاصة أثناء دراستها، كانت تأخذ المجلات الموجودة في غرفة الانتظار وبخاصة تلك التي تتحدث عن المشاهير ونجوم الفن والمجتمع وأهل السياسة، وتقص الصفحات الخاصة بالأشخاص الذين نجحوا في حياتهم منطلقين من لا شيء والصفحات الخاصة بالأشخاص الذين ترغب في لقائهم.
تفوق ملحوظ
وحسبما ورد في سيرتها الذاتية التي دخلت منذ العام الماضي إلى موسوعة (Who Is Who) للمشاهير فإنها في عام 1989 و بينما كانت تحضر احتفال منح جائزة لأختها الكبرى من قبل مؤسسة المواهب، وقعت عيناها على أهم الشخصيات التي كانت ترغب في لقائهم، وهو رجل الأعمال الكبير جان لوك لاغاردير، المساهم الأكبر في شركة مارترا للصناعات الدفاعية وفي شركة هاشيت للإعلام والصحافة والنشر، وفي نهاية الحفل ذهبت إليه وقالت له إنها تحلم بالعمل معه، واستطاعت إقناعه بذكائها ولباقتها ومؤهلاتها العلمية التي حصلت عليها، فوافق على تعيينها بالقسم القانوني في شركة مارترا عام 1990، وأثناء عملها معه أظهرت تفوقاً ملحوظاً نجحت على أثره في إقناع مسؤوليها بتوفير منحة دراسية لها لتحضير شهادة أخرى في القانون.
شخصيات مهمة في حياتها
من الشخصيات التي استطاعت رشيدة الوصول إليها جاك أتالي المستشار الدبلوماسي للرئيس ميتران طيلة سبع سنوات، والذي كان وقتها يرأس البنك الأوربي للإنماء و الإعمار، ونجحت في إقناعه بتوظيفها في القسم القانوني لهذا البنك الذي يتخذ من العاصمة البريطانية مقراً له. لكن طموح رشيدة لم يتوقف عند حد التدرج في إحدى أكبر المؤسسات المالية في أوروبا، فجاء تعرفها في عام 1995 على القاضي مارسولانج الذي كان وقتها يشغل منصب نائب رئيس مجلس الدولة، ليفتح لها مزيداً من أبواب التقدم والنجاح، حيث عرفها على سيمون فيل الرئيسة السابقة للبرلمان الأوروبي، ووزيرة الشؤون الإجتماعية في عهد الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان، وقالت لها إنها تريد العمل معها، فطلبت منها فيل إعداد تقرير عن سياسة الاندماج والانصهار في المدن والأحياء، خصوصاً بالنسبة للمتحدرين من أصول مهاجرة، وقد أظهرت رشيدة في كتابتها لهذا التقرير فهمها الجيد لطبيعة المجتمع الفرنسي ومن خلاله تأكد لفيل أنها تقف أمام شابة طموحة ذات مستقبل واعد فقررت دعمها.
دخول معترك القضاء
تعترف رشيدة بفضل لانج وفيل عليها إذ هما من نصحاها أيضاً بالدخول إلى السلك القضائي، بتقديم طلب انتساب إلى المعهد الوطني الفرنسي للقضاء، وقد أمضت فيه ثلاثة أعوام دراسية، وتخرجت فيه قاضية عام 1999 ، ويوم تخرجها وتقدمها لحلف اليمين أعارتها فيل الثوب الذي أقسمت فيه اليمين مما أثار غيرة أبنائها. لكن الوظائف التي شغلتها رشيدة في السلك القضائي كانت متواضعة ولم تشبع طموحها، حيث شغلت منصب قاضي محكمة بوبينيي في ضاحية باريس، ثم في محكمة ايفري جنوب العاصمة، ومن ثم هذه الوظائف القضائية ليست السبب في وصولها إلى الموقع الذي تحتله الآن.