قهوة وغيتارات زاعقة: "قداس جنائزي" لأيامنا
الى فادي آكوب
انها رائحة العشب، وثمة صوت الأم عبر جدار المطبخ ينادي على قهوة بالهيل، وثمة رائحة جرّاء حريق في رأسي. انا قربك عبرت للتو حقول الموت المزروعة في تخوم البلاد، هل توقظنا نسمة الخريف الندية؟ هل تطفأ النار في روحي؟ هل نندم على أوقاتنا المبددة بين وردات الكتب؟ هل كنا حالمين حين صرفنا وقتا اكثر مما ينبغي رفقة "الرسم بالنور" او حين كنا نضع " فهم السينما" قرب رؤوسنا في الثكنات، دون ان ندري ان مترجمه صانع الأحلام العراقية النقية، جعفر علي، ستهرسه ماكينة حياتنا دون رحمة وبصمت معيب للحياة ذاتها ؟
ضوء خافت في مكتبتك، كأنك كنت توكل الإضاءة الأكثر وهجا للمعرفة بين صحائف الكتب. نقلّب في سؤال هنري لوفيفر " ما الحداثة" فتهتدي عينا قلقي الى "رامبو و زمن القتلة"، نخاف ذئاب الاسئلة الوحشية فنهدّأ من روعنا عبر الموسيقى، اقول لك احتاج "أحلام ما بعد الحرب" لفريق "بنك فلويد"، فتتسع صداقتك الى ليال كالاحلام: جلسات روك في صالة بالمشتمل الملاصق لبيتكم، يحييها أصحاب قلوب وردية أحالتها الحروب الى فحم أسود ورماده !
عراقيون من صالات التمدن وبيوت المعرفة والجرأة، يعاندون صمت الهزيمة والخذلان بايقاعات جارحة من "ميتاليكا" او "وشبون آش" او يندمون قليلا بعد كأسين او ثلاثة مع " بلوز لسلفادور" يبكيهم فيها العازف والمؤلف سانتانا .
هل كنا حالمين؟ من أي المباهج كنا نأتي، والى اي الكآبات كنا نمضي؟ هل كان يكفينا اننا كنا نتشبث بأمل اننا احياء رغم الموت الذي كان يتقدم الآفاق ؟
في رحابة مكتبتك اياها يثقب عيني سؤال في عنوان "انت..من انت؟" فأجيب كما عنوان كتابي الشعري الأول "يدان تشيران لفكرة الألم"، فاهرع الى شعراء قلقين: مايكوفسكي يسنين، ولوركا جازعا بشعراء يقينيين أغلقوا الباب على رعشات الحياة، ومن الشعر الى "الساعة الخامسة والعشرون" مستدركا نحوك بسؤال: من يكتب عمرنا الذي ضاقت به الساعات والايام ؟
الى الموسيقى مرة اخرى، وهذه المرة مع فرقة روك عراقية، فالحلم الجرىء يأخذك ومجموعة من الاصدقاء ليس الى مجرد قبول الغواية الفاتنة لانغام الروك الغربية، بل بترك ملامح شخصية على تلك الموسيقى، ملامح نابعة من احلام وانكسارات ووعي شقي . هكذا كانت انغام فريق "مي بي" في حفلتين موسيقيتين او اكثر شهدتهما بغداد الخارجة للتو من فرن تدميرها العام 1991 : تطلعات واشواق ومغامرة روحية تدل على انشداد للمستقبل واسئلته الفكرية والانسانية، فضلا عن جوهر الاتصال مع الاخر لكن دونما ترفع او انفصال عن الموروث والملامح المحلية. خذ أغنيتكم "قيثارة الملكة السومرية" التي جاءت فكرتها وموسيقاها عرفانا بعبقرية انسان بلاد الرافدين وارثه الحضاري، وخذ ايضا صورتها التلفزيونية المبتكرة ضمن اسلوب بدا حداثويا بالكامل حينها، وفيها امتزجت موسيقى وكلمات واداء مروان بغدادي برؤيتك الاخراجية وتصوير شقيقك فائز آكوب، ضمن مفهوم جديد وعميق للـ"فيديو كليب"، ولمسة ذكية ونابهة كان لولا مأزق العراق الدائم في عدم التنبه لمبدعيه، سيأخذكم الى براعة وريادة تستحقون . وحاولت تعويض الاهمال الذي تعرض له جهدكم الجميل الاقرب الى فتنة المغامرة، حين اخترت عرض اغنيتكم في الفقرة التي كنت اشرف على اعدادها وتقديمها ضمن الحلقة الاولى من برنامج "موسيقى.. موسيقى" عبر تلفزيون بغداد العام 1992 والذي كنت اشارك فيه الى جانب الصديقين المبدعين المؤلف وعازف العود البارع نصير شمة، وعازف البيانو سلطان الخطيب .
تلك فاتحة صداقة تعمقت لاحقا باكثر من لمسة واكثر من شهقة جزع وخوف وقلق، صداقة من الود والمعرفة الانسانية، صداقة عنوانها كتب واسطوانات موسيقى ومصائر واحلام مرسومة على شاشة السينما التي كانت وستظل حلمك الاثير .
صداقة عمّقها إحساس بالثقة، وجد طريقه بقوة في روحي، فلا يمكن لي نسيان مشهد صفوف طويلة من كتبي وانا اودعها حنايا اصدقاء قبل مكتباتهم، واخترت لك قبل رحيلي للاقامة خارج البلاد بعضا منها تتوافق مع عنصرين: محبتي واهتماماتك الثقافية والفكرية. كذلك كنت أودعتك اسطواناتي كي تجد من يقدّر بعض ما فيها قبل ما تعنيه من قيمتها المادية في حال شرائها، فهي لم تكن مجرد انغام بل أحاسيس وصدق مشاعر، وعلاقة مع ورشة تهذيب لا تهدأ للنفس: الموسيقى .
فادي.. رغم انها كانت لحظة قاسية تلك التي قررت فيها الرحيل بعيدا، ورغم انها كانت فترة عصيبة عاشها الناس والبلاد: الحروب والحصار وما بينهما القمع، الا انني اتذكر جيدا هناءات صغيرة كنا نبتهج فيها، نهارات الجمعة في شارع النضال بين مزادات البضائع المفتوحة على الشوارع والارصفة والتقاط ما تنجذب اليه ارواحنا: كتب، افلام فيديو واسطوانات واجهزة تسجيل صوت متطورة وغالية كنت ادفع ثمنها من ارباح عملي طبيبيا بيطريا متخصصا بامراض الدواجن وادويتها ولقاحاته ا. كنا نتوقف ليس عند البضائع، بل كان يربكنا السؤال: اذا كان كل هؤلاء ( اغلبهم يمثلون الطبقة المتوسطة المحركة لروحية المجتمع وثقافته) الذين يعرضون اشياء حميمة هي قطع من ذكرياتهم وتحمل روحية منازلهم، سيغادرون البلاد، فمن سيبقى؟
بعد السؤال بوقت قصير كنت انا من يعرض اشياءه الحميمة للبيع، ثم جاء الوقت لتمرّ أنت ايضا بتجربة الرحيل، وإن كنت لم تشهد مع رحيلك مرحلة انفصالك القسري عن علامات المعرفة وادواتها: الكتب، الافلام والاسطوانات .
أبهجني أنك معي مرة اخرى وان كنا في مكان يبدو ضيقا، لجهة فرص العمل النادرة فيه، لكنني كنت اعتقد ( وهو ما اثبته انت بعدي لاحقا ) ان العمل الجدي الدؤوب يفرض نفسه حتى مع ربع فرصة متاحة، ففي عمّان كنت سبقتك الى الاوساط الاعلامية والفنية الأردنية ناقدا موسيقيا ومحررا في صحيفة "الرأي" ومراسلا لعدد من كبريات الصحف والمجلات والمنابر السياسية والثقافية العراقية ( المعارضة لنظام صدام حينها ) والعربية ايضا، ومع موهبتك وروحك النقية صار الطريق مفتوحا امامك، حتى أنك حين طلبت مني مشاركتك في كتابة برنامج أسبوعي عن السينما وتعرضه القناة الثانية في التلفزيون الأردني، أصبحت متيقنا من ان لمسة مدهشة في روحك ستصل وتبتكر بعضا من جمالها حتى مع ربع فرصة ممكنة . كانت التجربة مدهشة وجميلة، مثلما كانت تجربتك في البرنامج الاسبوعي الجميل "ببلدنا" لجهة عنايته بنوع ثقافي بدا غريبا حينها " السياحة الثقافية"، متوقدة ونظيفة الصورة والفكرة، كانك في عنايتك بجمال الامكنة التي صورتها وما شهدته من عروض فنية وحفاوة انسانية، كنت تعوض احلامك عن مكاننا الجميل الذي كان يمضي شيئا فشيئا الى غربته وصولا الى انحطاطه الذوقي والمعرفي .
وحين وصلنا الى مشروعنا الجميل، وان كان وجد عسرا في الانتشار الجماهيري، الفيلم الوثائقي عن هجرة المثقفين العراقيين "ما تبقى"، كان حضورك مخرجا قد منح التجربة روحا فنية مبدعة قد تحدث للمرة الاولى في التعاطي مع فكرة تبدو سياسية ! فحين اعتادت تجاربنا العربية والعراقية تحديدا في ادراج السياسي المباشر في افلام وثائقية تتصدى لفكرة عامة مهجوسة بمعارضة نظام ديكتاتوري كنظام صدام، كنت وفريق العمل الذي توليت انا الاشراف عليه وتحمل خسائره الانتاجية ايضا، اختار الوجهة الاخرى التعبير بدون اطر زمانية وفكرية محكومة بالسياسات الراهنة عن قضية النفي وغربة المثقف العراقي حتى ان الفيلم وان كان انتج قبل اكثر من عشر سنوات الا انه، ظل اشبه بقصيدة عن الحرية كنت انت شاعرها الجميل .
في عمّان اثناء واحدة من جلسات تنفيذ الفيلم الوثائقي"ماتبقى"
ومن عمّان كتبت لك وانا في غمرة استعدادتي للعودة الى بغداد، فيما انت كنت في نهاية العالم: في ساحل كاليفورنيا على المحيط الهادي، كنت انت قلقا فيما انا كنت مأسورا بيقين اننا سنعود لنبني وطننا الذي خربته الحروب والقمع . وحين كتبت لي بعد ذلك باكثر من عام كنت عدت الى عمّان خائبا، فـ"قلقك" هو الذي تقدم بينما "يقيني" كان ينسحي جارا أذيال الخيبة .
ما جبلت عليه صداقتنا، كان مزيجا نادرا من الروح والثقة، وكان من الطبيعي ان اقدمك بفخر لادارة قناة "الحرة" بعد وصولي الى مقرها قرب العاصمة الاميركية واشنطن . الروح انتجت في عملنا المشترك ساعات طويلة من التماعات الفكرة المنتمية للحقيقة في اطار جمالي منسجم مع قوة الفكرة، انتج برنامجا اسبوعيا ما انفك يتواصل منذ ست سنوات وبرامج وثائقية كشفت عن جرح العراق مثلما انتمت بصدق الى عمق اماله .
مع فادي في ستديو البرامج قبيل تسجيل حلقة من برنامج "سبعة ايام"
انها جراحنا والشخصية وآمالنا ايضا.. انها جراحات زاعقة مثل انغام غيتار مالموستين لكنها تنكشف مثل تلك الانغام عن هشاشة روحية بمرتبة الامل والحب ..
ايها الصديق.. اكاد الان استعيد الجلسة ذاتها في حديقة بيتكم ببغداد ( وان كنت تفكر بالعودة اليه من اجل بيعه حيث لا اهل ولا امل لكم هناك )، استعيد صوت والدتك الحنون ورائحة قهوتها، استعيد رائحة العشب والورود وهي تدخل في الروح شغفا من الطمأنينة والحنين .
في صالة قسم الاخبار بقناة "الحرة" 2008
علي عبد الامير
2010