قلعةُ الحِصْنِ التي قُربَ حِمْص

2014-08-13
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/6dc540db-2a9e-441f-b1ef-722b58123d14.jpeg
أسيرُ إلى القلاعِ ، هنا ، وهَنّا ، ناسياً ثلجَ الوريدِ ، مُقَبِّلاً قَدمَ الوليدِ ،
أجيءُ نحوَ الصخرِ من قِدَمي ، أُثَبِّتُ في مُتونِ حُزوزِهِ قَدمي . أقولُ :
لَعلّني أرقى . وأصعدُ ، خطوةً في إثْرِ أخرى ، شهقةً في شهقةٍ ، والخندقُ
الدوّارُ يسألُني : لماذا جئتَ ؟ أسألُهُ : لماذا جفَّ ماؤكَ ؟ لو ترُاه مضى
ليسألَني : لماذا جفَّ مائي ؟ الخندقُ الدوّارُ لم يبرحْ مكاناً كان فيه
منذُ ألْفٍ ، إنما الأمطارُ لم تهطِلْ ...
أحقّاً صارَ هذا الخندقُ الدوّارُ جسراً للـمُغِيْرينَ ؟ السماءُ سترتمي في لحظةٍ.
ستكونُ سقفاً . أنتَ لنْ تُبْدي سوى سبّابةٍ مرفوعةٍ حتى تُلامِسَها ...
وكان الخندقُ الدوّارُ أخضرَ ، قاعُهُ المفروشُ بالأعشابِ والدُّفْلى وأكياسِ
اللدائنِ كان يدخلُ في متاهاتِ القُرى وسرائرِ الأبراجِ . أحياناً تُدَلِّي غيمةٌ
أثداءَها ليظلَّ هذا الخندقُ الدوّارُ مَغْنىً . قد يمرُّ الماعزُ الجبليُّ . والأعشابُ
تَثْبُتُ في الصخورِ كصِبْغةٍ سِرّيّةٍ . قد تفتحُ الأزهارُ في آبٍ مِظلاّتٍ بلا ظِلٍّ
فيأتي النحلُ ... أهلاً ، لا خديعةَ ... أيّهذا الخندقُ الممتَدُّ بين الوهمِ والوهْمِ:
انتظِرْني كي أُوازِنَ خطوتي . مترنِّحاً سأظلُّ ، مأخوذاً بأحجارٍ تُزَلْزِلُ وقفتي.
أحجارُكَ الأولى التاي كانت تدافعُ عنكَ صارتْ منبِتاً لمحيطِ أكواخٍ . وفلاّحوكَ
صاروا الجُنْدَ . جُنْدُكَ أصبحوا متعهِّدي خيلٍ وماشيةٍ. ولكنّ الخنادقَ لا تصيرُ
سوى خنادقَ. ربما انطمستْ وضاعتْ تحتَ أتربةِ العواصفِ والقرونِ ، وربما
نسيَ الذين بقُرْبِها حتى خطوطَ القُرْبِ ... لكنْ سوف يأتي اليومُ ، يأتي يومُها،
فتهبُّ ناصعةً لتدفعَ عن نضارةِ وجهِها الأسمالَ والأزبالَ والأكياسَ ...
آنَ لها ،
لكلِ خنادقِ الأحياءِ ،
أن تحيا ...
*
أتعرفُ كيف يبدو البُرْجُ في الفجرِ ؟ السماءُ تكونُ صافيةً ، وغامضةً قليلاً.
ثَمَّ ضوءٌ واثقٌ من لامكانٍ ، والسماءُ تظلُّ صافيةً وغامضةً ، وهذا الفجرُ يبدو
 ضائعاً ، يا فجرُ ... أين الفجرُ ؟ في مثلِ الفُجاءةِ كان رأسُ البُرْجِ مُتَّـقِداً ،
وكان الضوءُ يأخذُ شكلَهُ ... والضوءُ رأسُ البُرْجِ :
قَرْنَصَةٌ وفُوضى
مِزْغَلٌ للشمسِ
متراسٌ يُصَوِّبُ نحوَ كونٍ غائبٍ ...
قد يهبطُ الفُرسانُ من سُفُنِ الملائكةِ ، الحدودُ قريبةٌ حتى الـمُلامَسةِ ،
الحدودُ بعيدةٌ حتى الجنونِ ...
أهِلَّةٌ في الماءِ
صُلْبانٌ على الأكَماتِ ، أو بالعكسِ .
هذا الضوءُ ، هذا الضوءُ ، هذا الضوءُ ...
رأسُ البُرْجِ مشتعلٌ
وعند القاعِ ، خلفَ الخندقِ الدوّارِ ، في " الموتيل " ، تحتَ مُلاءةٍ في غرفةٍ خرقاءَ
بالموتيل ، كان فتىً يقولُ لدُمْيةٍ : إني أُحبُّكِ .
يهبطُ الفُرسانُ . سِيْفُ البحرِ يُلْمَحُ عند رأسِ البُرْجِ . ما أبهى طرابُلُسَ الخفيّةَ .
في السفوحِ تغادرُ الأشجارُ منبِتَها ، وترحلُ في فضاءٍ أخضرٍ ... حتى الدروبُ
تصيرُ في الـمَـهوى خيوطاً كان رأسُ البُرجِ يُمسكُها ،يُدَلِّيها ، ويرفعُها ، كما شاءَ.
المدافعُ لم تَعُدْ في البُرْجِ ...
هل رحلتْ مع السفُنِ التي رحلت’ ؟ أو انصهرَتْ لتغدو بين أيدينا نقوداً فضّةً ؟
أمْ أنّ أغنيةَ المدافعِ لم تكن قد قعقعتْ بَعْدُ ؟
الثلوجُ تلُوحُ في القممِ المحيطةِ ...
غيرَ أنّ البُرجَ يلبسُ عُرْيَهُ ، ويظلُّ ، مثلَ الذئبِ ، أغبرَ ...
هدهِديني كي أنامَ :
الثلْجُ أثقَلَ لِمّتي
والثلجُ أثقَلَ خطوتي
والثلجُ غلغلَ في عروقي ماءَهُ ودماءَهُ
والبرجُ يدعوني لأصعدَ نحوَهُ ،
البرجُ يدعوني لأصعدَ نحو صمتي
حيثُ الطيورُ السودُ ,,,
وووووو ...
*
رأدَ الضحى ، متلفِّعاً بالبردِ والجلمودِ ، أدخلُ قاعةً حجريّةَ الأقواسِ .
أعمدةٌ خبتْ تيجانُها ، فوقي . وتحتَ خُطايَ أشواكٌ مُعَفَّرةٌ ،
أرى أسَدَينِ يرتفعانِ عند المدخلِ العالي ، ويَمّحِيانِ مُرْتبِضَينِ.
غيماً مُبْحراً يجتازُ أروقةً ويمضي في سماءٍ حُرّةٍ ... شجراً بعيداً.
شِبْهَ سِرْبٍ من يمامٍ . تهدأُ الأنفاسُ . أُغْمِضُ مُقلَتَيَّ للحظةٍ :
أهلاً !
يعودُ الصوتُ :
أهلاً ... لن ... لن... لن...
وأهتفُ : آهِ ، يا سِرْبَ اليمامِ ... يمامِ ... مامِ ... مِ ...
كأنّ يدي ستُمْسِكُ خيطَ صوتي من نهايتِهِ ...
أمُدّ يدي
يدَيَّ ،
فألتقي روحي ...
سلاماً ... مَنْ ؟ مَن ؟ مَن ؟ مَن ؟
ومن بابٍ بأقصى القاعةِ الحجريّةِ ، انفتحتْ سماءٌ وانجلَتْ .
في الأفْقِ أجنحةٌ تسدُّ الأفقَ . تعلو عند بابِ القاعةِ الحجريّةِ الضوضاءُ .
يأتيني ملائكةٌ بأجنحةٍ
وعُمّالٌ بأجنحةٍ
وفلاّحونَ في أثوابِ ريشٍ .
أغْمِضُ مُقلتَيَّ  هُنيهةً : أهلاً بكم ! كُمْ ... كُمْ ...لَكَمْ غِبتُمْ !
تعبتُمْ في الطريقِ ؟
وهل ظمِئتُمْ ؟
إنّ في كَفّيَّ عيناً سلسبيلاً ...
أم تُرى قد مسَّكُمْ ضُرٌّ ؟
سأفرشُ كلَّ أضلاعي لكم ...
لكنْ أقيموا !
أمسح الوعثاءَ عن أقدامكم ،
وأُقَبِّلُ الأيدي لو استلمتْ طعامي .
لن ترحلوا !
سنبيتُ ليلتَنا هنا .
لا تعبأوا بالبردِ !
سوفَ أجيءُ بالسّروِ العظيمِ
وبالجريدِ الهشِّ .
جِذْعُ النخلةِ استلقى ليُمسي الجمرَ ...
مهلاً !
سوف نوقِدُ نارَنا
ستكونُ قلعتُنا منارَ الخابطينَ
لقد غدَونا نارَنا ... نا ... نارَنا ... نا ... نا ...

حمص -  قلعة الحِصْن




سعدي يوسف

 شاعر عراقي وكاتب ومُترجم، وُلد في ابي الخصيب، بالبصرة عام 1934. اكمل دراسته الثانوية في البصرة. ليسانس شرف في آداب العربية. عمل في التدريس والصحافة الثقافية . غادر العراق في السبعينيات وحاليا يقيم في لندن ونال جوائز في الشعر: جائزة سلطان بن علي العويس، والتي سحبت منه لاحقا، والجائزة الإيطالية العالمية، وجائزة كافافي من الجمعية الهلّينية. في العام 2005 نال جائزة فيرونيا الإيطالية لأفضل مؤلفٍ أجنبيّ. في العام 2008 حصل على جائزة المتروبولس في مونتريال في كندا . وعلى جائزة الأركانة المغربية لاحقاً

عمل كعضو هيئة تحرير "الثقافة الجديدة".

عضو الهيئة الاستشارية لمجلة نادي القلم الدولي PEN International Magazine

عضو هيئة تحرير مساهم في مجلة بانيبال للأدب العربي الحديث .

مقيم في المملكة المتحدة منذ 1999.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved