ترجمة وإعداد : سعدي يوسف
(2)
نهارَ القبضِ علينا ...
صرتُ أشكُّ في أيّ هدنةٍ، بعدَ مُقامي الطويل في لبنان، زمنَ الحرب الأهليّة .
حين كانت الهدناتُ تعلَنُ، كنت أقول لأصدقائي مازحاً : أبقوا رؤوسكم خفيضةً . الرصاص سينطلق في أي لحظةٍ !
وقد كان الأمرُ حقيقيّاً هنا . إذ كان بمقدورنا، الآن، أن نسمع قعقعة الرمي بالرشاشات، آتيةً من موضعٍ ما، في بساتين النخيل حول الكوفة . لكن الصوتَ ما زال متقطعاً، وبعيداً، حتى أنه لم يَثْنِ آلاف الزوّار الشيعة المتحمسين، الذين أراهم يسيرون على جانبَي الطريق، وهم يقرعون الطبول، ويرفعون راياتٍ سوداً وخُضراً، متجهين إلى مقام الإمام علي في النجف . من الـظواهر الطريفة في العراق الآن هي شعبيّة الزيارات الشيعيّة التي كانت محدودةَ العدد أيّام صدّام حسين .
حيدر طلب من باسم أن يتوقّف، كي يستفسر من رجال الميليشيات إنْ كنّا على الطريق الصحيح المؤدي إلى الكوفة - كانوا سيعرفون إن كانت ثمّت رماياتٌ أميركيةٌ على الطريق - أو إنْ كانوا سمعوا شيئاً عن المؤتمر الصحافي لقيس الخزعلي .
صرنا، على الفور، موضع شكٍّ . بعضُهم أسرعَ إلى السيّارة ، محَدِّقينَ بي .
بغتةً، شرعَ أحدُهم يصرخ : " إنه أميركيٌّ . إنه جاسوسٌ " .
وفجأةً صارت الأمورُ أسوأ .
سحبوني من السيّارة، وشرعوا يتفحّصون كوفيّتي، واحداً بعد الآخر، علامةً على ذنْبي .
حاول حيدر أن يقول لهم إني إيرلنديّ وصحافيّ، لكنْ بلا جدوى .
آخرون ردّدوا الهتاف : إنه أميركيّ . إنه أميركيّ .
إثنان منهم قالا لحيدر : " كيف جرؤتَ أن تأتي به إلى مقام الإمام عليّ ؟ "
احتجّ حيدر بأنه من السادة، آل البيت، بل أن أسرته من النجف أصلاً .
شرعَ رجال جيش المهدي يفتّشون حقيبة كتفي البُنّيّة . كنتُ اشتريتُها قبل ثلاث سنين من البيرو، لأنها من حجمٍ مناسبٍ جداً للعدد المحدود من الأشياء الضرورية لصحافيٍّ .
لقد وجدوا مبْرَزاتِهم الجُرمية : دفتر ملحوظات، وهاتف ستلايت ثُرَيّا، يبدو أسودَ كبيراً مثل موبايل، وآلة تصوير . لسببٍ ما، كانت الكامرات موضعَ شكٍّ عميقٍ من جانب العراقيّين باعتبارها أدواتِ تجسُّس .
داروا بالكامرا بين بعضهم، قائلين إني أردتُ أن ألتقطَ صوراً لهم، وأرسلَها إلى الأميركييّن، كي يقبضوا عليهم . أخذوا يدفعونني، كما ركلَني أحدُهم . فكّرتُ في أنهم سيقتلوننا . باسم ظنَّ هذا كذلك . قال في ما بَعدُ : لو كان جواز باتْرِك أميركيّاً أو إنجليزيّاً لقتلونا جميعاً، على الفور .
أحدُهم أخذ يدقِّقُ فيّ النظرَ . ثم أخذَ يتشمّم . أشار إليّ وقال : إنه سكران . لقد شربَ الكحولَ قبل مجيئه إلى هنا .
آخَرُ من جيش المهدي التفتَ إلى حيدر واتّهمَه بشرب الكحول مع الأجانب .
استشاط حيدر غضباً ، وردّ : " كيف تجرؤ على اتهامي بالمجيء، سكرانَ، إلى المدينة المقدّسة، بينما أنا لا أشربُ، وأتحدّر من عائلة من السادة . لو كنتُ سكرانَ لشممْتَ رائحة الكحول" .
بينما كان هذا الجدل الغريب قائماً - قد لا يعرف رجال الميليشيا رائحة الكحول -، كان اثنان من الغاضبين جداً يحاولون حشري في سيّارةٍ أخرى . فكّرتُ في أنهم لو نجحوا في وضعي في سيّارةٍ أخرى والإبتعاد بي، فإنهم سيقتلونني لا محالةَ رمياً بالرصاص . دفعتُ بيدي صدرَ أحدِهما، وأبعدتُه عني . لكني كنت حريصاً على أن أتجنّبَ أيّ عِراكٍ .
بدا لي أنْ ليس من مسؤولٍ عن هذه الوحدة من جيش المهدي، وليس من سببٍ لاستبعاد أن يُنهي أحدهم الجدالَ، باستعمال مسدّسه أو الكلاشنيكوف . هؤلاء القوم مستعدّون للقتل، بكل سهولة .
استفسروا، بهدوءٍ، عن سبب اعتماري الكوفيّةَ .
أجابَهم حيدر بأنني أردتُ أن " أتجنّب الخاطفين في اللطيفيّة " .
سأل أحدُ أفراد الميليشيا : أأنتَ خائفٌ على فلوسِكَ ؟
أجابَ حيدر : خوفُنا على حياتنا، وليس فقط على فلوسنا .
وظلّ يكرِّرُ أننا جئنا لمقابلة قيس الخزعلي، مساعدِ مقتدى، الذي قد تكونون سمعتم به .
أخيراً، انجلت الغمّة، وقال أحد رجال الميليشيا سنأخذكم إلى الجامع الرئيس في الكوفة، حيث سيقرِّرُ الشيخُ ما هو فاعلٌ بِكُم .
لندن 28.08.2017