" قلبُ الظلام " ... مع باتْرِكْ كوكبورْن
ترجمة وإعداد : سعدي يوسف
(3)
أنتم رهائن !
ثمّتَ استهانةٌ في طريقة الصفح عنّا، مثل ما كانت الإستهانةُ في الحالة التي كنّا فيها على شفا القتل قبل دقائق . استفسرَ باسمُ إنْ كان بمقدورنا أن نقود سيّارتَنا المرسيدس إلى حيث أرادوا أخذَنا مـهما كان المكان
لكن الرجل قال : " لا . أنتم رهائن ! " . ثلاثة رجال، مع أسلحتهم وذخيرتهم، انحشروا في السيّارة .
انطلقْنا، نتبع سيّارةً أخرى، ملأى بالمقاتلين، متجهة إلى مسجد الإمام علي ذي القبّة الخضراء، وسط الكوفة . كان حيدر مضغوطاً إلى باب سيّارتنا حتى لم يكد يستطيع الكلام . بالرغم من ذلك ظلَّ يتكلم .
كان يريد من ذلك أن نكون أقلَّ غرابةً عند سجّانينا . ليس من شكٍّ في ولاء هؤلاء لقضية مقتدى . كانوا فقراءَ، جاء معظمُهم لا من الكوفة أو النجف، بل من مدينة الأكواخ الشيعية الكبرى، شرقيّ بغداد، التي كانت تسمى مدينة الثورة، ثم مدينة صدّام، والآن مدينة الصدر، نسبةً إلى والد مقتدى، السيد محمد صادق الصدر، الذي تمَّ اغتيالُه، مع ابنَيه، في النجف، بأمرٍ من صدّام حسين، في العام 1999 .
والحقُّ أن مدينة الصدر ليست حيّاً من أحياء بغداد، بل هي مدينةٌ توأمٌ، يسكنها مليونان من البؤساء،
وهي القلب النابض لحركة مقتدى .
أحدُ مَن كانوا في السيّارة شرحَ لنا أن انضمامه إلى المعركة هو أهمُّ شيء في حياته . قال : " تركتُ زوجتي التي كانت وضعتْ للتوّ، ابنةً لي، كي أجيء إلى هنا، وأقاتل من أجل مقتدى . لقد جمعتُ من معارفي أجرةَ المجيء إلى هنا" . ثم استدارَ إلى حيدر، قائلاً : " إنْ كنتَ من السادة، فأنت ابن عمٍّ لمقتدى . لِمَ لا تحارب من أجله أيضاً ؟ إنْ قُتِلَ أيٌّ منّا فهو شهيدٌ " .
أجابه حيدر : " لكلٍّ دورُه في الحياة . أنت تقاتلُ ، بينما أنا أكتبُ عن قتالكم، وأذكرُ الحقائقَ عن هزائم الأميركيّين وجرائمهم " .
في هذا الوقت، كان باسمُ يؤنِّبُهم على تهديدهم بقتل شخصٍ معوَّقٍ - أنا -، إذ كان بمقدورهم أن يرَوا أنني أعرجُ ( كان ذلك بسبب إصابتي بشلل الأطفال في العام 1956 ) .
توقّفت سيّارتُنا في قطعة أرض مفتوحة خارج مسجد الإمام علي .
هنا، قبل يومَين، ارتدى مقتدى الكفنَ الأبيض، وألقى خطبةً، يتحدّى بها القوّات الأميركية المتجمعة، قائلاً : " أنا مستعدٌّ لمواجهة الأستشهاد " .
المسلّحون أمروا باسماً وحيدر بالخروج من السيّارة، وأخذوهما، عبرَ بابٍ، إلى داخل المسجد .
ما كنتُ أودُّ أن نفترقَ، لكني صرتُ أكثرَ اطمئناناً إلى أن المسلّحين صاروا أقلّ عدوانيّةً . أحدهم قدّمَ لي سجارةً، ومع أني أقلعتُ عن التدخين، إلاّ أنني رأيتُ اللحظةَ غير مناسِبةٍ لرفض إيماءةِ صداقة .
دخّنتُ خمس سجائر، واحدةً بعد أخرى . مسلّحٌ آخرُ اكتشفَ نسخة من صحيفة " النيويوركر " في مؤخرة السيّارة، وشرعَ يتصفّحُها . وحينما رأى في الصحيفة كاريكاتور امرأة في قميصٍ مدلّعٍ، تمتمَ : " حرام " .
وظلّ ينظرُ إلى المرأة طويلاً .
داخل المسجد، كان حيدر يُستنطَقُ، بدقّةٍ، وأدب، عند رجلٍ يدْعى السيّد عبّاس .
قال السيد عباس لحيدر : " انا لا أعرفُ شيئاً عن هدنة " . ممّا أكّدَ شكوكي السابقة حول هدنات مماثلة .
" ما كان عليكم أن تخاطروا بأنفسكم، وتجيئوا إلى هنا، لأن القتال قائمٌ . وهذه الأرض ميدان معارك" .
نهضَ، وقدّمَ لحيدر شاياً، وقدّمَ لي كأساً من عصير البرتقال لأشربه في السيّارة . وفجأةً صرنا ننعم بالأدب الجمّ . أخبرَني عباس : " نحن، العراقيّين، لا نريد الحرب . لكن الأميركيّين يريدون النفط، والإسرائيليين يريدون أن يحكموا الشرق الأوسط . أمّا بالنسبة لك، فإننا نريد أن نتأكّدَ من أنك كما تقول أنت . لا تقلقْ . سنأخذك إلى النجف ."
أعيدتْ إليّ ممتلكاتي كلّها، باستثناء هاتف الستلايت، فقد رأيتُ مسلّحاً ذا دشداشةٍ سوداء يحشر الهاتف في حزامه . لكني كنتُ في منتهى السعادة لأننا نجونا بحياتنا، فلم أكن مستعدّاً لخلافٍ جديد .
استقلّ سيّد عباس سيارته، ليتقدّمَنا، حتى لا يوقفنا رجالٌ آخرون من ميليشيا المهدي .
لكن سيّد عباس كان مخطئاً حين تصوّرَ أن متاعبَنا انتهتْ .
لم نكد نمضي عدة مئات من الياردات، ونحن نجتاز حائطاً أبيضَ عالياً لمسجدٍ آخر على مشارف الكوفة، يدعى مسجد مسْلم بن عقيل، حتى سمعْنا صليةً من نار . يبدو أن الصلية من رشّاشٍ ثقيلٍ على الضفة البعيدة للفرات . كنت أرى الرصاص يرتطم ببناء الحائط على رؤوسنا، فيرسلُ رقائقَ الجصّ طائرةً في الهواء .
لندن في 29.08.2017