ترجمة وإعداد : سعدي يوسف
(4)
النجفُ ليست بعيدةً ...
مع أزيز الطلَقاتِ الأولى، بدأ الزوّارُ السائرون، يركضون فزِعينَ على الطريق، متشبّثين ببيارقهم وطبولِهم،
باحِثين عن مستتَرٍ .
نحن، بدورنا، كانت لدينا الفكرةُ ذاتُها، إذ انحرفْنا عن الطريق، لنختبيءَ خلفَ الجانب البعيد للمسجد .
فوقَنا، كان رجالٌ يرتدون السواد يتسابقون في اعتلاء الجدران، ويتّخذون أوضاعَ رِمايةٍ . ثمّتَ آمرٌ يلَوِّحُ بمسدّسه، ويصدرُ أوامره إليهم . بمواجَهة التهديد المشترَك الذي نتعرّضُ له، صارَ المسلّحون الذين كانوا يتداولون أمر قتلنا، أقربَ إلينا، حتى أننا تقبّلْنا وجهةَ نظرهم . هناك نقطةٌ ظلّوا يردِّدونها على مسامعِنا :
" من الخطأ النظرُ إلينا باعتبارنا ميليشيا . نحن جيش " .
هم يقولون إنهم ليسوا مجرَّد قوّة دفاعٍ شيعيّة . إنهم جيشٌ حقيقيّ في خدمة الإسلام، وزعيم المسلمين في العالَم، مقتدى الصدر .
ظللنا محتمين بالمسجد، ننتظر نهاية تبادل إطلاق النار . وكنت، آنَها، أفكِّرُ بمقتدى الصدر، وكيف استطاع أن يُلهِمَ شُبّاناً ليستدينوا أجرة النقل، كي يلتحقوا بالقتال، وليموتوا، من أجله، إن استدعى الأمرُ ذلك .
رجالُ الشرطة والجيش العراقيون، الذين يدرِّبهم الأميركيون، كانوا أشدّ إلحاحاً على تسلُّمِ مرتّباتِهم، وهم يقولون بصراحة إنهم يفعلون ما يفعلون لإعالة أُسَرِهم، وهم غير مستعدّين للموت من أجل أيّ أحدٍ .
ظلّ الرئيس بوش، وتوني بلَير، يردِّدان أن القوّات الأميركية والبريطانية ستغادرُ حين يكون العراقيون قادرين على تولِّي أمورهم بأنفسهم . يبدو أنهما لم يفهما، البتّةَ، أن المشكلة ليست في التدريب والتجهيز، وإنما في الولاء والشرعيّة . قليلٌ من العراقيّين خارج كردستان رأوا الاحتلالَ ذا مشروعيّة . لهذا لم يمنحوا الاحتلالَ ولا الحكومات العراقية التي شكّلَها الاحتلالُ، ولاءَهم . ربما كان السيد عبّاس يقود شراذمَ خطِرةً، لكن هؤلاء يؤمنون بأن قضيّتهم ليس عادلةً فقط، بل أنها تحظى بتأييد من الله، ولهذا فهم مستعدّون للموت في سبيلها . أخيراً، توقّفَ إطلاقُ النار في الجانب الآخر من مسجد مسلم بن عقيل . نظرنا، بحذر، من الركن، فلم نستطع أن نرى شيئاً، بسبب سعف النخيل الكثيف على ضفاف الفرات .
بدأ الزوّارُ يعودون إلى الطريق مواصلين رِحلتَهم .
لم يُقتَل، أحدٌ، أو يُجرَحْ .
لذا كان الكثيرون يضحكون مرتاحين بعد عناء .
السيد عبّاس عاد إلى سيّارته، ليقودنا إلى النجف .
كنا ننطلق بسرعة . واضحٌ أننا لم يكن بمستطاعنا متابعة الرحلة لولاه .
كانت هناك نقاط سيطرة عديدة لجيش المهدي، ولعدة مرّات هُرِعَ المسلّحون لإيقافنا، لكنهم سرعان ما كانوا يعودون حين يرون وجه السيد عبّاس يطلُّ عليهم من نافذة سيّارتِه .
النجف ليست بعيدةً .
في العام 661 الميلادي، قتَلَ خارجيٌّ اسمه ابنُ مُلْجِم، بسيفٍ مسمومٍ، الإمامَ عليّ بن أبي طالب وهو ماضٍ يؤدي صلاةَ الصبح .
سيفُ ابن ملجم المسمومُ ارتطمَ بالإطار الخشبِ للباب، لذا لم تكن الضربةُ قاضيةً في حينِها .
جُرِح الإمام عليّ جُرحاً بليغاً، وماتَ بعد يومَين .
كان لدى الإمام عليّ الوقتُ ليوصي أتباعَه، بأن يحملوه، بعد موته، على جَملٍ، ويتركوا الجملَ يسير حتى يتوقّفَ بنفسه .
وحين يتوقّفُ الجملُ أخيراً ...
عليهم أن يحفروا قبره و يدفنوه هناك .
الجمل لم يرحلْ طويلاً .
توقّفَ على مَبعدة ستة أميال من الكوفة، على مشارف الصحراء .
ولقد دُفِن عليٌّ في البقعة ذاتِها .
مع مَرّ القرون صار القبر مزاراً، وصارت النجف مدينةً حوله، يؤمُّها ملايين الزوّار .
لندن في 30.08.2017