" قلبُ الظلام " مع باتْرِكْ كوكبورنْ 4/النجفُ ليست بعيدةً

2018-10-15

ترجمة وإعداد : سعدي يوسف

(4)
 
النجفُ ليست بعيدةً ...
 
مع أزيز الطلَقاتِ الأولى، بدأ الزوّارُ السائرون، يركضون فزِعينَ على الطريق، متشبّثين ببيارقهم وطبولِهم،
باحِثين عن مستتَرٍ .
نحن، بدورنا، كانت لدينا الفكرةُ ذاتُها، إذ انحرفْنا عن الطريق،  لنختبيءَ خلفَ الجانب البعيد للمسجد .
فوقَنا، كان رجالٌ يرتدون السواد يتسابقون في اعتلاء الجدران، ويتّخذون أوضاعَ  رِمايةٍ . ثمّتَ آمرٌ يلَوِّحُ بمسدّسه، ويصدرُ أوامره إليهم . بمواجَهة التهديد المشترَك الذي نتعرّضُ له، صارَ المسلّحون الذين كانوا يتداولون أمر قتلنا، أقربَ إلينا، حتى أننا تقبّلْنا وجهةَ نظرهم . هناك نقطةٌ ظلّوا يردِّدونها على مسامعِنا :
" من الخطأ النظرُ إلينا باعتبارنا ميليشيا . نحن جيش " .
هم يقولون إنهم ليسوا مجرَّد قوّة دفاعٍ شيعيّة . إنهم جيشٌ حقيقيّ في خدمة الإسلام، وزعيم المسلمين في العالَم، مقتدى الصدر .
ظللنا محتمين بالمسجد،  ننتظر نهاية تبادل إطلاق النار . وكنت، آنَها، أفكِّرُ بمقتدى الصدر، وكيف استطاع أن يُلهِمَ شُبّاناً ليستدينوا أجرة النقل، كي يلتحقوا بالقتال،  وليموتوا، من أجله، إن استدعى الأمرُ ذلك .
رجالُ الشرطة والجيش العراقيون، الذين يدرِّبهم الأميركيون، كانوا أشدّ إلحاحاً على تسلُّمِ مرتّباتِهم، وهم يقولون بصراحة إنهم يفعلون ما يفعلون لإعالة أُسَرِهم، وهم غير مستعدّين للموت من أجل أيّ أحدٍ .
ظلّ الرئيس بوش، وتوني بلَير، يردِّدان أن القوّات الأميركية والبريطانية ستغادرُ حين  يكون العراقيون قادرين على تولِّي أمورهم بأنفسهم . يبدو أنهما لم يفهما، البتّةَ،  أن المشكلة ليست في التدريب والتجهيز، وإنما في الولاء والشرعيّة . قليلٌ من العراقيّين خارج كردستان رأوا  الاحتلالَ  ذا مشروعيّة . لهذا لم يمنحوا الاحتلالَ ولا الحكومات العراقية التي شكّلَها الاحتلالُ، ولاءَهم . ربما كان السيد عبّاس يقود شراذمَ خطِرةً، لكن هؤلاء يؤمنون بأن قضيّتهم ليس عادلةً فقط، بل أنها تحظى بتأييد من الله، ولهذا فهم مستعدّون للموت في سبيلها . أخيراً، توقّفَ إطلاقُ النار في الجانب الآخر من مسجد مسلم بن عقيل . نظرنا، بحذر، من الركن، فلم نستطع أن نرى شيئاً، بسبب سعف النخيل الكثيف على ضفاف الفرات .
بدأ الزوّارُ يعودون إلى الطريق مواصلين  رِحلتَهم .
لم يُقتَل، أحدٌ، أو يُجرَحْ .
لذا كان الكثيرون يضحكون مرتاحين بعد عناء .
السيد عبّاس عاد إلى سيّارته، ليقودنا إلى النجف .
كنا ننطلق بسرعة . واضحٌ أننا لم يكن بمستطاعنا متابعة الرحلة لولاه .
كانت هناك نقاط سيطرة عديدة لجيش المهدي، ولعدة مرّات هُرِعَ المسلّحون لإيقافنا، لكنهم سرعان ما كانوا يعودون حين يرون وجه السيد عبّاس يطلُّ عليهم من نافذة سيّارتِه .
النجف ليست بعيدةً .
في العام 661 الميلادي، قتَلَ خارجيٌّ اسمه ابنُ مُلْجِم،  بسيفٍ مسمومٍ، الإمامَ عليّ بن أبي طالب وهو ماضٍ  يؤدي صلاةَ الصبح .
سيفُ ابن ملجم المسمومُ ارتطمَ بالإطار الخشبِ للباب، لذا لم تكن الضربةُ قاضيةً في حينِها .
جُرِح الإمام عليّ جُرحاً بليغاً، وماتَ بعد يومَين .
كان لدى الإمام عليّ الوقتُ ليوصي أتباعَه، بأن يحملوه، بعد موته، على جَملٍ، ويتركوا الجملَ يسير حتى يتوقّفَ بنفسه .
وحين يتوقّفُ الجملُ أخيراً  ...
عليهم أن يحفروا قبره و يدفنوه هناك .  
الجمل لم يرحلْ طويلاً .
توقّفَ على مَبعدة ستة أميال من الكوفة، على مشارف الصحراء .
ولقد دُفِن عليٌّ في البقعة ذاتِها .
مع مَرّ القرون صار القبر مزاراً، وصارت النجف مدينةً حوله، يؤمُّها ملايين الزوّار .

لندن في 30.08.2017

سعدي يوسف

 شاعر عراقي وكاتب ومُترجم، وُلد في ابي الخصيب، بالبصرة عام 1934. اكمل دراسته الثانوية في البصرة. ليسانس شرف في آداب العربية. عمل في التدريس والصحافة الثقافية . غادر العراق في السبعينيات وحاليا يقيم في لندن ونال جوائز في الشعر: جائزة سلطان بن علي العويس، والتي سحبت منه لاحقا، والجائزة الإيطالية العالمية، وجائزة كافافي من الجمعية الهلّينية. في العام 2005 نال جائزة فيرونيا الإيطالية لأفضل مؤلفٍ أجنبيّ. في العام 2008 حصل على جائزة المتروبولس في مونتريال في كندا . وعلى جائزة الأركانة المغربية لاحقاً

عمل كعضو هيئة تحرير "الثقافة الجديدة".

عضو الهيئة الاستشارية لمجلة نادي القلم الدولي PEN International Magazine

عضو هيئة تحرير مساهم في مجلة بانيبال للأدب العربي الحديث .

مقيم في المملكة المتحدة منذ 1999.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved