قلبُ الظلام، مع باتْرِكْ كوكبورْن/الطريق إلى الكوفة

2018-10-14

ترجمة وإعداد : سعدي يوسف
 
               (1)
 
الطريق إلى الكوفة

" إنه جاسوسٌ أميركيٌّ ! "
هكذا هتفَ أحد أفراد جيش المهديّ، وهو ينحني في نافذة سيّارتي، ويخطف كوفيّتي الحمراء/ البيضاء التي كنتُ أعتمرُها، متَخَفِّياً .
كان ذلك في التاسع عشر من نيسان ( أبريل ) 2004، وكنت أحاولُ بلوغَ المدينة المقدّسة، النجف، حيث مقتدى الصدر،  رجل الدين الشيعيّ الغامض، الذي قد كان سيطرَ على مُعْظم العراق الجنوبيّ في أوائل الشهر، مُحاصَرٌ، الآن، بقوّاتٍ أميركية وإسبانيّة .
وقد كان جنرالٌ أميركي قال إن مقتدى الصدر  سوفَ يُقتَل أو يؤسَر .
كنت أعتمرُ الكوفيّةَ لأن طريق الـ 63 ميلا، من بغداد إلى النجف، يمرّ عبرَ سلسلةٍ من بلداتٍ سُنّيّةٍ
متعصِّبة، بالغةِ الخطر، حيث تعرّضَ أجانبُ للهجوم .
أنا أبيضُ البَشرة، وشَعري لونُه بُنّيٌّ خفيفٌ، لكني ظننتُ أن الكوفيّة قد تُقْنِعُ أيّ امريءٍ ينظرُ إلى السيّارة بأني عراقيٌّ . الكوفيّةُ ليست للتفتيش الدقيق .
كان علَيّ أن أكون أكثرَ تحَوُّطاً .
كنتُ أسافرُ في سيّارة مرسيدس من الطراز غير المستعمَل كثيراً في العراق،  وهو طرازٌ يسترعي الإنتباه بيُسْرٍ .
كنت أجلسُ في الحوض الخلفيّ لأكون أقلَّ انكشافاً .
في المقعد الأمامي، كان حيدر الصافي،  وهو شخصٌ بالغُ الذكاء، وهاديء المزاج، في الثلاثــين من عمره وهو مترجِمي ودليلي . كان مهندساً كهربائيّاً، وفي أيام صدّام حسين كان يديرُ شركةً صغيرةً  لتصليح آلات الإستنساخ .  حيدر الصافي يسكن في حيّ الكاظمية الشيعيّ ببغداد، حيث أحد أهم المزارات الخمسة للشيعة في العراق . لم يكن يحتسي الخمر، ولا كان يدخِّنُ، لكنه كان علمانيّاً في نظرته العامّة .
أمّا سائقي فهو باسِم عبد الرحمن، الأكبر سنّاً قليلاً من حيدر الصافي، وذو الشَعر القصير جداً . 
إنه سُنّيٌّ من غربيّ بغداد، وقد أثبتَ هدوءَ أعصابه قبل عشرة أيّام، عندما وقعْنا في كمينٍ منصوبٍ لقافلة من سيّارات الوقود الأميركية، قرب أبو غرَيب،  على طريق الفلّوجة .
خرجنا ، نحن الثلاثة، من السيّارة، وانبطحْنا على الأرض، إلى أن توقّفَ إطلاقُ النار فترةً، فقاد باسمُ السيّارةَ، ببُطْءٍ، وعَمْدٍ، عبر مجموعاتٍ من القرويّين المسلّحين الذين كانوا يندفعون للمشاركة في القتال .
تمدّدت في الحوض الخلفيّ للسيّارة،  آمِلاً في أنهم لن يكشفوا أنني أجنبيٌّ .
جئنا  عبرَ أفراد ميليشيا جيش المهدي، ذوي القمصان والسراويل السود، ونحن على مشارف مدينة الكوفة  الواقعة على الضفة الغربية لنهر الفرات، على مبعدة أميالٍ قليلة من النجف .
كانوا واقفين أو  متربِّعين على التراب، على جانب الطريق قبل أن ينعطف إلى الكوفة، حيث الجسرُ يصِلُ
ضفتَي النهر .
كانوا شبّاناً مسلّحين جيّداً ببنادق الكلاشنكوف، بينما تتدلّى قاذفاتُ الآر. بي . جي على ظهورهم، 
وتنحشرُ المسدّساتُ في أحزمتهم .
كثيرٌ منهم كانت أحزمة الرصاص متصالبةً على صدورهم .
كانوا كثيرين جداً على نقطة تفتيش عاديّة .
كانوا مستنفَرين، عصبيّين، لأنهم توقّعوا أن الجنود الأميركيّين قد يهاجِمونهم في أي لحظةٍ .
في البعيد، كنت أسمع قعقعة النيران، شمالاً، على امتداد الفرات .
لم تكنْ لنقاط التفتيش في العراق، آنذاك، السمعة التي اكتسبتْها لاحقاً،  في كونها أماكنَ تعذيبٍ، تديرُها فِرَقُ موتٍ ببزّاتٍ عسكريّة أو بدونِها، متلهِّفةٌ  إلى قتل أو تعذيب شخصٍ ما .
ربّما خلدْنا إلى الطمأنينة لأننا خلّفْنا وراءَنا، البلداتِ المتجهمة : المحموديّة والإسكندريّة واللطيفيّة، حيث الإختناقات المروريّة الدائمة، تسمحُ بأن يكون التدقيق أقلَّ .
كما أن هناك هدنةً . فاليوم هو مولدُ النبيّ . وقد أعلنَ الناطق باسم مقتدى، في النجف، الشيخ قيس الخزعليّ، توقُّفَ القتال مع الأميركيّن لمدة يومين، احتراماً لهذه المناسَبة، وحمايةً للزوّار المتدفقين على المدينة
لإحياء الذكرى .

لندن في 26.08.2017

سعدي يوسف

 شاعر عراقي وكاتب ومُترجم، وُلد في ابي الخصيب، بالبصرة عام 1934. اكمل دراسته الثانوية في البصرة. ليسانس شرف في آداب العربية. عمل في التدريس والصحافة الثقافية . غادر العراق في السبعينيات وحاليا يقيم في لندن ونال جوائز في الشعر: جائزة سلطان بن علي العويس، والتي سحبت منه لاحقا، والجائزة الإيطالية العالمية، وجائزة كافافي من الجمعية الهلّينية. في العام 2005 نال جائزة فيرونيا الإيطالية لأفضل مؤلفٍ أجنبيّ. في العام 2008 حصل على جائزة المتروبولس في مونتريال في كندا . وعلى جائزة الأركانة المغربية لاحقاً

عمل كعضو هيئة تحرير "الثقافة الجديدة".

عضو الهيئة الاستشارية لمجلة نادي القلم الدولي PEN International Magazine

عضو هيئة تحرير مساهم في مجلة بانيبال للأدب العربي الحديث .

مقيم في المملكة المتحدة منذ 1999.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved