قراءة في مجموعة (أغنية لآخر القادمين ) للشاعر أحمد الشادي

2012-12-16

يشدو الشاعر أحمد الشادي حزنه في قصائده , لعله يجد فيها تعويضاً عمّا فات , أو عن فرح يرتجيه طال انتظاره , في سياق حزن يوميّ مزمن مفض إلى تحريك خيال شعري , يصنع البدائل التي قد يرضى بها الشاعر فيكتفي بإنشاد ذلك الفرح المُرتجى شعراً , حتى بدا هذا الشعر هو فرحه , أو لنقل هو المعادل الفني لهذا الفرح المنشود , وقد ننشد معه ذلك الفرح  إن استطاع تخييله في نفوسنا العطشى إليه , بعد أن أتعبتنا المحن , و ألفنا الأحزان , و صار الإحباط طابعنا , فالشاعر أحمد الشادي , في مجموعته الشعرية الجميلة (أغنيةٌ لآخر القادمين) الصادرة عن دار (تموز/ رند) في دمشق 2011م , والمطبوعة على نفقة قصر الثقافة والفنون في تكريت ، استطاع وهو مُكللٌ بحزن عميق أن يصنع عوالم فرح , في سياق شعري تصويري أوهمنا بتحققها فغنينا معه , ولكنها كانت أغان خاصة لكل مغنٍ على النحو الذي شاءت له أقداره أن يغني به , وهو , بهذا حقق شرطاً مهماً وعميقاً من شروط شعرية الكلام , وهو التخييل الذي من دونه , لا يُعدّ الكلام شعراً , وإن كان ذا موسيقى متحققة في الوزن والقافية أو في غيرهما .

وقد كان حزنه المُكتنف أغوار نفسه دافعه إلى البحث عن فرحة عساه يُحققها في لغته الشعرية التي رسم بها معاناته العميقة :

للفرحة في لغتي لغة         أكتبها بين شراييني

فهو أوجد لغة خاصة له , إن انبثقت من اللغة المتداولة , كتبت بدم الهم والمحن والترح الذي بدا غير منته لديه .

          وهذا التصوير الشعري للفرحة المُرتجاة حققه الشادي لمحق حزنه , أو في الأقل , للإفلات منه , أو لعله يستطيع اغتياله ( اغتالُ بها حزنَ سنيني ) , لذا فهو يُعلن أن شعره سيكون شعراً يغنّي به فرحه الأمل , كما قلنا , مُوزّعاً إياه بين سطور أعماقه ( شعراً في كلّ دواويني ) , عليه كان الشعر , عنده , مما نؤكده ,هو الحلّ أو هو السبيل المُفضية إلى إيجاد هذه الفرحة , فالشعر فرحته , وبه يصرّف انفعالاته  , و يحقق ذاته , ويتجاوز واقعه ليعيش حُلمه :

الشعر محض انفعالات يفيض بها               قلب تطاير من أعطافه الشّررُ

فلا عجب , هنا , أن تراه يتغنّى بشعره و يشخّصه و يمنحه بُعداً إنسانيّاً , حتى يُصوّره على أنه هو , فيكاد يكون الشعر هو أو هو الشعر , في عشق صوفي لا ينتهي ولا تُحدّ مدياته  يأخذ من طبائعه ومن روحه ومن رغبته في حياة أبهى وأجمل , فالشعر لدى الشادي وسيلة تقويم وأداة تغيير , فلم يكن ترفاً , ولا رغبة منتهية بصنع قصيدة , بل هو سلّم للإرتقاء الانساني , وليس مطيّة مطامع وكذب وإفك , على أن بعضهم يوظّفه في هذه السبيل , وليس الذنب ذنب الشعر :

ما ذنبُه الشعر إن زاغت ضمائرهم      فقام بنحره الأفّاكُ و البَطِرُ

بل إن الذنب على الشاعر الذي ساق شعره في طريق مُفض إلى أهداف وأغراض بعيدة عن الصواب , بحسب ما يراه شاعرُنا .

          ويبقى الحزن نشيده وشجوه , فهو ملازمُه , حتى أنه يُعلن أنه سيُضطرّ للتعايش معه , أو اللهو عنه , باللجوء إلى امرأة يرتمي بين ذراعيها , لعله ينسى فشله في محاولته اغتياله أو مُداراته :

 و دعيني

بين ذراعيك

لأنسى

أني وَجلٌ

فأصالح حزني .

 

بيد أنه يجد نفسه , مع كل ما قاله , راسخاً أمام المُتغيّرات , لتمتعه بالأصالة وصدق الانتماء , فغير ذلك عبث وزبدٌ وهباء .

وهو لا يفتأ يُعلنُ قلقه الذي غار في أعماقه واكتنف مشاعره , والذي دلف به إلى سكون وتأمّل , لعلّه يكتشف ذاته , أو يجد منفذاً , بيد ، أنه لا يهتدي لمنفذ يُخرجُه من أزمته التي تجلّت في ظنونه وهواجسه , فهي تكبّلُه , حتى يكتشف أن لا مفرّ أمامه إلا باللواذ بأعتاب طفولته , عساه يجدُ فيها نفسه الضائعة .

          ولم يكن شعر هذه المجموعة الشعرية الشادية الشاكية الشاجية مقتصراً على شؤون الشاعر الذاتية , وتصوير انفعالاته و همومه الخاصة , بل تحدّث عن هموم وطنية وعربية ودينية امتزجت بذاته أيضاً , فعليها تربّى , وفي أفيائها تعدّت اهتماماته لتشمل قضايا عديدة , تقف قضيّة فلسطين واغتصابها في مقدّمتها , فقد رافق اهتمامه بها مراحل عمره ولا سيما طفولته , ( يا قدس عشقناك صغاراً ) فهو , في هذا الخطاب يؤكد المنحى الجمعي في حب القدس وما يتعلق بها من ذكريات التاريخ العربي الإسلامي الذي عشقه الشادي و انشده أغنية من أغانيه الأثيرة , وهو هنا يومئ , أيضا , إلى تنشئته الدينية وعاطفته الصادقة تجاه القدس التي كانت مُنطلقه في بثّ همومه القومية والإسلامية , مُعلنا عن رغبته في تجاوز حال السكون والعجز والنكوص التي تعيشها الأمة , ليعود بعد ذلك إلى تلمّس الطريق المُفضي إلى الخلاص المتمثل بالرفض البنّاء والتمسّك بالهدف , وعدم التسليم أو الاستسلام للأعداء , والإعداد لتحقيق وسائل الخلاص .

          وللعراق موقع القلب في قصائد الشادي , في مجموعته هذه , فهو أبوه , أي سبب حياته التي هي منحة الله له , و هو يُوصيه وعلى ابنه أن يستجيب , مما أبانه في قصيدته (وصيّة أبي العراق) التي أنطق بها الشادي وطنه موصياً أبناءه , ومؤكّداً معانيها بوسيلة التكرار, بقوله :

                  أ بنيّ لا

                 أبنيّ لا

                لا   لا  بُنيّ فلا تبع

               فالتربُ يعشقُه الرجال

              بحضنه تغفو الحمائم .

 

ومن غير العراق يحتضن أحلام أبنائه , ولعله يحقّقُها لهم , إن تمسّكوا بتربته , فلا يبيعونها , لمن يدفع أكثر , و الشادي يعتزّ بعراقيّته , و يحبّ العراق حبّ فناء و توحّد , هو حبّ صوفيّ خالص نقيّ (جميع العراق أنا ) , فالعراق فوق رؤوس أبنائه ,وهو موئل آمالهم وموطن ذكرياتهم , وحبّهم له ولد مع ولادة أيٍّ منهم , و الشادي أحدهم , بقوله :

طفلا ولدتُ يفورُ حبُّك في دمي              صِرتُ العيون أنا و صرتَ مَطالعاً

          وهو لا ينسى وجع العراق وهمّه , حتى وهو يُناجي الرسول الأعظم في ذكرى مولده الشريف التي تزامنت مع الذكرى الخامسة للعدوان على العراق واحتلاله البغيض , في قصيدته ( الخمسُ الشّداد ) , قال فيها :

عُذراً إليك رسول الله إنّ دمي                بركانُهُ من صدى الأحداث يشتعلُ

تجيء ذكراك و الأعلاجُ في وطني          و جرحُ دمعي عليه تنسجُ المُقلُ

 

وهكذا أنشأ الشادي عدة قصائد تغنّى بها بالعراق وحبّه , وبكى همومه  وألمه  ورفض احتلاله , داعياً إلى مقاومته , مما يُحسبُ له أدباً مقاوماً وطنيّاً , في وقت خرست ألسن الكثير من الأدعياء .

          والشادي , بعد أن يعود إلى هدوئه , ويخفف من حماسته البيّنة , في النبرة الخطابية للكثير من قصائده , لا يجد في نفسه سوى الخشية من انتصار الشرّ , مما يُفضي إلى (أن تطغى لغة الحزن على بوح الكلمات) , فهو يعيش أزمة واقعه المرّ في الأحوال كلّها , ثائراً كان أم ساكناً , فواقعه الذي يعيش مأساته هزّ مشاعره , فتجلّت , من بينها , عاطفة الخوف من كلّ شيء , وعلى كلّ شيء : ( أخشى , أخشى , أخشى     لا حدّ لآخر ما أخشى ) , ومع هذا تراه مُعلّقاً بأمل  يراه عند الآخر , ولا سيما في عيني حبيبته فمن ( دون الأمل

                                                                الطافح في عينيك

                                                             لا تحلو القصيدة ) .

فالشاعر يعيش ثنائية الخوف والأمان , واليأس والأمل , وبين هذا وذاك يطرح منظوره في القضايا والأحداث وسوء الأحوال , بنفس تصويري مُفعم بمشاعر وطنيّة وعربية وإسلامية صادقة , كما رأينا , عبّر عنها بقوالب شعريّة توزّعت بين قصيدة الشطرين العربية التقليدية , و قصيدة التفعيلة أو الشعر الحرّ الذي كان مجاله في التداعي والانسياح  وراء مشاعره والاسترسال مع آماله , في بوح لأسراره , وما في داخله من هواجس , بيد أنّه وظّف شعره القريض ذا الشطرين , في أكثره , لمعالجة أو لتناول القضايا على نحو حماسي حاد النبرة , على أننا لا نُطلقُ الأحكام هنا , ففي قصائده الحرّة ظهرت ومضات حماسية خطابية أيضا , نحو قوله :

         فيا بائع الوهم تمهَّل

        هل أعددت جواب الغد ؟

و غير ذلك كثير .

 

          وقد امتلك أحمد الشادي نفساً شعريّاً واضحاً استجابت له مقدرته وخزينه اللغوي الذي صبّه في سياقات تعبيرية مُوحية , قوامها وسائل فنّية كثيرة  وظّفها في تشخيص غير العاقل , أو لتجسيد المعاني , أو لتقريبها أو المبالغة في قولها , في أنساق شعريّة مُؤثّرة , فهو يُصوّر الفرحة ( كأسا نشوى من سحر العطر المكنون ) , و يشخّص حزنه الطويل كائناً حيّاً يرمي إلى الخلاص منه باغتياله , ببدائل مُستمدّة من وجوه نيّرة باسمة , وأفكار تُطفأ مثل النار , و كثيراً ما شبّه , واستعار مُصوّراً وموحياً بمعان ودلالات مفتوحة يرصدها قارئ متمكن من قراءة تواكب قدرة الشاعر وتحتمل القصد عنده , فالشعر لديه كائن حيّ يصرخ ( كقيثارة الأحلام ) , و ( الشعر حرّ ) و (ما ذنبُه الشعرُ )  , وهكذا كان شأنه مع الأشياء والظواهر والمشاعر , في جمهرة من العبارات التصويرية التي منها : (زورق الروح ) ( خارطة الأحلام ) ( تتصارع الكلمات ) ( وما زالت حروفي في الهوى تحبو ) ( راسما في الرأس دُرّا لامعات ) ( مر بقربي كالمرجل يغلي يقذف حمماً وشواظاً من كلمات ) ( هكذا الأشجار تحني رأسها خجلاً لقامتها النحيلة والقصيرة ) وغير ذلك مما اغترفه الشادي من مصدرين رئيسين , هما اطلاعُه على الأساليب الفنية  التصويرية في الشعر العربي القديم والحديث والمعاصر , ومُخيّلته التي أمدّته بأسباب إبداع صور خاصة به , انبثقت من قوّة مشاعره وعمق حزنه وتفاعله مع قضايا الوطن والأمة , ومن حُلمه في فرح آت .

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved