يرى الآخرون
نص صعب مفعم بالقدرة على التعبير والتصوير
محمود سعيد
ليس سهلا الكتابة عن نص صعب مشاغب مثل "زهرة الأنبياء"* لا لشيء إلا لكونه كتاب يستعصي على الاستشهاد. فلكي تدعم ما تكتب بشاهد وجب عليك أن تذكر كل النص. وما هذا بعمل سهل وإلا أصبحت من مؤيدي ترك الصلاة بينما أنت تبغي الحض عليها. وتأتي صعوبة النص من جهد الكاتبة المنصب على محاولتها أن ترجعنا إلى فردوسنا المفقود. إلى طفولتنا، وهذا هو المستحيل الذي أقرت به ببساطة: "ولكن ما من طريق يسلكه المرء مرتين" على أنها بالرغم من هذا الإقرار لم تيأس من المحاولة، لقد أخذتنا معها، لا بل أجبرتنا على اقتحام الماضي على ظهر غيوم من ذكريات ترتعش في قلب طفلة حساسة تكتشف روعة الحياة.
إنها تحدثنا عن مدينتها، حياتها، طفولتها، فبالرغم من أنها لم تسلك الطريق مرتين أعادت رسم الحياة بأنامل فنان مفعم بحب الحياة فجاء النص ينبض بدقات قلب كبير يسع الدنيا يعود لتلك الطفلة التي ما زالت صغيرة، لم تكتهل، لم تشخ، وسوف لا تشيخ أبد الدهر.
بعد أن أنهيت الكتاب الذي لم يشدني مثله إلا القليل، رجعت إلى الغلاف فرأيت الناشر قد صنفه "قصة" عندها ابتسمت: أو مجموعة قصص؟ لا. أهو نص؟ رواية؟ لا. لماذا؟ إنه كل هذه الأجناس معا، لا جنسا معينا من الأدب.. وبرأيي هو رواية ذات فصول.. رواية فيها بطلان لا أكثر.. مدينة وطفلة أو مدينة طفلة واحدة.
الطفلة تعيش عملية اكتشاف الكون لتبني من خلال الاكتشاف مدينتها الخاصة بها عبر تفصيلات جعلتني أبكي، أضحك، أتألم، أفرح، أغضب، لا لشيء إلا لأنها استعارت عيني وقلبي وجوارحي فأحزنني لأنها كانت أقدر مني على التعبير، وأغضبتني لأنها كانت أقوى مني ذاكرة وأفرحتني لأنها فقأت دملة المشاعر عندي على الرغم من أنها كانت أغزر مني عواطف وأحاسيس.
أي معول ثر نبش ماضيا لا يمكن أن يعود؟ فحتى في تلك المدينة وبالرغم من الجوع والحصار وسيوف أعداء الداخل والخارج اختفى أو كاد التنور المصنوع من الطين والقش وحل محله تنور حديد قميء رمادي كريه عند البعض القليل فقط، إذ يفضل الأغلب شراء الخبز من الأفران، لكن الكاتبة بعثت "في الذاكرة من جديد سحب الدخان، ورائحة الخبز الساخن، وطعم الانتظار لطفل نافد الصبر يرقب رغيفا يقلب على وجهه الآخر، لم ينضج بعد، أصابع صغيرة تنقل الرغيف الذي نضج لتوه من يد إلى أخرى فلا تحترق، أو تفقأ الفقاعات السمر على وجهه".
لكنها نسيت كيف كنا نأكل الخبز الحار مهشما وهو ساخن بعد أن نخلطه بالسمن الحار ونرش عليه السكر الناعم، كيف ينهرس تحت أسناننا، كيف نلعق أصابعنا قبل أن نغسلها، ها هي واقفة تتفرج وتضحك .. آه ما اسم تلك الأكلة البسيطة لقد نسيت الكاتبة الاسم، الآن تذكرتُه - المريس.
سرت مع سالمة صالح في رحلتها الغامضة، نزلت معها السلم الذي يقود إلى هوة عميقة "نمكث لحظات فنعتاد الظلمة، ونتبين حجارة الرحى..." معصرة زيت السمسم و"الطحينية" نسيت الإسم ثانية، كانت تشتري العسير" تلك هي حثالة السمسم المعصور، تبسط أقراصا صغيرة سميكة" مرة ثانية تنسى اسم هذه الأقراص. لماذا؟ إسمها "عسير" لأنها سميكة وقوية تحت الأسنان، إن تلك الحثالة التافهة طعام أشد الناس فقرا، طعام المملقين، المدقعين يأكلونها مع "الجاي" المحلى بالسكر.
لو ترددت الكاتبة على باب الطوب لشاهدت جموع الفلاحين جالسين على قارعة الطريق يتغدون بها بينما يدخل غيرهم المطاعم القريبة ليأكلوا ما يلذ ويطيب وبخاصة الكباب الذي تشتهر به تلك المدينة آنذاك - كباب السيد بكر والأربيلي.
ركزت الكاتبة علامات على الطريق الذي حاولت أن تسلكه مرة أخرى، علامات مشتركة بينها وبين القارئ الذي جايلها، وربما كانت تقصدني أنا بالذات، أو هكذا شعرت بالرغم من كوني أكبر منها سنا على ما أظن.
وجاءت عباراتها لتأكيد تلك العلامات كمقدمة لها. "إن المرء ليتقدم في السن ويزداد بعدا عن طفولته، فإن لم يحتفظ بذاكرة يقظة سقط كل شيء في النسيان".
كان "الخروف العنيد" وقصة "نور الدين" و "القرد والغيلم" و ... مئات الأشياء الأخرى، تلك العلامات، كانت أشبه بجزر صغيرة في بحر الطفولة العارم الذي ولجه الجميع. إن كتابها الصغير يزدحم بالأسئلة البريئة التي تقودنا إلى لذة الاكتشاف. فها هي شمعة الحاصود - وليس الحصاد- "نقطة ضوء، نجمة تتحرك" وها نحن نصطادها ونحبسها في علبة الثقاب وها نحن - هي - لا نتخلى عن أحلامنا في الحصول على سراج الليل.
من بين ركام الأعمال المطبوعة قلما يقع بين يديك كتاب يتحدث عن شيء أصيل، دافق، ملذ، يغوص عميقا في مسالك ماض لا زال ينبض بعفوية اسلوب أفضل ما ينعت به أنه سهل ممتنع، أشبه بالشعر وليس بشعر بل أعمق منه. وأشبه بالنثر وليس منه لأنه أغنى أحاسيس ومشاعر.
مقدرة تصويرية
عند سالمة صالح كل شيء حي، كل شيء له قلب، كل شيء يحب ويحَب: المدينة، الحجارة، الأسوار، السراديب، الحدائق، الطرق. أما وصفها للطريق إلى الدير فمذهل:
"وها أني أصادف من هم أكثر مني مهارة في القفز والتسلق. هذه النقيطات السود التي تتحرك على بعد ما هي إلا ماعز جبلي..."
لم تتكلم سالمة صالح عن مدينتها التأريخية، ولا عن دورها قبل أو بعد الآشوريين أو العراقيين الفرس أو العراقيين بعد الإسلام أو بعد المغول أو العراقيين العثمانيين، لم تتكلم عن انتفاضاتها، ولا عن بطولاتها أمام نادر شاه، حتى أنها لم تذكر أو تنوه عن إضراب القصابين الذي استمر ستة أيام بكاملها والذي أسقط وزارة وغير وزير داخلية عتيد "سعيد القزاز"، لم تتكلم عن أي حقبة تأريخية مضت. أرادت أن توثق قليلا من كثير من فلكلور سائد، وهي بإهمالها المدينة كواقع معماري حضاري عوضت عنه بما رأت من سحرة وعادات وتقاليد. بذلك جعلتنا نتشارك لا الرؤيا وحسب بل المشاعر.
أي أسى عميق ينتابك وأنت تشرب مرارة امرأة سجينة بين جدران أربعة تتوق للنزهة، لترى زهور الربيع وخضرته لتتنفس نسائمه، فيبادر زوجها لتحقيق حلمها "جلب لها عشب الربيع وفرشه على السطح، أما قصة لعبة الصبر، وقصة محمد الذي تناديه أخته "تعال ولا تجي" والذي تذبحه زوجة أبيه وتأكله، فهما - القصتان - تدميان القلب.
سرت معها أنى سارت، سمعت معها نداء بائعة الخيضر، وتذوقت ثمرة الخرنوب وعدت أحمل معها حصيلة رحلتي: "فطريات تشبه درنات البطاطة ذات حلاوة باهتة، وأبصالا سكرية. وفي أحيان قليلة كان هناك الحماض".
لكن سالمة نسيت للمرة الرابعة اسم هذه الدرنات "حج كبي" واسم البصيلات "فريونة". كما أنها نسيت أيضا أن تذكر اسم "المآجن" التي تضرب بها الثياب المغسولة بالكيل حيث أنها تسمى بالمحلية "خاكوغ" كما أنها ذكرت المزلاج ولم تتذكر الكلمة الأضبط "السقاطة".
كان ما صورته سالمة صالح عن الحمامات والكيل والحديقة الكبيرة وريزومات السعد، والجسر الحديدي ونظامه الذي لم يخرق أبدا: "ممر للمجيء وآخر للعودة.. وفي الوسط شارع ... قذفنا إلى الطرف ألأكثر حياة من شارع نينوى بأسواقه وحماليه، سياراته وشاحناته، وضوضائه التي لا تهدأ". كان ذلك لا ينسى. كانت آخر مرة عبرت فيها الجسر بعد الحرب الأخيرة، عبرته - مع شديد الأسف -بالسيارة ففقدت نشوة الطفولة وأنا أراقب دجلة السريع يشق طريقه كالسيف.
أما عربات العيد ودواليبه والـ "خشيم" الذي سمته "قمرية" والشقوق التي تبتلع كل ما يخزن فيها، وأم سليمان التي أسمتها "العضاءة" والدويبات الصغيرة السمراء الرمادية، وموضوعات الإنشاء التي لا تتغير - العطلة الصيفية، والحمار الذي يعرف طريقه بعد الرحلة الأولى، والأم التي تحارب الخراب بعزيمة لا تفتر، وقوارير الكنوز الوهمية التي تنخلق من هدم البيوت، والصبية التي فوجئت بالسمن يفيض من البراني، وبيض القطا المرشوش بنقط بيضاء وبنية، ومئات الأشياء الأخرى والتفصيلات الدقيقة. ما كان ليأتلف وينسجم ويبدو نصا فائقا رائعا لو لم تكن المؤلفة تملك موهبة أصيلة وفنا راسخا ومقدرة فذة على التصوير لا تضاهى. فلأول مرة في اللغة العربية يستطيع نص بطلتاه طفلة صغيرة ومدينة أن يشد القارئ هذا الشد المتماسك ويغرقه في متعة لا تنتهي.
كيف استطاعت أن تحتفظ بهذا الكم من الذكريات؟ ما زلت أحس بغاز "النامليت" يصعد من لهاثي إلى أعلى أنفي. أما زهيرات البيبون وشقائق النعمان والكلمات المنحوتة على شواهد القبور" يا زائرا ترابي ... إبك على شبابي ... إلخ". والقمطر الذي أصرت أن تستعمله بدل "رحلة" والليمون أم الفلسين، أما هذه العلامات فستبقى تدلني إلى مجاهل طرقتها مرة وما زلت أحس بنكهتها اللذيذة.
مرحلة منسية
لم تقصد الكاتبة أن تؤرخ لمدينتها لكنها وهي تنظر إلى الماضي بعينها الثاقبة المستبصرة وبروحها الشفافة وثقت مرحلة منسية، لا بد أن يستفيد منها المؤرخون مستقبلا:
- كان الرجال يروون حكايات طريفة عن دوريات الحكومة العثمانية التي كانت تبحث عن الهاربين "من الجيش". كان أبوها هاربا وكذلك أبي، ويبدو أن جيلهم لم يكن مقتنعا بالحرب التي زج فيها بحيث شكل الهروب ظاهرة لم تكن فردية بأي حال. وفضل البعض الأسر عند الروس إلى انتهاء الحرب.. وهكذا فعل أحفادهم في الحروب اللاحقة.. فأي حرب مقنعة؟
- عناية الكنيسة بأيتام المسيحيين.
- حرص التعليم على قراءة القرآن.
- السيد توحي ومقدرته على مداواة النكاف بالرقى.
- إهمال المدينة للشعراء.
- استعداد المدينة لموسم الشتاء وإعداد البرغل والحبية والرشتة والسويق.
- النوم على السطوح - إنتهى الآن - وتأمل السماء وبواكير مطر الخريف.
- المنادي الشعبي - يا سامعين الصوت.
- أبواب المدينة وشوارعها.
- محطة القطار والحمامات والفوط والمناشف المعلقة على الحبال والجدران في الشوارع.
- أسواق المدينة وجماليات المهن، ومقاييس الملابس "العباءة سبعة أمتار" "تسعة أذرع لا تسعة أمتار".
كان تعاطف الطفلة مع الحيوان علامة واضحة لا يمكن أن يغفلها أي متصد للكتابة عن "زهرة الأنبياء"، وصفت العلاقة مع القطة والسنجاب واليربوع والسنونو والحمار وصفا يأخذ بمجاميع القلوب.
"ثم أني خفت على سنونوتي من القطط فاشتريت لها قفصا، وضعتها فيه في المساء. وفي الصباح وجدتها تستلقي مفرودة الجناحين ميتة. ما كنت أعرف أن هذه الطيور الصغيرة التي تبني أعشاشها في الغرف العتيقة غير قابلة للامتلاك".
ولا تقل روعة الاسلوب شعيرة إذا وصفت الزهور أو الأمطار، فكأن قلمها قلما ساحرا يعيد لكل جماد تتناوله خلقه وتكوينه.
ولا بد وأنا أتطرق إلى مقدرة سالمة صالح من أن أذكر بعض تعبيراتها المتفوقة التي تدل على مران طويل وتجربة مستفيضة. فحروفها تخزنا بمسلات لذيذة مدغدغة، فعندما تسلم على معلمتها التي نسيتها بعد مضي مدة طويلة "ترد تحيتي بوجه جامد ... بعد حين أشعر أن تحيتي فائضة وأنني ربما جرحت وحدتها...".
ويتكرر مثل هذا التعبير المتألق في ص 74 ، 84 ، 109 ، 110 وتقريبا في كل صفحة فكأن هذه التعبيرات درر وجواهر تزين جيد ومعصمي وجبهة حسناء تفتن المخلوقات.
غير أنني أود أن أعرف من قصدت بابن الخياط، إذ أن هناك غير واحد أشهرهم نحوي. وسواء أصابت أو أخطأت في ذكره فإن ذلك لا يقلل من عظمة كتاب أدبي يعتبر تحفة ودرة فريدة شديدة الأصالة، عميقة بقدر ما تحويه من شفافية وصدق ومقدرة على التعبير فتهنئة وتحية من القلب على هذا الإنجاز.
جريدة الخليج، الشارقة 19/2/1996