كنت أرتمي خلف خطواتي القلقة أتخبّط وسط ضجري في عتمة المكان، رغم أن الوقت كان صباحا . أمشي بدون كلل في ذلك الشارع الطويل وسط العاصمة الشقراء المكتظة بالسكان . لا أعرف إلى أين تقودني قدماي المتبعثرتان في زحمة أسئلتي المجنونة. أستجدي بارقة من نور، من أمل، أجرجر أطراف أحلامي المرتعشة . يُدثّرني حزن العالم وتدفعني خيبتي إلى حيث لا أدري . ملعون ليلي ونهاري . أعدّ النجوم التي انطفأت وأخرى التي أطلقت ساقيها للريح . تطير بي المسافات الضوئية لحظات إلى وطني الذي تركته قسرا . شعرت بغصة ودموع متحجرة تتأمل تلك الانفجارات والقتل وذبح الأبرياء . كوابيس في النهار تتراءى في ذاكرتي المسلوبة عن ذلك القتل الوحشي وذبح الأبرياء . شعرت بغصّة تقضم أحشاء روحي في اغتراب موحش، ودموع متحجرة وحسرة على وطن لم يبق منه إلا نتاج مصائبنا المفتعلة .
طائرات تحوم في مداها تقصف قنابل تلو الأخرى . تطايرت أشلاء وارتفعت على الأرض ثم هوت، ممزقة مندثرة في تلك الأكوام من الخضار التي تناثرت هي أيضا في تلك المساحات الكبيرة من السوق الذي أصبح مغطى بغبار رمادي وحرائق هنا وهناك . دخان أسود متناثر عمّ المكان . فأصبح مسكونا بالأشباح. توارت الأصوات والصراخ والعويل، إلى أن اختفت كلّيا فلم يعد إلا سكون مميت وظلام أسود في وضح النهار. العساكر تطاردني والحلاّج يحدّق بي من ثقب التاريخ، يضحك ملء فيه، وأنا أركض في ذعر تائها في كلّ اتجاه في ذلك الجوّ المكفهرّ ولا أعرف إلى أين المفرّ. أزيز الرصاص يشق السكون، يرسم على الجدران قدر العباد المتناثر في تلك الطرقات المدثرة بالدم . الجميع في حالة ذهول ورعب وكأنها علامة الساعة . يلاحقني الصمت وتعثرني ظلمة الدخان . أيادي تحلّق من حولي تشير بسبابتها إليّ، تشير إلى حيث أركض . لا شيء يتحرّك كالأفاعي غيرهم، يحصدون الأنفاس، يفتكون بذرّات الهواء وأنا أصرخ وأبكي عن فجر وردي أبعده القدر ومن فوقي طائرات تحّلّق برعدها وبرقها ومن ورائي طلقات من رشّاش تلاحقني حتى دخولي إلى البيت وطلقات تصيب الباب . لا أدري كيف نجوت من الأوباش الذين كانوا يطاردونني . أقفلت الباب من خلفي وارتميت على رعبي القاتل وسط فناء الدار، تائها في ملكوت الأشياء، تجرعني أصوات القنابل في بحريَ المجبول بالنكبات . أحلامي غطّت وسط ذلك القصف الجنوني وهدير الدبابات يكسّر السكون والمكان . طنين من نداء يثقب أذني، يحملني يخبرني أنه لابد من المقاومة . مات الرجال والنساء والأطفال . رحلوا بهدوء . بالأمس كانوا، أرمق أحلامهم بالأمل والسلام . الآن أمسوا خلف الجدار المشبوب بالصمت تاركين قلوبا تفيض دمعا وحزنا من لهب ونار، وأنا أمتطي الموت الذي يمرّ بالبلاد والعباد، ومن تحت قدميّ ترتجف الأرض . كانوا يركضون بكلّ ما لديهم من قوّة للإمساك بي وأنا أطير مبتعدا منهم إلى الأعالِ. فجأة سقطتُ من ذلك الحالق في الفضاء هاويا أصرخ مستعملا يداي علّني أتشبث بقشة تنقذني إلى أن وقعت منشطرا إلى نصفين . قفزت من مخالب ذلك الكابوس، انتفض فزعا، وكِدت ألفظ أنفاسي في عالمه . كان العرق يتصبب من كل جسمي على ابتلائي وكأني أشتم رائحة البارود . غفوت على دهشتي المشبوبة بالصمت طويلا، اللهم اجعله خيرا . أتمتم آيات قرآنية وقدماي حافيتان تطارد خطواتي إلى الحمام . اغتسلت وتوضأت وروحي ترتجف من الآتي . كنت أعلم أني وقعت، لا محالة في ورطة وما قد حصل سأبتلى بسببه مع الكثيرين ممن كانوا معي . كان البيت لا يزال نائما في هدوء ذلك الفجر . نفحة غامضة ورطبة تنبعث من تحت تلك الغيوم المتبعثرة في السماء وتتقاسم صمت الأديم المتجمّد بحرارة التّرقب . لم أكن أسمع سوى تدفّق دمي الذي كان يطنّ في أذني . كنت أصلي مبتهلا خائفا، متضرعا لله طالبا منه أن ينجيني ومن كانوا برفقتي. من هول الفجيعة انحرف عقلي عن خشوعي في صلاتي مصورا لي تلافيف غامضة في تلال ظلمة وخيالي يسرح في المجهول . أغمض عيني أشعر بالفراغ . على عجل أنهيت صلاتي . بينما كنت أرتدي ملابسي العسكرية، سمعت أصواتا كالعويل وخبط على الباب يدوي المكان . تسلقت السّلم إلى السطح ولذت بالفرار متجها إلى حيث لا أدري . قلق مضطرب يجوب خلف قدماي الواهنتان، أجري وطرقات الموت العشوائية تلاحقني . أحاول التركيز ممزقا ذلك الجحيم الذي ينبعث من خلف مخاوفي . هل سيصدقونني أنني وجنودي لا ندري أي شيء، وأن حروبهم لم نكن فيها إلا أداة ؟ الكبار أشعلوا فتيلة النار راح ضحيتها مئات من الجنود الأبرياء . ما ذنبنا نحن في انقلابهم على الرئيس وانقلاباتهم عليه . مازالت خطاي متجهّمة أجري كلصّ متلبّس بجريمته . أنظر من ورائي إن كان يلاحقني أحد . لا أعرف كيف قادتني قدماي إلى مقهى السلام . في ضواحي المدينة على مقربة من غابة السباع . هناك وجدت الجنود . كنا نلتقي في تلك المقهى في المناسبات نجتمع ونشرب نخب الحياة والسلام والوفاء .
تركنا الوطن من خلفنا رماديا بالحرائق، ممزقا بالقذائف، وركضنا في ذعر تائهين وسط ذلك الجوّ المكفهرّ، لا نعرف إلى أين المفرّ . فتهنا مع الكثيرين مثلنا فارين عبر البحار والجبال، باحثين عن السلام والاطمئنان . مات من مات في البحر وفي الجبال ومن نجا منهم وصل إلى بلاد الغرب والصقالبة الأبرار .
كنت من أولئك الذين كتبت لهم حياة جديدة في بلاد جديدة حيث السلام وحيث الحياة . هكذا تعلمت في الكتب وقرأت في المجلات . لكنني لم أحصل على إقامة البلد . لقد كان أملي ممسوسا وحلمي عاقرا فأصابني اليأس على بؤسي . أبحث عن كلماتي المغتالة منذ سنين وعن يداي المشلولتان....عن تاريخ رسمناه بريشة العار والهزيمة وقتل الأبرياء باسم "الله أكبر". لا أريد إلا نجومي التي انطفأت وشمسي التي غابت . ماذا ينفع بكائي عن الأطلال، وجُرح الأرضِ ودمعي الذي يولد من سواد، ومنفاي الذي يطفو ويغرق . كيف أستطيع أن أرمّم روحي المهزومة، ووجعي المتدلّي الذي يزحف ببطيء شائخ بين أغصان عارية في أقاصي الحياة الحرجة منعتني من العيش بسلام ؟ لا أريد إلا العيش بعيدا عن سواد الوحشة والضياع المتهافت بعد الكثير من الرفض واللاءات والعبودية . وجدت نفسي مظلوما مغلوبا على أمري في وطن السلام . فلم أعد أستطع الفرار أو الردى . أمران أحلاهما أن تُسكن روحي المتشائمة المكسورة تحت قبة غروب أبدي، بعيدا عن اكتظاظ الناس وضجيج المكان، وأنزوي مع نفسي، لا أحد حولي ولا من مُحادث لي، فلا يوجد من يفهم كلماتي ولا مرادي، دائي سقيم .. أختزلُ عمرَ وطني في بضعة أدمع كغيري . ضحايا نحنُ منتشرين في بقاع الأرض، تلفظنا الحدود، وتركلنا الأقدام ..... لا مفرّ .... العالم كله من حولنا أفعى، ونحن لم نحسن الإنصات ولا الحوار من قبل . فها نحن جميعنا نتوارى رويدا رويدا عن أرضنا البائسة وشوارعها المدفونة في الرمل، وعن الوجود. ها أنا أرفع راية هزيمتي فلم يبق لي من كبرياء إلا اللجوء إلى مكان بدون استقبال أو حدود يرسُمُها الجدران، أو وجود أعين تحرسني أو تلصص جيران غرباء ينفرون مني، ولا أحد يبكي علي ويعلن الحداد حين يحضرني الأجل .