اقتصاد برقة القديمة

2016-05-18
( برقة هي الجزء الشرقي من ليبيا الحالية )
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/9c031390-b33d-4c9b-b8e0-148a3084d9c7.jpeg
امتازت برقة في القدم بحياة مليئة بالإحداث العظيمة، فضلاَ عن الغنى والازدهار، باشتراكها مع سوسة وطلميثة وتوكرة ويوسبريدس ... حيث كانت مدينة برقة مركز نشاطات ثقافية وفنية ودينية واقتصادية كبيرة .
أما البحر الأبيض المتوسط ... هذا البحر الذي تطل على شواطئه كلا من أثينا والإسكندرية ولبتسمانيا وقرطاج وروما- والمراكز المدينة لبرقة نفسها –في الماضي كما هو الحال اليوم خلق اتصال وترابط في المصالح والأقدار. فدراسة العالم عن طريق علم الآثار تعطينا فرصة للإدراك بعمق قصص المجتمعات التي ازدهرت وخلدّت مجتمعات حول ضفاف هذا البحر وهذا بلا شك يؤكد الثقافة العميقة التي تربطنا نحن أحفاد هذا الماضي.

إن مدينة برقة بالقرب من شحات الحالية، تم إنشاءها من قبل مستعمرون جاءوا من جزيرة تيرة"Thera" والتي ازدهر بها أيضاَ مجتمع نشأ من مدينة سبارتا"Sparta" القريبة... والمصادر التاريخية التي تورثنا الإحداث والمزخرفة بالأساطير، تشير إلى نشأة المدينة سنة 631 قبل الميلاد، حيث تأثر اختيار الموقع بصفاته الجيوفيزيائية وطقسه المتميز، من أراضي خصبة ووفرة في تساقط الأمطار والطقس المعتدل، مما جعل من الجبل الأخضر منطقة مناسبة للاستقرار .
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/80345463-ba76-4508-8da3-5de1c1a580b4.jpeg
في حديث المؤرخ الإغريقي "Erodoto" عن القدرات الزراعية الضخمة لمنطقة برقة أوضح عملية نضج ثمار الأرض المتعلقة بثلاث أحزمة بالمنطقة، حيث توجد ثلاث مراحل للنضج بدءاَ بالساحل ثم الوسيطة ( المنطقة الوسطى ) وانتهاء بالمرتفعات، لضمان الإنتاج المتصل على طول العام .

والمنطقة حسب خصائصها الفيزيائية كانت محط اهتمام لثقافات مختلفة، فالساحل –وعلى وجه الخصوص المنطقة القريبة من سوسة –هي منطقة قاحلة ذات طبقات أرضية رقيقة وفقيرة، حيث تغلب عليها مساحات لأشجار ( شبه صحراوية /شوكية/ناشفة ) كانت تخدم رعي القطعان الصغيرة من المواشي، وكأخشاب ( حطب ) التي لم تستغل بطريقة منظمة من أجل استقرار ثابت للمنطقة .

أما المنطقة الوسطى على خلاف ذلك، فهي تتميز بأراضي جيدة .. في الجهة الجنوبية منها على وجه الخصوص بالقرب من المنحدرات وحتى المرتفعات سمك طبقة الأرض فيها يصل إلى حوالي 80-100 سم . والمنطقة محمية من الرياح الجنوبية الحارة عن طريق مرتفعات الجبل .

كانت ثقافة البستان آنذاك هي الشائعة، من بينها ما تميزت به الرقة ( وهي زراعة الورد البلدي ) واشتهرت في القدم كثيراً بالروائح المستخلصة من زهور برقة، ولكن على وجه الخصوص –ازدهرت بها أشجار مثمرة مثل التين واللوز والزيتون والعنب، وهذه الاخيرة تم على الأرجح إدخالها على الأراضي الليبية عن طريق مصر وذلك  قبل مجيء المستعمرين الإغريق .
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/e71f1ccc-d5f1-4c0c-8a10-9ca10c0ea7d4.jpeg
ومن الاسم الإغريقي ""Ampelos جاءت الأصول القديمة "" Ampelos والتي تتمثل في الحي الحديث للحمامة، على الساحل الشرقي لبرقة والممتدة على طول المنطقة المحيطة، ولذا سميت"Ampelitide".
وبالمقارنة مع الشريطين الآخرين للمنطقة التي قسمنا بها الإقليم، فان مرتفعات جنوب برقة تتقدم بامتيازات أخرى مختلفة، مثل الأراضي الأكثر غنى، والطقس الرطب بنسبة أكبر، مما أدى للتطوير والإنتشار لثقافة زراعة الحبوب، خصوصاً القمح الصلب والشعير .
ومن مميزات هذه المناطق المراعي الخصبة، وتربية المواشي والخيول التي اشتهرت بها المنطقة حيث كانت خيولها معروفة ومتميزة في القدم بجمالها وسرعتها.
ومن هنا نستطيع أن نؤكد إن إجمالي منطقة برقة القديمة، كانت منظمة تنظيماً جيداً من ناحية الاستغلال الزراعي .

لقد جد اكتمال ملحوظ للإنتاج مابين الأحزمة الثلاث الكبيرة وداخل كل حزام على حِدة، وهذا يسبب التبادل مابين الوديان والمرتفعات في كل من المناطق المدروسة ... هذا التكامل ليس إلا انعكاسا لعلم زراعي واقتصادي واعي يبرر السمعة المكتسبة في القدم لسكان برقة في مجال الإنتاج الزراعي... وبالإضافة إلى الزراعة هناك مصادر أخرى ارتكز عليها اقتصاد هذه المحافظة من بينها ما ذكرت سابقاً( الرعي )، وكانت تمارس هذه الحرفة في الأغلب من رجال القبائل البدوية التي تعيش بشكل ترحالي مع اتزان ضروري من أجل المحافظة على المساحات المخصصة للاستغلال الزراعي . ومن الملاحظ رجوهم المنتظم على نفس الأراضي التي لهم الحق بالرعي عليها والتي تخصص أيضاً للاستخدام الزراعي في بعض الأحيان ...كانوا يستطيعون استخدام الوديان كمراعي كان بعد حصادها والمرتفعات ( وذلك على طول وجود الأعشاب بها ). وهذا الشكل من الرعي كان يكتمل عن طريق الترحال نحو الجنوب من شهر نوفمبر إلى شهر مارس ونحو الشمال من مايو إلى أكتوبر .
 المنطقة الصحراوية جنوب برقة امتازت بالطابع البدوي، حيث كانت الشعوب تنتقل من واحة أوجلة إلى سواحل سرت الكبرى ،وكانت تجمع بين الرعي والنشاطات الزراعية في الواحات والمناطق الشمالية الغربية من الساحل ...كان من مهام الشعب الإغريقي تقسيم المساحات، حيث جعل نشاطات الشعوب البدوية الرحالة والشعوب المستقرة من ناحية الزراعة والرعي ليست فقط متلائمة ومنسجمة مع بعضها البعض. وبلا شك التطور التاريخي شاهد عدة فترات زمنية طالت فيها حالة الجفاف، مما أدى إلى تغيرات عديدة وخلق حالة من التوتر وعدم الاستقرار، والتي كان من الممكن أن تنتج هجمات ضد المدن، وتحولت الأرياف إلى معسكرات تصدى الضغوط الاتية من شعوب الدواخل ...والعلاقات مع العناصر البدوية –كماهو طبيعي –تشغل حيز كبير من الاهتمام عند المسيطر الأساسي بالمنطقة في كونها تشكل مصدر غني أولاً ثم الرومان يخوضون علاقات اقتصادية مع الليبيين، وهي تجارة السلفيوم .
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/d8a56590-1559-4931-859f-55ba998e55ec.jpeg 
ولكن ماهي المميزات التي جعلت هذه النبتة مطلوبة ؟ .استخدمت في القدم في مجالين :مجال الطب ومجال الطبخ . فخصائصها الصحية مشار إليها أكثر من مرة في التقارير الطبية القديمة كما انه من الشائع استخدامها كتوابل على شكل عصارة،أو على شكل مرق أو بطحن الجذور .وبهذا الخصوص فالمصدر الأكثر عراقة متمثل في قائمة لكيفية إعداد المأكولات الرومانية المؤلفة  من قبل خبير فن الطبخ الروماني"Apicio" في كثير من الوصفات التي تظهر استعمالات النبتة فيها ...ويبدو أن الصنف الموجود في برقة يتميز بكونه أكثر قيمة من الصنف الفارسي .
كما نعلم أيضاً أن السليفوم كان مع الوقت أكثر ندرة حتى انه أصبح يقارب على الانقراض في العهد الروماني .ورغم انقراض السليفوم بقى هذا النبات رمزاً لمدينة برقة، بل لمحافظة برقة بالكامل . هكذا كما كان عليه الحال أيضاً في أوج الفترة التجارية، حيث كان مرسوماً على العملة ومجسداً في الأعمال الفنية .


تحدثت في أكثر من مرة عن التبادلات والمعاملات التجارية والعناصر الأساسية للاقتصاد المزدهر والنشط، كما كان الحال ببرقه القديمة ...الآن أود أن أسلط الضوء على العناصر الأساسية للاتصال داخل المنطقة، وهي شبكة الطرق.
وجدت عدة شريانية تضمن ترابط المناطق المحيطة بعضها البعض بقلب المحافظة من مدينة برقة... وهناك شبكة طرق اصغر تشابك داخل المحافظة، وتخدم ترابط المساحات الزراعية فيما بينها. والمنطقة تقدم حتى الآن عدة آثار لهذه الطرق والتي يمكن التعرف عليها بسهولة عن طريق الحفريات التي تركتها العربات على جانبيها، متخللة المرتفعات وسواحل الوديان.
 الشهادات الأدبية التي توثق وجود عدة طرق للقوافل داخل المحافظة، والتي كانت تسير سواء في الاتجاه من الشمال إلى الجنوب أومن الشرق إلى الغرب مستغلة وجود شبكة كثيفة من الواحات ومن الواحات الرئيسة كانت واحة "سوا"و واحة"أوجلة " حيث اعتبرت  بوابات نحو قلب القارة الأفريقية، كما كانت تمثل الشرايين الرئيسية للتبادل التجاري بين مدن ساحل البحر المتوسط بدءاً بيرقة وأفريقيا السوداء ...والبحر الأبيض المتوسط أيضاً شكل طرق اتصال أساسي سواء للرحلات ذات المدى القصير أو  واسعة النطاق.
فمن وجهة نظر اقتصادية، إن قفزة التطور التي حدثت في تلك السنوات كانت مرتبطة بدخول برقة لمنظومة عالمية ضخمة متمثلة في إمبراطورية روما، حيث كانت في تلك الفترة عبارة عن محافظات متفرقة ومختلفة تنتمي إلى نظام موحد، وفي كل واحدة منها كان يتم الإنتاج والتبادل بتنظيم مرتب وعقلاني، من أجل أن توفر كل جهة أقصى مشاركة ممكنة للوصول إلى تطور شامل وعام...كان يعني هذا زيادة الموارد المتخصصة التي توفرها منطقة وخلق شبكة اتصال تسهل عملية النقل للأشخاص والبضائع.
 في عهد إمبراطورية الرومانية وصلت إلى أقصى تطور لها، كان يوجد بها حوالي مليون نسمة، مما يتطلب إمدادات مستمرة للبضائع والتموين...القوت الأساسي للشعوب كان متمثلاً في القمح ،ولإشباع حاجتهم فقط من العاصمة كان يتم استيراد حوالي420.000 طن في السنة ، وكان ثلث القيمة مصدرها مصر.
النقل كان مؤمنا عن طريق بواخر نقل كبيرة حيث كانت تسع الواحدة منها حوالي 350 طن وكانت منتجات أخرى ذات نسبة استيراد كبيرة مثل النبيذ والزيت والمنتجات المستخرجة من الأسماك .
واستقر كثير من التجار بمحافظة برقة منذ مجيء الرومان إليها، وتلك الفترة شاهدت ازدياد في العلاقات التجارية مع المناطق الشرقية سواء من ناحية الاستيراد أو التصدير.
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/a0ed33ab-3138-4f95-b82d-c06b8bd5e05e.jpeg 
من أجل هذا تبين لنا أهمية دراسة حالات الإبحار في برقة، فلابد من اعتبار أن في أشهر الصيف تهب على المنطقة رياح آتية من الغرب والشمال الغربي، والتي مع التيارات البسيطة الآتية من الجهات الشرقية، ودائما تفضل أو تشجع الابحار في مسارات نحو المناطق الشرقية للبحر المتوسط . وحسب ماورد في المصادر القديمة، فإن المدة التي تصلها رحلة الابحار من كريت "Creta" إلى سوسة"Apolonia" هي يومان .
وعلى عكس الإبحار شرقاً، فنحو الغرب –أي في اتجاه مواني ترى بوليس"Tripolitania" أو نحو قرطاج –كان الإبحار أكثر صعوبة، والمتمثل في مواجهة الصعاب عند عبور خليج سرت .
هكذا نستطيع أدراك معنى" اقتراب " برقة من العالم الإغريقي والشرق بصفة عامة، ومعنى"ابتعاد" باقي الشواطئ  الإفريقية نحو الغرب يرجع إلى الظواهر الثقافية ،وتجد تبريرها في العناصر الجيوفزيائية كما يحدث في الغالب .
 في تاريخ برقة كانت العلاقات بحضارة مصر والمدن الشرقية هي الأكثر ممارسة، خصوصاً من الناحية التجارية، كما استمرت أيضاً هذه العلاقات بعد دخول المحافظة ضمن الإمبراطورية الرومانية، إن المنتجات الداخلة والخارجة إليها على الرغم من توقعات وصولها روما وبعض موانئ المدن الغربية للبحر المتوسط فهي تتبع  مسارات شرقية والتي خلالها تتعرض حمولة السفن لعدة تغيرات في إضافية لشراء وبيع البضائع .

نستطيع أن نؤكد الطرق التجارية القديمة التي وطأت برقة كان لها محطات أساسية كاليونان – وبالأخص بيلوبوميزوا ""Pelopnneso –وكريت "" ومصر، كما كانت رودي ""Rodi وديلوا"Delo" مراكز مهمة للتبادل التجاري .
من القنوات المفضلة هي تلك التي تمر عبر كريت"Creta"، فالعلاقات مع كريت كانت دائماً قوية، سواء بصفة ودية أو بصفة رسمية إدارية، وخير شاهد على قوة العلاقات تلك هي العديد من التسميات لمراكز كريت"Creta"-والتي نجدها تسمى بأسماء شخصيات من برقة .
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/ce8a0088-ca1a-48e0-9055-1cbdf622a950.jpeg  
في مصر أيضاً – مثل كريت"Creta" –كان من الضروري وجود جماعة من برقة بسبب العلاقات التجارية . وفعلاً كانت الاتصالات بالإسكندرية دائماً مفضلة، خصوصاً خلال العهد الروماني، حيث أصبحت الإسكندرية إحدى أهم المواني النشطة لكامل البحر المتوسط، وهو الميناء الذي من خلاله كانت تنطلق الكميات الضخمة من القمح الذي كانت توفره مصر إلى روما. 
مع أن حجم التهريب بقى دائماً أقل مقارنة بالضواحي الأخرى والتي كانت تنتج حاجاتها الاستهلاكية الأولى، وجدت أيضاً بعض منتجات برقة سوقها في روما، وجدت أخبار عن عمليات معتدلة لتصدير القمح والزيت والنبيذ والسليفوم ( طبعاً إلى أن كان العثور على النبتة ممكن ).القمح والسليفوم كانت المنتجات الأكثر طلباً، يتبعها الزيت والنبيذ والخيول . وكانت منتجات أخرى للتصدير كالجود والتمور الآتية من أوجلة ... وبالأخص فان عمليات تصدير الحبوب كانت دائماً سبب فخر لبرقة .
 
أحد الأعمدة الحجرية التي وجدت في مدينة ذكر عليها أن سنة327-328 قبل الميلاد استطاعت برقة تمويل قمح في فترة قحط لعدد43 مدينة يونانية، وهذه المعلومة فعلاً مدهشة حيث استطاعت تأمين أجمالي إنتاج يقدر بحوالي 805000 مديمنيوا "" Medimnoi (أي 48 مليون كجم)، من هنا نستطيع أن نفهم أن لبرقة القدرة على إطعام حوالي 240000 نسمة في السنة وتوزيع مثل هذه الكمية تتطلب حوالي 480 رحلة ،بمتوسط حمولة  100طن للرحلة، ونستطيع إذاً أن ندرك ضخامة الرحلات البحرية وازدحام مساراتها في تلك المناطق والتي كانت تقصد موانيها الأساسية .
بالانتقال إلى الحقبة الرومانية، نعلم أن بوبايوا"Pompeo" –أحد الشخصيات ذات النفوذ في روما في القرن الأول قبل الميلاد- كان يقدم القمح الآتي من برقة كتموين من أجل جيشه خلال الحروب التي كان يتزعمها .وفي العهد الامبراطورية  قمح برقة كان يصل إلى عدة مناطق في إيطاليا، خصوصاً المناطق الجنوبية منها، في موانئ بوزوالي"Pozzuoli" وكابوا"Capua"،ولكن وصل أيضاً إلى الشواطئ الشمالية شرقية لشبه الجزيرة الايطالية ،في ميناء اكويلا"Aquileia" ،وبهذا الخصوص وصلتنا أخبار عن عمليات استيراد من برقة بحوالي 6000 بالا (balle) من القمح و300 ميزورا (misura) مقياس من الزيت.
السليفوم منذ بداية تاريخ برقة، وجد سوق كبير في أثينا واليونان كما في الأزمنة الأولى للسيطرة الرومانية –قبل أن تنقرض النبتة –حيث كان يشكل المنتج الاكثر تصديراً وانتشاراً. 
ونعلم أن سنة93 قبل الميلاد، صدّرت برقة حوالي 30( ليبره ) لروما، وان بعد حوالي عدة عقود وجد محفوظاً في خزينة الدولة الرومانية، ليس فقط الذهب والفضة بل أيضاً كمية من السليفوم التي تقدر بحوالي 15000( ليبره ) . وفي العهد الذي يليه أصبحت النبتة نادرة حيث بعثت إحداها كهدية قيمة للإمبراطور نيروني"Nerone".
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/bd6cffa7-fa12-4c5b-8ab9-7c830b2f9e62.jpeg
الكثافة النباتية للضواحي تعرضت بجدية للخطر في السنوات 115-116 ميلادي، حيث كانت برقة في تلك الحقبة إحدى مراكز الإمبراطورية التي وجدت بها كثافة ( يهودية ) "Giudaica" مقيمة، أحدثت تمرد عنيف ضد الحكم السائد في المدينة، وفي الأرياف ضربت بالمجازر وعمليات التخريب... بالطبع تأثرت الحياة الاقتصادية للمنطقة بقوة كردة فعل لهذه الأحداث .
والتحليل التاريخي لبرقة في الحقبة الرومانية المتأخرة وجد أن الجوداي ( اليهود ) بالارتباط مع عوامل طبيعية أخرى مثل  الزلازل والجذب أو القحط، كانت الضربة القاضية للتطور بالمنطقة، من بعد تلك اللحظة استمرت عملية التدهور دون توقف.
 في القرون التي لحقت تم توضيح على وجه الخصوص المشاكل والصعاب وتم إعطاء صورة تمثل مجتمع مهمش ومتدهور والذي إذا ماقورن بروائع القرون الماضية يزيد من البؤس والظلام الذي وصلت إليه .
سلطت إيضاحات أكثر حداثة الضوء بصورة اكبر على عناصر يوية مازالت موجودة، وتوصلت إلى انه بالرغم من التغير في الظروف التاريخية والسياسية، فالمنطقة استمرت في حقبة صغر الإمبراطورية وإيجاد ازدهار داخلي، كما كان لها دور على الساحة الاقتصادية الخارجية .
يوفر لنا الأسقف سينازيو "Sinesio" على وجه الخصوص الانفتاح على مجتمع برقة، فبعد التحليل الايجابي لتصوره، نستطيع أن نستخرج صورة حيوية ونشطة . الثقافات التقليدية  للقمح والزيتون وأشجار العنب والأشجار المثمرة استمرت في الازدهار ،كذلك تربية المواشي –التي على العكس –استغنت في هذه الحقبة بعد إدخال الجمال إليها . طرق الاتصال كانت مستمرة النشاط داخل وخارج المحافظة . ومع ذلك، حقيقة الاكتفاء الذاتي لبرقة لم تحدد الاحتياجات لدفعات كبيرة من البضائع سواء داخلة أو خارجة منها. هذه علامة للاختلاف، ولكن ليس بالضرورة ان تكون ضخامة الانتقال للكثافة السكانية من المدن إلى الضواحي علامة افتقار ... تحولت في حالات عديدة المزارع إلى مراكز صغيرة تأوي جماعات من الأشخاص كما تستطيع إنتاج مايمكن  بيعه في الأسواق الساحل ... وتدخلت الزلازل لتهديد هذا الاتزان، حيث دونت تاريخياً أفعالها المدمرة كما نجد تأكيداً لذلك من خلال التحاليل الجيولوجية.

من الممكن أن المنطقة تأثرت بزلزال –رغم وجود أخبار لدينا إنه دمر مدينة كريت"Creta" سنة 251 بعد الميلاد-ولكن تم تأكيد تعرض برقة إلى زلزال سنة262 بعد الميلاد، وبالأخص برنيتشى( برنيق ) وبالتحديد الحي السكني ( سيدي خريبيش ) اثبت انه تم إخلائه في منتصف القرن الثالث بعد الميلاد، وقد ترجع أسباب إزالة المباني إلى سقوطها قبل تلك الحادثة .

حفريات علم الآثار في عدة مناطق من حوض البحر المتوسط والمتمثلة في المركز الشرقي منه تشهد زلزال أخر ينسب إلى سنة 306 بعد الميلاد، ونقصت الأدلة التي تؤكد تأثر برقة بهذه الحادثة الأخيرة ولكن من الممكن أن يكون قد شملها وذلك لأنه تم تأكيدها بالمناطق الموجودة بجوارها من الشرق والغرب .
بسبب زلزال عنيف سنة365 بعد الميلاد تأكدت وجود خسائر عظيمة . مما أدى إلى دمار العديد من المدن وأعمالها المعمارية والفنية العظيمة، في الوقت الذي أصبحت فيه المباني بعد ذلك أكثر فقراً، والحركة التخطيطية أكثر تعقيداً .
 ومن العوامل التي أثرت في افتقار المنطقة هو التغير الملحوظ للطقس، فان مستوى التساقط السنوي للأمطار تأثر بانحناء بسيط بدءاً من القرن الأول الميلادي وصولاً إلى جفاف الطقس . ومن الظاهر إنها شاهدت تقدماً في القرون التالية، حيث لوحظ أن حالة الطقس فقدت نع الوقت امتيازاتها السابقة، ففي القرن الثالث ميلادياً والأول مرة كتب المؤرخون عن برقة وذكروها كمنطقة جافة، خلافاً مع ذكر في العهود السابقة ،والتي دائماً تتحدث عن بلد مزدهر ومميز من ناحية الطقس والمردود الزراعي . وتأثير ظاهرة الجفاف لم تقتصر على المناطق المحلية فحسب، بل شملت مساحات أكبر ووصلت إلى الاراضي المصرية و( بصفة عامة ) كل المساحات الواقعة شرق حوض البحر المتوسط.

في القرن الذي يليه ساءت أيضاً الحالة البيئية بصورة ملحوظة جداً بالمناطق الجنوبية لحوض سرت، كما خلت المنطقة من السكان وذلك بسبب ندرة المياه .
في هذه الظروف الصعبة دخلت الجيوش العربية بقيادة "عمرو بن العاص" ،والتي دخلت مصر وفتحت الاسكندرية سنة 640 م، وتقدمت السنة التي تليها نحو الغرب وفتحت برقة أيضاً .
والقوة الجديدة لم تغير جذريا حالة وشكل المحافظة، في أثناء تم الفصل الحقيقي عن الماضي فقط في القرن 11م مع الاستعمار بني هلال .

 إن استقرار الحضارات الأساسية بمنطقة تتوسط البحر الأبيض المتوسط، يمثل حتى يومنا هذا غنى لبرقة لايقدر بثمن .
وزيارة هذه المناطق والتعرف عليها يعتبر تصفح لكتاب تاريخي ضخم .


المصدر:التاريخي 
من جامعة"لاسبيسيا"روما
UNIVERSITA    
Roma 

إليونورا قسبارينى Eleonora Gaspar




 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved