قُـطوفٌ من أفنان " الأقصُر"

2017-09-18
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/6903747a-1978-4ebb-8b09-fbe904131373.jpeg

 
أيّامٌ أربعةٌ ما زالتْ بين يدَيّ، وأنا في " الأقصُر" .
فجرَ الثلاثاء 28 فبراير ( شباط ) سأعود إلى لندن، العاصمة الإمبراطورية، حيث مُقامي . 
لستُ متلهِّفاً على العودة إلى أوربا .
ولستُ حزيناً لمغادرتي " الأقصُر "، فأنا عائدٌ إليها، في موعدٍ غيرِ بعيد، لأقيمَ طويلاً ...
*
أستاذي المرحوم الدكتور مصطفى جواد، كان يقول إن العاميّة المصرية هي الأقربُ إلى الفصحى، بين اللهجات الدارجة في أرض العرب .
ولأنني جوّابُ آفاقٍ، مغرَمٌ بالمقارنة، أجدُ  مقالة أستاذي العظيم، وقد اكتسبتْ بُرهانَها، بُرهانَها الساطعَ، في صعيد مصر، حيث " الأقصُرُ " حاضرةٌ ليس مثلها من حاضرة .
هنا، لا أستخدم سيارة الأجرة " التاكسي " إلاّ مضطرّاً .
أفضِّلُ الحافلة الصغيرة، الميكروباص .
والسبب ؟
أريدُ أن أُرهِفَ السمعَ  :
النسوة يتحدثْنَ عن أفراحهنّ ومتاعبهنّ . والرجال بأصواتهم الهادرة يتحدّثون عن يومهم وألَمِهم .
في الحافلة الصغيرة، أظلُّ أتأكّدُ من أطروحة أستاذي، الدكتور مصطفى جواد، الذي علّمَ فيصلَ الثاني فصاحةً تليق بالهاشميّين .
*
في  البرّ الغربيّ، كنت أبحث، مع إقبال، عن شقّة معقولةٍ نقيمُ فيها طويلاً .
وفي دربٍ مُتْرِبٍ، كالعادة، ضحكنا مع أطفالٍ، وغنّينا مع نسوةٍ، ودخلْنا شقّةً معروضةً للإيجار .
لقاءُ أصحاب الشقّة كان أهمَّ لدينا من الشقّة نفسِها :
استقبلتْنا سيدة الدار .
ثم جاء سيدُ الدار .
والأطفال.
ونسوة الجار .
والهولندية سابينا التي تجاور أهل الدار منذ سنين سبعٍ .
جاء الشاي، ودخل أطفالُ الجيران .
كنا في مهرجان للفرح الإنسانيّ افتقدناه منذ حللنا تلك القارة الملعونة : أوربا !
*
حرصتُ، وأنا في الحاضرة الصعيديّة، على التشرُّبِ برواءِ الحياة الشعبية، حياة الناس البسطاء، أمثالي .
لم أسْعَ إلى لقاء مع " مثقفين "، فأنا أدرى بالساحة، أعني أنني لستُ سائحاً .
المرءُ لايكون سائحاً في بلاده .
*
أذهبُ إلى" طِيبة الجديدة " .
سيدة  عراقية، ذات منبِتٍ رفيعٍ، من أقارب إقبال، تسكن هناك منذ سنين، متزوجة من سيّدٍ هناك .
منزل السيدة وسط حقل واسع :
قصبٌ وبرسيم وشعير .
ماعز وبقر .
جاموسة متثائبة .
النسوة جالساتٌ عند أبوابِهن .
رأيتُ سيدةً تنظِّفُ ما بدا لي ملوخيّةً خضراء . سألتُ السيدةَ : أهي ملوخيّة ؟ أجابتني : لا . إنه برسيمٌ للبقرة !
في بيت السيدة العراقية ( زوجها غائب في السعودية ) عرّفوني على رسّامة "طِيبة الجديدة ". جاءتْ بكامل نقابِها . النقابِ الذي  لن يُخفي عينيها الجميلتين .
ما ذا ترسُمين يا فاطمة ؟
كل شيء !
*
في شارع الطيّب، المتفرع عن " المدينة المنوّرة "، عيادة أسنا .
أذهبُ إلى العيادة كي أُصْلِحَ ما أفسدَ الدهرُ من أسناني .
لكني أسمعُ، وأستمتعُ :
العيادة كانت مدرسةً للّغةِ العربية، في أصولِها وتاريخِها وتطوُّرِها .
في أوتيل " لوتس" العامر، سألتُ البستانيّ  عن لون الحشيش .
قال : النجيلةُ تخضَرُّ هنا بالبرد !
*
إذاً، ها هي ذي لُغتُنا الجميلةُ تعود إلينا، معافاةً، على لسان البستانيّ الفصيح !
رحِمَ الله أستاذي، المرحوم مصطفى جواد !

الأقصُر  24.02.2017




سعدي يوسف

 شاعر عراقي وكاتب ومُترجم، وُلد في ابي الخصيب، بالبصرة عام 1934. اكمل دراسته الثانوية في البصرة. ليسانس شرف في آداب العربية. عمل في التدريس والصحافة الثقافية . غادر العراق في السبعينيات وحاليا يقيم في لندن ونال جوائز في الشعر: جائزة سلطان بن علي العويس، والتي سحبت منه لاحقا، والجائزة الإيطالية العالمية، وجائزة كافافي من الجمعية الهلّينية. في العام 2005 نال جائزة فيرونيا الإيطالية لأفضل مؤلفٍ أجنبيّ. في العام 2008 حصل على جائزة المتروبولس في مونتريال في كندا . وعلى جائزة الأركانة المغربية لاحقاً

عمل كعضو هيئة تحرير "الثقافة الجديدة".

عضو الهيئة الاستشارية لمجلة نادي القلم الدولي PEN International Magazine

عضو هيئة تحرير مساهم في مجلة بانيبال للأدب العربي الحديث .

مقيم في المملكة المتحدة منذ 1999.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved