هل لنا من ابن خلدون آخر لتشخيص عللنا المزمنه دون ان تناله سكاكين البنلاديين والصدريين ؟
المؤرخ الشهير ابن خلدون رائد علم الاجتماع الحديث، مازال تأثيره ممتدا حتى اليوم، ولد في تونس عام 1332، وكانت أسرته ذات نفوذ في إشبيلية في الأندلس، و تنحدر من أصل امازيغي والبعض ينسبونه الى العرق العربي الا ان الكثير من الادلة تؤكد انه امازيغي الاصل ومن بينها ملامح وجهه كما قال في كتاباته، هاجرت اسرة ابن خلدون إلى تونس أيام حكم الحفصيين .
يعد ابن خلدون من كبار العلماء الذين انجبتهم شمال افريقيا، اذ قدم نظريات كثيرة جديدة في علمي الاجتماع والتاريخ، وبشكل خاص في كتابيه (العبر والمقدمة). وقد عمل في التدريس في بلاد المغرب، بجامعة القرويين في فاس، ثم في الجامع الازهر في القاهرة، والمدرسة الظاهرية، وغيرها من محافل المعرفة التي كثرت في ارجاء العالم الاسلامي المختلفة خلال القرن الرابع عشر. وقد عمل ابن خلدون في القضاء أكثر من مرة، وحاول تحقيق العدالة الاجتماعية في الاحكام التي اصدرها. وقد وصف ابن خلدون معاناته في هذا المجال في كتاب مذكراته التعريف بابن خلدون .
كان ابن خلدون موسوعيا فيما كتبه، وعالميا في أحوال البشر وقدرته على استعراض الآراء ونقدها، وكان يملك دقة الملاحظة مع حرية في التفكير وإنصاف أصحاب الآراء المخالفة لرأيه. وقد كان لخبرته في الحياة السياسية والإدارية وفي القضاء، إلى جانب أسفاره الكثيرة في شمالي إفريقية وغربها، ثم مصر والحجاز والشام، أثر بالغ في موضوعية كتاباته عن التاريخ، ومن ملاحظاته يرى ابن خلدون (1406م) في مقدمته، أن فلسفة العلوم قد استحدثت مع انتشار العمران، وأنها كثيرة في المدن ويعرِّفها قائلاً :
(أن قومًا من عقلاء النوع الإنساني زعموا أن الوجود كله، الحسي منه وما وراء الحسي، تُدرك أدواته وأحواله، بأسبابها وعللها، بالأنظار الفكرية والأقيسة العقلية، وأن تصحيح العقائد الإيمانية من قِبَل النظر لا من جهة السمع فإنها بعض من مدارك العقل، وهؤلاء يسمون فلاسفة جمع فيلسوف، وهو باللسان اليوناني محب الحكمة. فبحثوا عن ذلك وشمروا له وحوَّموا على إصابة الغرض منه ووضعوا قانونًا يهتدي به العقل في نظره إلى التمييز بين الحق والباطل وسموه بالمنطق)•
يحذّر ابن خلدون الناظرين في هذا العلم من دراسته قبل الاطلاع على الشرعيات من التفسير والفقه، فيقول:
(وليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التفسير والفقه ولا يُكبَّنَّ أحدٌ عليها وهو خِلْو من علوم الملة فقلَّ أن يَسلَمَ لذلك من معاطبها) لهذا فان الدراسين الغربيين وصفوا سرد أبن خلدون للتاريخ بانة أول سرد حقيقي للتاريخ.
يقسم الدكتور علي عبد الواحد وافي كتاب (حياة ابن خلدون) إلى أربع مراحل، الاولى مرحلة النشأة والتلمذة حتى بلغ العشرين عاما قضاها كلها في تونس، أمضى منها نحو خمسة عشر عاما في حفظ القرآن وتجويدهن و بالقراءات والتلمذة وتحصيل العلوم. والمرحلة الثانية، مرحلة الوظائف الديوانية والسياسية، وتمتد خمسة وعشرين عاما، عاشها متنقلا بين بلاد المغرب وهي الآن تونس والجزائر والمغرب حتى الأندلس، وقد استأثرت الوظائف الديوانية والسياسية بمعظم وقته وجهوده أثناء هذه المرحلة. ثم المرحلة الثالثة وهي الاهم في حياته التفرغ للتأليف، وامتدت نحو ثمان سنوات، قضى نصفها الأول في قلعة ابن سلامة ونصفها الأخير في تونس، تفرغ فيها تفرغا كاملا لتأليف كتابه (كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر).
ويتضمن (المقدمة) في قسمه الأول. اما المرحلة الرابعة فهي مرحلة القيام بالتدريس والقضاء وتمتد أربع وعشرين سنة، عاشها كلها في مصر، وقد استأثرت وظائف التدريس والقضاء بأكبر قسط من وقته وجهوده
.
اوفى الدكتور علي عبد الواحد في كتابه ابن خلدون حقه خاصة الايام التي أخذته وحطته في حوادث مثيرة وملابسات عجيبة، لعل أكثرها إثارة مقابلته في دمشق (تيمور لنك)، التتري الفض، وكيف كان لطيفا دمثا معه، والكوارث الجمة التي ألمت به منذ مطلع حياته حين أدى الطاعون الجارف إلى موت والديه وأصدقائه وأساتذته، وهو لم يتعد الثامنة عشرة من عمره، ثم كارثة غرق زوجته وأولاده جميعا وهم قادمون في السفينة من تونس إلى مصر، حين ضربتها ريح عنيفة عند وصولها الإسكندرية فتحطمت وكانت له نكبة فوق نكبته موت أسرته وضياع الكثير من ماله ومتاعه وكتبه، وكان آنئذ في الخامسة والخمسين.
عاش ابن خلدون حياة مصطربة مليئة بالارتفاع والهبوط ومع ذلك فقد كان فوق عصره الردئ، فقد صعد إلى منصب يوازي رئيس الوزراء ثم وقع في السجن والنفي والتهجير والهرب، ثم الصعود تارة أخرى إلى منصب قاضي القضاة ثم عزل أربع مرات في خلال خمس سنوات بفعل الدس والمكيدة والحسد. كان ابن خلدون دبلوماسياً ايضاً فقد أُرسل في أكثر من وظيفة دبلوماسية لحل النزاعات بين زعماء الدول، فقد عينه السلطان محمد بن الاحمر سفيراً له إلى امير قشتالة للتوصل لعقد صلح بينهما، وبعد أعوام استعان به اهل دمشق لطلب الامان من الحاكم المغولي القاسي تيمورلنك، وتم اللقاء بينهما.
كان المغرب أيام ابن خلدون بعد سقوط دولة الموحدين الامازيغية التي كانت لها جذور في الاندلس. وحكمت المغرب ثلاثة أسر، بدأت بسيطرة المرينيين الامازيغيين غرب الجزائر الذي كان تحت سيطرة آل عبد الودود في تونس و شرقي الجزائر وكانت برقة تحت سيطرة الحفصيين، وكان التصارع بين هذه الدول الثلاث على أشده للسيطرة ما أمكن على الشمال الإفريقي.
يعد ابن خلدون إماما ومجددا في فن السيرة الذاتية، وكما يذكر الدكتور علي وافي (صحيح أنه قد سبق ابن خلدون في هذا الفن كثير من مؤرخي العرب وأدبائهم، كياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان، ولسان الدين بن الخطيب "معاصر ابن خلدون وصديقه" في كتابه الإحاطة في أخبار غرناطة، والحافظ بن حجر "معاصر ابن خلدون" كذلك في كتابه رفع الأصر عن قضاة مصر، ولكن هؤلاء وغيرهم. قد قنعوا بتراجم موجزة، أما ابن خلدون فهو أول باحث عربي يكتب عن نفسه ترجمة رائعة مستفيضة يتحدث فيها عن تفاصيل ما جرى له... فلا يغادر شيئا مما عمله أو حدث له إلا سجله، حتى الأمور التي يحرص الناس عادة على كتمانها لما تنم عليه من خلق غير كريم). ويضيف د. علي وافي عن عبقرية ابن خلدون في (أنه المنشئ الأول لعلم الاجتماع، إمام ومجدد في علم التاريخ، إمام ومجدد في فن السيرة الذاتية، إمام ومجدد في أسلوب الكتابة العربية، إمام ومجدد في بحوث التربية والتعليم وعلم النفس التربوي، راسخ القدم في علوم كتب الحديث، ومصطلح الحديث، ورجال الحديث، راسخ القدم في الفقه المالكي، أنه لم يغادر أي فرع آخر من فروع المعرفة إلا ألم بها).
ابن خلدون كان رجل منهج وقضية واقام من التاريخ وسيلة لرسم المنهج وتبيان القضية وكان مفكراً ينظر الى احوال أمته فلا يرى فيها إلا تخلفا وانحطاطا. وكان يدرك ان المفكر وحده يمكن ان يسهم في ردع ذلك الانحطاط وانقاذ ما تبقى من امل. وكان يرى الانحطاط يكمن في عدم فهم الناس للتاريخ بسبب الزيف الذي لُفَّ التاريخ الموروث، فصار مجرد نصوص توضع في خدمة السلاطين تبرر لهم افعالهم وتجملها. وابن خلدون حاول كل جهده اخراج التاريخ من اطار التزييف الذي نراه الآن في عصرنا خاصة كل مافي الآخرين الزيف اما نحن اصحاب التاريخ وهذا بعض ما فعلة صدام حين اعاد كتابة التاريخ وكان التاريخ شوربة عدس .
وينبغي ان لا ننسى ان الزمن الذي كتب فيه ابن خلدون مقدمته كان الزمن الشاهد على عصور الظلمات العربية، ومن هنا لم يكن في امكان الفكر الخلدوني إلا ان يكون حاداً عنيفا هجوميا. كان ابن خلدون جريئا في طرح افكاره وسط تدهور عالمه متحديا قوى الشر في زمانه.
لعل اهم ما استخلصه ابن خلدون من فكر بارع جريء قوله (العرب اهل بداوة وعصبية) وهو فهم لم يصله احد من قبلة فبدواتهم جعلتهم رغم تقدم الزمن يكرهون الآخرين الذين ساروا معهم فظهر ما يعرف في العصر لعباسي المتقدم بالعرب والاعاجم مما ادي الى انهيار العصر العباسي بسبب التعالى العربي. اما العصبية فقد انعكست في الحياة في الاندلس اذ حدث التطاحن العربي بين المضريين اهل القبائل العربية في الحجاز واليمانيين اهل الجنوب فتفرقوا دون ان يدروا ثم حدثت الكارثة. ولايزال الكثرة الكاثرة منهم تتجمع في جمعيات تحت انتماءاتهم الطائفية اكثر من انتماءاتهم للبلدان التي أتوا منها. وكانهم ليس من طبيعتهم التفكير في انتماءاتهم البلدانية بقدر اهتماماتهم الطائفية ولهذا لاتري العراقي يجلس في صف واحد في الاجتماعات اذ لا يجلس الا مع العراقي من طائفته وهذا شأن المصري والسوري واللبناني. انها شكل من اشكال البداوة والعصبية التي شخصها ابن خلدون قبل سبعة قرون وكانه لايزال يقيم في العصر الحديث.
رحل ابن خلدون الى الدار الآخرة في مصر عام 1406ودفن في مقابر الصوفية ، وﻷبن خلدون تمثال شاخص امام كنيسة كاثوليكية في تونس، كان ابن خلدون واحدا من نوابغ الفكر والعلم والحضارة والتنوير الصحيح وكان تراثة مبعثرا في مكتبات مغلقة ولم يبق في كثير من الاحيان ترجمات عبرية او عصر النهضة الاوربية حتى كشفها المستشرقون فأخرجوها الى النور ودرسوه دون ان يعرف العرب ان لهم تراث مدفون، ابن خلدون الذي عاش عصر المماليك مفترا عليه، واخيرا احتفل بالمئوية السادسة لرحيل مؤسس علم الاجتماع والتاريخ، ابن خلدون الرجل الذي هَدْم جمود مكتوبات التدوين المفبرك في العصور المواضي الم تنل ايادي لادنيوا الازمنة الراحلة وصدرييهم، كما فعلوا بكتب الحلاج بعد ان علقوه على جسر بغداد. ابن خلدون الذي أسس علم التاريخ وانتشل امته من انحطاط مازال قائما في عصر دفقات التنوير في زمننا ولكن انى لنا في مسيرة جديدة والسيوف مسلطة على رقاب التاريخيين في زمننا الحاضر وليس لنا الا ان نلوك التاريخ كما لاكوه