الصوت : بين خلل الهوية الجنسية والجرأة على أن نعرف
الورقة المشاركة في الأمسية النقدية التي اقامتها مؤسسة أقلام الريادة الثقافية بالتعاون مع قصر الثقافة والفنون في البصرة 1/ 6/ 2022
في روايتها الثالثة (رحلة اليعسوب) نادية الآبرو تشتغل على موضوعة ترصد بلغة روائية: نتاج الاضطراب الجنسي المتسبب في نقص إنزيم معين وهذا النقصان سيفعّل خللاً في هرمون التستوستيرون وتكون النتيجة إحداث تشويشاً في البث، فالخلايا تصلها إشارات ملتبسة وهذا الالتباس يجعل المخ مشوشًا حول الهوية الجنسية للجنين : هل هو من الذكور؟ أم الإناث ؟ وهناك من يطلق عليه مرض الترانزسكس .
(*)
محور الرواية هو الصراع المركب بين خلل الهوية الجنسية والجرأة على أن نعرف، وكيفية تصحيح الهوية الجنسية وهذا التصحيح سيواجه عداءً عائلياً وغضباً مجتمعيا ومحاربة الشخص الضحية .
(*)
قراءتي تدخل للموضوعة من جانب يتناغم مع مشروع قطعتُ شوطاً وصل إلى صيغة كتاب نقدي : الصوت : كشخصية رئيسة في الرواية .
(*)
تستقبلنا الرواية مع السطر الأول بهذا الخبر( الصوت يلاحقني..) ثم يتساءل صوت المتكلم وليس الصوت الذي يلاحقه ُ(أعجب من أمره للغاية، كيف !) ومن هذه الكيفية المتسائلة تتشقق كيفيتان (كيف لا يزال يتسرب إلى مسامعي، يوقد نار الذكرى،) وها هي الكيف الثالثة ( كيف لم يته عني ؟ وأنا نفسي بت أتيه عنها !/7) وفي السطر الثامن من الصفحة نفسها يعلن صوت المتكلم .
(لن أسمح اليوم لذلك الصوت أن يؤرقني) وفي ص 19 تكون الغلبة للصوت المباغت / المتفرد (الضجيج يزداد ويرتفع صوته في أعماقي، وذاك الصوت ما يفتأ يهز كياني) وهذا الصوت يتقمص كابوساً (ذلك الصوت الذي يتسلل إلى أحلامي لأصحو مبتلة بعرق الضيق والإذلال/ 39) والشخصية المحوري ( لا تستطيع صم أذنيها عن ذلك الصوت المجلل/ 41) .
(*)
وهناك الصوت الملتبس وهو صوت غنائي للشخصية المحورية ذاتها (أن طبيعة وطبقة صوتي قد أثارت حيرة الكثيرين وشكوكهم/ 20).. هنا تنتقل وظيفة الصوت من التنبيه : إلى التشويق المتسائل عن ماهية الحيرة والشك . وبعد صفحة يتعطل الصوت وينشط النقيض (جلستُ على حافة السرير لبضعة دقائق صامتة لا أجد ما أقوله/ 21) هل انبثاق الصمت هو امتداد الندم على قول ٍ بدر من المرأة، حين تخاطب الرجل وقد اقتنصت حرجه من فوضى الغرفة (لا عليك تلك ليست أول مرة) ؟ وينتقل الصوت من الصمت إلى الكلام المستهين بالمخاطب (رمت كلماتها الباردة مع مغلف ورقي أسمر اللون بعجالة على الطاولة، ابتعدت بناظرها وهي تقول : هذه النقود لك، خذها وأرحل بعيدا عنا/ 32) هنا نكون مع الصوت الأم وهي تخاطب الشخصية الرئيسة في الرواية . وهذه الشخصية تتشرنق في حوارها الجواني ثم سرعان ما تلجمه (..أصمت ألا تعرف أن تخرس ؟ !/ 34) .. وصدمة المشهد حين يرى غيلان أمه منزوعة الصوت والذاكرة، في دار العجزة (تجلس على سريرها صامتة محدودبة / 52) ويكون رد فعله صمتاً أشد وجعا (شعرتُ بالاختناق، غصة كبيرة تعلق بحلقي، تسد الطريق على صوتي، فلا أعود قادرة على نطق حرف/ 52).. وهنا عين الام وهي تبصر بقية ابنها الذي كان اسم (غيلان) وتفّعل بكل جهدها صوتاً نحيلاً (همست بصوت متهدج خافت : غيلان/ 53 .
(*)
من جانب آخر يكون صوتها : وسيلة انتاج للرفاهية والتميّز
(صار لزاما ً عليّ أن أحافظ عليه بمزيد من الحرص في اختيار الأشعار والألحان التي تناسب شخصية صوتي وجهوري/ 39) هنا الصوت : سلعة فنية ومرتهنة بضمان الجمهور المتابع، والصوت الغنائي هنا تحدي/ تصدي (أسير الى جادة النجاح والشهرة في توق هائل للتعويض عن كل ما قاسيته من رفض وازدراء) .وفي النهاية ينتصر هذا الصوت الملتبس الذي تريد تلويثه الشائعات ويضغط عليه الابتزاز المالي ويكون الانتصار اشهاراً للوجه الأصل لصاحب/ صاحبة الصوت (بصوت رزين هادئ لا أدري كيف دوزنت أوتار حنجرتي عليه رغم ما يداخلني من مشاعر مضطربة متناقضة احتدم الصراع بينها/ 237) وفي هذه اللحظة السردية المستدقة تقحم الساردة حدثا مأساويا لأحدهم وهذا الحدث يقوم بتقطيع السرد حد أرباك اللحظة الاخيرة بالنسبة للقارئ، ثم تعيدنا السارد لشاشة الصور المعروضة لشاب .
وتخبرنا ( قلت بصوت جهوري واثق وأنا اتطلع في الوجوه المنتظرة : إنه أنا يا سادة.. إنه أنا فأردفت أردد بالصوت الهادئ ذاته : إنه أنا ولكم كل الحرية في رفضي وقبولي/ 240) .
(*)
إذن هناك صوت يلاحق السارد، وصوت السارد الذي يخبرنا بتلك الملاحقة . يحدد فاعليته ُ بحيز الوظيفة التنبيهية للقارئ وهي وظيفة تنسج ُ تواصلاً بين السارد والقارئ وتكتفي بذلك ولا تخبر القارئ عن ماهية الصوت .
(*)
وقراءتي هي محاولة فهرسة الأصوات في الرواية : تنتقل الرواية صوتياً بين الجواني والبراني : الذات تحاور ذاتها أكثر مما تحاور الآخر، والتحاوران هما وسائط نقل الشخص المحوري في الرواية بين الأمكنة والأزمنة من مدينة البصرة إلى بحر مرمرة وغيرهما .
*نادية الآبرو/ رحلة اليعسوب/ دار نينوى/ دمشق/ ط1/ 2021