«احم
ل الراية واكمل المسيرة» كانت وصية عاصي الرحباني لشقيقه منصور، وهو ينازع الموت وقلبه على فنه وموسيقاه وشقيقه توأم روحه الذي لم يخذله، فأكمل المسيرة التي انطفأت شعلتها صباح 13/01/2009 . رحل منصور الرحباني، لم يرحل فجأة، لم يغدر عشاق فنه، بل مهّد لهم من على فراش مرضه الذي يرقد فيه منذ أكثر من شهر، شهر كان طويلاً، احترقت فيه غزة، قتل أطفال عرب، تألم منصور الرحباني لمأساة الأطفال الذين أهداهم رائعة فيروز «القدس العتيقة»، وآلمه إهمال الدولة اللبنانية التي قد تتحجج فيما بعد بمأساة غزة، لتبرر نسيانها لرمز وطني يضاف إلى رموز فنية رحلت على فراش النسيان والإهمال والمرض والألم.
الدولة اللبنانية أهملت منصور كما أهملت عاصي من قبل، إهمال دفع بالدولة السورية إلى اتخاذ قرار بعلاج الرحباني عاصي على نفقتها الخاصة، كما باشرت السفارة السورية في بيروت أول أعمالها بزيارة منصور الرحباني في مستشفى حيث يتلقى العلاج، وغاب كبار رموز لبنان عن عيادة الفنان في بلد اعتاد خيانة الرموز الفنية وتقديس الزعماء.
في أنطلياس المنطقة الجبلية القائمة على كتف بيروت، ولد عاصي عام 1923 وبعده بعامين ولد شقيقه منصور عام 1925 في منزل والدهما المناضل حنا الياس الرحباني، الذي كان محكوماً عليه بالإعدام من قبل العثمانيين. فتمكن من الهرب ولجأ إلى أنطلياس، حيث فتح مقهى في المنطقة وأطلق عليه اسم «الفوار» ولا يزال المقهى الأشهر في المنطقة.
كان الوالد حنا صارماً في تربيته لأولاده، وكان رجلاً محافظاً يحمل من القرية اللبنانية تقاليدها العريقة، وضع قواعد صارمة تتعلق بالآداب والأخلاق العامة، كان يفصل قسم العائلات عن الأقسام الأخرى في المقهى، وكان يحظر الاختلاط في مطعمه. ورغم قسوته كان حنا محباً للموسيقى، كان يعزف على «البزق» في أمسيات المطعم، جامعاً حوله زبائنه والولدين الصغيرين ليستمعوا إلى عزفه، بالإضافة إلى بضعة أغانٍ قديمة على الفونوغراف، خاصة أغاني أم كلثوم، أمين حسنين، عبد الوهاب وسيد درويش.
كان عاصي ومنصور يدرسان ستة أشهر في المدرسة كل عام، ثم يخرجان ليساعدا والديهما في موسم الربيع، بعد أن يقنعهما الوالد بأن ما حصلا عليه من علم كافٍ لتلك السنة.
في هذا الجو القروي نشأ الصبيان، وكان لجدتهما لأمهما الأثر الكبير في تربيتهما، فقد كانت تحفظ الكثير من الحكايا والخرافات، وكانت تنظم الزجل على الرغم من كونها أمية، وكانت تشجعهما على حفظ الموروث الشعري.
موهبة الولدين بدأت بالظهور من «العلية» حيث كان الوالد يسجنهما لكي يبقيا بعيدين عن بقية الصبيان، فكان عاصي يخترع حكايات عن الجن لكي يسلّى أخوه الصغير، الذي كان يصدق كل ما يقوله.
يقول منصور في إحدى مقابلاته الصحفية: «كانت علامات الذكاء واضحة عند عاصي منذ البداية، وكانوا يتوقعون أن يصبح شاعراً أو فناناً في المستقبل. أما أنا فكانوا يقولون إني سأصبح قاطع طريق في أحسن الأحوال».
لم تكن مرحلة الدراسة الأولى منتظمة بالنسبة للأخوين رحباني، مع هذا كان عاصي مواظباً أكثر من منصور، الذي كان يخترع الحيل والمناورات حتى لا يذهب إلى المدرسة.
كان منصور يحب الشعر منذ طفولته، وبدأ أولى محاولاته في كتابة الشعر في سن الثامنة، وفي الثانية عشرة من عمره اشترك في مجلة «المكشوف»، وبعدها في مجلات أدبية أخرى كان عاصي يشاطره قراءتها بشغف كبير، ثم انكبّا على قراءة كتب الفلسفة، وكتب «طاغور» و«ديستويفسكي» ومسرحيات «شكسبير».
من هنا انطلق الإبداع
في عمر الرابعة عشرة، أسس عاصي مجلة اسمها «الحرشاية» حيث كتب بخط يده أولى محاولاته الشعرية، والقصص المسلسلة باللغة العربية الفصحى أو بالعامية اللبنانية، كان يوقعها بأسماء مستعارة، ويذهب ليقرأها من بيت إلى بيت في نهاية كل أسبوع.
غيرة منصور من أخيه الأكبر دفعته إلى أن يؤسس مجلة أخرى مشابهة، أسماها «الأغاني» حيث بدأت المنافسة بينهما.
لم تكن أمور المطعم في الفوار على ما يرام، فاضطر والدهما إلى بيعه، ثم اشترى مقهى صغيراً في منطقة «المنيبيع» كما افتتح مطعماً في أنطلياس حيث كان يعمل فيه في الشتاء، ثم تدهور وضع الأسرة الاقتصادي، فاضطر عاصي ومنصور للمساعدة، فعملا في قطاف الليمون، ثم انصرفا لمساعدة والدهما في المطعم.
ساعدت بيئة المنطقة على اختزان الكثير من الذكريات التي استعملاها فيما بعد في أعمالهما، كانت الطبيعة، الأحراج، الحيوانات، كتبهما، تعرفا إلى المقالع والبارود ولغة الصخر، وهناك ولدت شخصيات «سبع» و«مخّول».
بعد سنة، عادا إلى أنطلياس، حيث التقيا الأب بولس الأشقر، وقد شكل هذا اللقاء تحولاً أساسياً في حياتهما، وقتها طلبا منه الانضمام إلى جوقة الصلاة والتراتيل التي كان يعلمها، فوافق على انضمام منصور فقط، ولم يأخذ عاصي لأن صوته كان قد بدأ «يرجّل» في نبرة وسيطة بين الخشونة والنعومة، لكنه سمح له بتعلم الألحان دون أي مشاركة فعالة.
تعلّما العزف على البزق لوحدهما، ولاحقاً وجد عاصي ورقة عشر ليرات على أرض المقهى، فأخذها واشترى كماناً، وصار يعزف عليه بالإضافة إلى متابعة دراسته الموسيقية على يد الأب بولس الأشقر.
درسا علم «الهارموني» وتاريخ الموسيقى الشرقية من كتب نادرة كانت بحوزة الأب بولس، وسرعان ما بدآ بالتأليف، وكان أول عمل نشيداً بمناسبة عيد الأب بولس الأشقر، ثم ألحاناً دينية وبصورة خاصة المزامير، بالاشتراك مع الجوقة.
ومع هذا لم تقتصر موهبتهما على الموسيقى فقط، حيث كان شغفهما بالمسرح كبيراً، تعرفا إلى المسرح في مدرسة فريد أبو فاضل والمدرسة اليسوعية في بكفيّا، ومع أنه لم تكن هناك حركة مسرحية ناشطة في لبنان في ذلك الوقت، إلا أن ذلك لم يمنع من تقديم أعمال مسرحية هنا وهناك عندما تسمح الظروف، ثم أصبح المسرح هاجساً لديهما، إلى أن كتب يوسف لويس أبوجودة مسرحيات لهما خصيصاً بالعامية اللبنانية.
وقبل أن يبلغا سن الرشد، أسسا «نادي أنطلياس الثقافي» حيث حاولا من خلاله تقديم بعض النشاطات الثقافية والاجتماعية بمساعدة شبان البلدة، قدما حفلات غنائية، ثم وضعا ألحاناً لإدخالها في المسرحيات، وكانت باكورة أعمالهما مسرحية «وفاء العرب» التي ألّفاها ولحناها ومثّلا فيها، ثم مسرحيات أخرى كانت إما من تأليفهما، أو بالمشاركة مع آخرين.
الأخوان في قبضة الشرطة
وفي عام 1944 بدأت مرحلة جديدة في حياتهما الفنية، حيث بدآ بتقديم مسرحيات غنائية طويلة وذات قصة، كما نظما ولحنا أغنيات قصيرة لا تتجاوز مدتها دقيقتين أو ثلاث دقائق، وكان لها حضور إيجابي في إذاعة دمشق، وإذاعة الشرق الأدنى، حيث تجاوب معهما مدراء تلك الإذاعات، ووجدوا فيها نمطاً جديداً للأغنية، غير الأغنية الطويلة التي كانت سائدة، التي كانت تعتمد على الترداد والتطريب، لكن التدهور المالي للعائلة لم يسمح باستمرار النشاط الفني، ففي سن السادسة عشرة، انضم عاصي إلى سلك البوليس بعد أن اضطر إلى تكبير سنه كي يحق له التقدم إلى الوظيفة، ثم فعل منصور الشيء نفسه.
كان عمل عاصي في البوليس في أنطلياس، وكان رئيس البلدية وقتها وديع الشمالي محباً للفن وعازفاً على الكمان، مما شجع عاصي على الهروب من وظيفته ليمارس هوايته، ويعود في آخر الشهر ليقبض راتبه.
أما منصور فقد كان عمله كبوليس في قسم الأمن العام في بيروت، وكعاصي كان يهرب من وظيفته ليحضر الحفلات الفنية، كان العمل الفني ممنوعاً عليهما، باعتبار أنهما يعملان في سلك البوليس، لكن هذا لم يكن ليمنع سعيهما نحو الفن. كانا يتنكران بثياب مختلفة، وأحياناً يضعان شاربين مستعارين، لكن لم يوفّقا في إخفاء شخصيتهما الحقيقية كل الوقت، فقد قبض عليهما أو كاد أن يقبض عليهما مرات عدة، لكن في كل مرة، كانا يستطيعان التملص بطريقة أو بأخرى، وبشكل أساسي لأنهما كانا أولاد حنا الرحباني المعروف والمحترم.
بعد الحرب العالمية الثانية، قرر عاصي ومنصور أن ينتقلا من الهواية إلى عالم الاحتراف، وكانت الإذاعة الطريق الوحيد للانطلاق في المجال الاحترافي. تعرفا في البداية على إيليا أبو الروس وكان عليهما أن يخضعا لامتحان، فقدما في الامتحان بعضاً من أعمالهما الخاصة، إلا أنها لم تلق ترحيباً من قبل اللجنة الفاحصة، باستثناء ميشيل خياط.ادعى أعضاء اللجنة أن تلك الأغاني تتضمن كلمات غريبة وغير مألوفة في الأغنية العربية عموماً واللبنانية بشكل خاص، مثل: «ليش»، «هيك»، «جرد».. وهكذا رفض كورس الإذاعة ومطربوها أن يغنوا للرحبانيين، فأحضرا أختهما سلوى وأسمياها نجوى لتؤدي أغانيهما في الإذاعة.
حول هذا يقول منصور: «نحن جئنا بتفكير شعري، وبموسيقى مغايرة، غيرنا كل شيء، لماذا؟ لا أعرف، تأثرنا بعبد الوهاب، تأثرنا بسيد درويش تأثرنا بالعديد من الفنانين، لكن عندما جئنا لنكتب، كتبنا بلغتنا الخاصة وفي رأيي على الفنان أن يقول جديداً وإلاّ فليصمت...»
مع استمرار تقديم أعمالهما، بدأ يؤمن بهما بعض الأشخاص، ومن هؤلاء فؤاد قاسم رئيس مصلحة الإذاعة، الذي تبنى أعمالهما، وطلب من عاصي الذي كان قد تعلم العزف على الكمان في الكونسيرفاتوار، أن ينضم إلى الإذاعة بصفة عازف كمان، ومؤلف موسيقي. وافق عاصي واستقال من سلك الشرطة، وكان يأتي كل يوم إلى عمله في الإذاعة على الدرّاجة.
وكان من نتائج اقتناع فؤاد قاسم بالأسلوب الرحباني، أن أصدر قراراً يمنع فيه بث أي أغنية تتجاوز مدتها خمس دقائق، مما إدى إلى انحسار تيار الأغنية الطويلة.
الرحباني وفيروز
التقى عاصي بفيروز للمرة الأولى عندما كان موظفاً في الإذاعة وكانت هي مغنية في الكورس في الإذاعة نفسها، وقدمهما حليم الرومي لبعض. في البداية اعتقد عاصي أن صوت فيروز غير مناسب لأداء الأغاني الغربية، لكنه كان مقنعاً بالنسبة لحليم الرومي، منصور من جهته كان رأيه أن هذا الصوت هو الاختيار الخاطئ لأعمالهما، لكنه اعترف لاحقاً أنه كان مخطئاً جداً في رأيه.
بدأ عاصي بكتابة الأغاني لفيروز غير أنّه استلزم مدّة ثلاث سنوات لإقناع المسؤولين في المحطة بمقدراتها. في النهاية، استقال منصور من سلك البوليس، وانضمّ إلى عاصي وفيروز وبدأ المشوار.
هيّأ الرحبانيان لفيروز انطلاقة رحبانية محضة، وخضع صوتها للكثير من التجارب، فقد غنت الألوان الأوروبية الصعبة، ثم الألوان الشرقية الصعبة، وكانت دائماً تثبت جدارتها، وتكونت لديها خبرة لم تحصل عليها أي مطربة أخرى.
كان هم الرحبانيين خلق موسيقى لبنانية ذات هوية واضحة. لذلك بدآ من الصفر، عادا إلى الفولكلور وأخذا بعض الأغنيات وأعادا توزيعها دون تغيير بالكلام، في مرحلة لاحقة صارا يخلطان الألحان الفولكلورية بعضها ببعض.
بالنسبة للشعر، بدآ بكتابة القصيدة القصيرة المختصرة، التي لا تتجاوز مدة غنائها بضع دقائق، مثل «لملت ذكرى لقاء الأمس» و«سنرجع يوماً» أما بالنسبة للموشحات التي وجدا أنها انقرضت أو كادت، فجمعاها وأعادا إحياءها من جديد، وعملا لها توزيعاً موسيقياً جديداً، وزادا على كلماتها، وكان استقبال الناس لها عظيما، ثم صارا يؤلفان موشحات خاصة بهما.
في عام 1955، بعد أن تزوج عاصي بفيروز، سافروا جميعاً إلى مصر للاطلاع على شؤون الفن هناك، فالتقوا أحمد سعيد مدير إذاعة صوت العرب، وعرضوا عليه تقديم عمل للقضية الفلسطينية، اقترح أحمد سعيد أن يسافر الرحبانيان إلى «غزة» ليستمعا إلى الموسيقى والشعر هناك، فاعتذرا لخوفهما من ركوب الطائرة. لكن عندما طلبا الاستماع إلى بعض الأغاني المسجلة، وجدا أنها مفعمة بالبكاء فعرضا على سعيد أن يقدما شيئاً بطريقتهما الخاصة، وقدما وقتها غنائية «راجعون». وفيما بعد وضع الأخوان رحباني مجموعة من الأغنيات عن القضية الفلسطينية مثل: «سنرجع يوماً» و«زهرة المدائن».
معركة فيروز في بعلبك
عندما بدأت مهرجانات بعلبك في لبنان، كان منظموها يستعينون بفرق أجنبية من مختلف أنحاء العالم، ولكن ابتداءً من العام 1957 ولدت الحاجة إلى تقديم فن لبناني في هذه المهرجانات، فكان الرحابنة أول من استدعي.
أوكلت إليهم مهمة التلحين فقط في البداية، لكن عاصي أصر على تسلم المهرجان كله. كانت اللجنة المنظمة ضد أن تكون فيروز هي المطربة، لكن عاصي أصر على موقفه، وقال للجنة إنهم لا يعرفون فيروز، وأنها ستغني شيئاً مختلفاً عن المتوقع، كما عرض أن تتقاضى فيروز ليرة لبنانية واحدة فقط، وهكذا كان.
في ليلة الافتتاح، عمد المخرج صبري الشريف إلى وضع فيروز على قاعدة عمود، وسلّط عليها الأضواء من أسفل العمود ومن زوايا مختلفة، فظهرت وكأنها تسبح في الفضاء، عندما بدأت تغني: «لبنان يا أخضر حلو»، كان هذا المشهد صاعقاً للجمهور، الذي اشتعل له تصفيقاً في موجة بين التأثر والبكاء والغبطة.
لكن المهرجانات ألغيت في السنة التالية، بسبب الأحداث التي شهدها لبنان في تلك السنة، وفي العام 1979 عاد المهرجان، وقدم الرحبانيان «المحاكمة» من بطولة فيروز ووديع الصافي.
كان النجاح حليفهما أنّى ذهبا، وباتت الدعوات تأتيهما من كل حدب وصوب، كانا يعملان بدون توقف. في عام 1967، عرض عليهما الأخوة عيتاني تقديم عمل على مسرح «البيكاديللي» كل سنة، بدأ الرحبانيان بتحضير برنامج لمهرجانات بعلبك أو الأرز في الصيف، وبرنامج آخر لدمشق، وواحد ثالث، على الأغلب مسرحي، لمسرح البيكاديللي في الشتاء، ابتداءً من «هالة والملك». كل هذا بالإضافة إلى الحفلات الغنائية خارج لبنان وسوريا.
كانا يعملان في المكتب والبيت، يكتبان، يلحنان، يدرّبان، ويخططان ليل نهار، كانت غزارة إبداعهما فريدة من نوعها، وغير مسبوقة على الإطلاق.
كانا يعملان كل لوحده، ومع بعضهما. أحدهما يكتب والثاني يلحن والعكس بالعكس، حسب انشغالهما بالعمل. أو كان يكتب أحدهما والثاني يغير ما كتبه. امتزجت أعمالهما بعضها ببعض لدرجة أنهما كانا أحياناً، لا يستطيعان تحديد من فعل هذا على وجه التحديد. لم يقوما بفصل عمل أحدهما عن الآخر مطلقاً، كانت الأعمال تصدر وتوقع باسم: «الأخوين رحباني». وعندما كان يحصل اختلاف في الرأي، كانا يلجآن إلى استشارة الأصدقاء ليبتّوا بالأمر. وكم من مرة تدخلت جدتهما لتحسم الأمر لمصلحة عاصي، صارخة في وجه منصور: «اسكت أخوك أكبر منك، وهو دائماً على حق»...
خطوتهما التالية نحو السينما كانت عندما جاء بالفكرة صديقهما رجا الشوربجي الذي أقنعهما بتحويل إحدى المسرحيات إلى فيلم سينمائي، وبعد استشارة كامل التلمساني مستشار مكتبهما، والمخرج المصري يوسف شاهين الذي صودف وجوده في لبنان في تلك الفترة، قررا نقل مسرحية «بياع الخواتم» إلى الشاشة الفضية، كما وافق نادر الأتاسي على إنتاج الفيلم. وكان عاصي ومنصور وفيروز وصبري الشريف شركاء في الإنتاج مقابل أتعابهم، عندما وضعت الميزانية المبدئية للفيلم، كانت 220 ألف ليرة لبنانية، إلا أنه كلّف في النهاية 600 ألف، مما شكل كارثة مالية لفريق الإنتاج، إلا أنه لاقى نجاحاً عظيماً لدى الجمهور وفي الصحافة، مما شجع للبدء في كتابة سيناريو خاص للسينما.
كان الفيلم الثاني: «سفر برلك» من إنتاج فريق إنتاج الفيلم الأول نفسه، أخرجه هنري بركات، هذه المرة لم تتخطّ ميزانية الفيلم الرقم المبدئي الموضوع، إلا بنسبة قليلة، وعرض لفترات طويلة في لبنان وبقية الدول العربية، على الرغم من الاحتجاج الذي قدمته الحكومة التركية بحجة أن الفيلم يتكلم بالسوء عن تركيا.
نجاح «سفر برلك» شجع الأخوين رحبانيعلى المغامرة في فيلم ثالث هو «بنت الحارس» الذي كان موفقاً كسابقيه، والذي أظهر الكثير من الجمال، كما نجح تقنياً بسبب الاستعانة بتقنيين أجانب، كما في الأفلام السابقة، وتم تحميض الفيلم في لندن.
مع «بنت الحارس» أتم الرحابنة الدورة التي معها دخلا إلى التراث اللبناني من مختلف أبوابه: المسرح، الإذاعة، التلفزيون، والسينما. وانتشر هذا التراث الموسيقي والحواري بين الناس عبر تلك الوسائل، فراج وبقي في القلوب والنفوس.
مدرسة الأخوين رحباني
منذ أواخر الستينات، بدأت تصدر الدراسات النقدية والانطباعية والتأريخية لما بات يسمى فيما بعد «مدرسة الأخوين رحباني». هذا التيار الذي اشتهر عند الناس، امتد عصره الذهبي من منتصف الستينات إلى أواسط السبعينات، والذي انكسر بسبب الحرب في لبنان.
مع استمرار النجاحات المتوالية، وصل الرحبانيان إلى قمة فنية، ندر أن وصل إليها فنانون آخرون في قلوب الناس، والذخيرة الفنية التي أسسا لها عبر رحلتهما أذهلت الجميع بتنوعها وغناها.
إلا أن تلك الرحلة بترت بشكل موجع، ففي يوم من أيام سبتمبر عام 1972 وبعد تقديم مسرحية «ناطورة المفاتيح» في بعلبك، وأثناء العمل على الحلقة الرابعة عشرة من مسلسل «من يوم ليوم».. في ذلك اليوم، وفجأة، بدأ عاصي يعاني من آلام مبرحة في رأسه، وفقد القدرة على التركيز، أسعف بسرعة إلى المشفى، وكان التشخيص: نزيف حاد في الدماغ. أعطوه في المشفى فرصة للنجاة. عندما قرأ الناس الخبر في صحف اليوم التالي، هرعوا إلى المشفى خائفين، قلقين، ضارعين إلى الله أن ينجي عاصي.
بعد مداولات سريعة بين الأطباء، استدعي جراح أعصاب من فرنسا، وأدخل عاصي غرفة العمليات، ونجحت العملية على الأقل في إيقاف النزف. أنقذت حياة عاصي، لكن وقتاً طويلاً مر حتى تمكن عاصي من إعادة تأهيل نفسه ليعود إلى حياته الطبيعية.
«المحطة» كانت أول عمل قدم بعد شفاء عاصي، حيث لحن فيها أغنية «ليالي الشمال الحزينة»، وكانت أول أغنية لحنها بعد مرضه. استمر بالتلحين بعد ذلك. طلب منصور من زياد أن يعملا سوية على أغنية تقدم كتحية من الثلاثة: (منصور، زياد وفيروز) إلى عاصي. أخبره زياد أن لديه لحناً بدون كلمات، سمع منصور اللحن وأعجب به، وكتب كلمات «سألوني الناس» له.
في الليلة الأولى للمسرحية، قوبل عاصي بعاصفة من التصفيق عندما دخل مسرح البيكاديللي، بعد انتهاء المسرحية، جمع عاصي منصور وزياد وفيروز، معلقاً على أغنية «سألوني الناس» صارخاً فيهم بنبرة الشهم: «انتظرتم حتى أمرض لكي تستجدوا تصفيق الناس باسمي، أيها الانتهازيون؟». لكن محبته لهم، وللأغنية جعله لا يوقفها عن المسرحية.
بعد ذلك، عاد عاصي إلى عمله، واستعاد جميع صلاحياته في المكتب، لكنه كان إنساناً آخر، كان يضحك بدون ضوابط، يأكل ويشتم ويحزن ويغضب ويتكارم ويدفع ويسخو بدون ضوابط. لكنه استمر بالتلحين، وكان غالباً ما يستدعي منصور ليقوم بكتابة النوط الموسيقية لأنه لم يعد يطيق صبراً على الكتابة. مثلاً أغنية «سكّروا الشوارع» هي في معظمها من تأليفه وتلحينه، لكنه كان يقول لمنصور ماذا يريد وكيف بالضبط، ليقوم منصور بكتابة ما يريد. كذلك هي الحال بالنسبة لمسرحية «بترا» كانت في معظمها من تأليفه.
في نهاية السبعينات، بدأت المشاكل في المسيرة الرحبانية، وأفضت في النهاية إلى الانفصال التام بين فيروز وزوجها وأخيه، عام 1979، لتبدأ مسيرتها المستقلة.
استمر الرحابنة، فقدما مسرحيتي «المؤامرة مستمرة» عام 1980، و«الربيع السابع» عام 1984. لكن صحة عاصي بدأت بالتدهور سريعاً، ودخل في حالة غيبوبة، إلى أن جاء يوم الحادي والعشرين من يونيو، في صباح ذلك اليوم، سلّم عاصي أنفاسه الأخيرة. وبهذا خلصت القصة المشتركة للأخوين رحباني، لكن ليس الميراث الذي خلفاه، والذي سوف يعيش طويلاً لأجيال وأجيال.
منصور منفردا
بعد رحيل أخيه، أكمل منصور الدرب وحيداً، وكانت أول مسرحية قدمها بعد وفاة عاصي هي «صيف840 »، ومن أبرز أعماله اللاحقة «الوصية» و«ملوك الطوائف» و«المتنبي» و«حكم الرعيان» و«سقراط». نجح في تقديم مسرحيات غنائية مع أولاده، لكن علاقته بفيروز كانت موضع استفهام، كان يحرص على عدم قطع الأواصر الأسرية بينهما، لكن الفن لم يعد يجمعهما.
في السنوات الأخيرة، كان منصور الرحباني حريصاً على تقديم ما معدله مسرحية واحدة كل سنة، وكانت معظم مسرحياته تتناول قضايا الوطن والثورة والمقاومة، حيث لا تزال مسرحية «عودة الفينيق» تعرض في بيروت، لتكون شاهدة على آخر ابداعات الرحباني الذي رحل عن 84 عاماً مفعمة بالعطاء والإبداع.

