إرتقي بمستوى حديثك ... لا بمستوى صوتك .. إنه المطر الذي ينمي الأزهار وليس الرعد . |
أذا كانت عبارة فيلسوف المانيا الكبير (غوته) تنادي بالقول؛ ( لا تأريخ إلأ تاريخ الروح) فثمة مقولة للمفكر الانكليزي هربرت ج. ويلز تفيد (بأن التأريخ الإنساني في حقيقته، ما هو إلأ تاريخ أفكار) على هدي ورؤى هاتين الإستنارتين، تتضح الكثير من محافل الإعتناء بتثمين منتخبات بصرية من حوافل تجربة الفنان التشكيلي (فائق العبودي)، بنتوء مقاصدها وبمراس إستدلالاتها الضمنية، وتناغم ولعها بالتأريخ القديم،على نحو ما تتيح الحروف والكتابات -التي يجترحها بخصوصية وعي وسبل تنظيم وتطويع لكل ممكنات ما يمكن أن تستوعبه لوحاته -من سمات وجود تحديثي يرغم قناعات المتلقي على قبول الفكرة- بل الأفكار-المتوالدة جراء براعة تصميم، وحرية تعميق يوازي قيمة المعنى، ويتاخم روح ذلك التصور الحر، الذي تنتهجه لوحة (العبودي) على رهان قصدي يجعل منها منتجعا لتوافد عدة مواد وخامات، تسمو لتحرث مهابة حضورها، وعراقة وجودها، وفخامة أجواءها، دون أدنى مساس أو تزحيف أو خلل قد يقلل من شأن صدق الحداثة التي يتعامل معها (فائق) بروحية تتسم بالهدوء والدعة، مثلما تتسم -أيضا، وعلى الجانب الآخر من ضفاف تجربته - بالتمرد وميول البحت وإغراءآت التجريب، وبما يعزز من ثقة صلاته بالواقع الراهن، وبالتأريخ الغارق في لجج عراقة ونكهة عتق تلك الأزمنة الخالدة والعصية على النسيان أو الأفول، مهما تقادم عليها الزمن، ومهما تقادحت عليها الأحداث وتماهت فيها الظروف، فثمة توافدات حسية، تعاضد الفكرة العامة التي يصبو إليها الفنان في تخليد ذواكر أشياء ومواقف وحالات تغلغلت في نسيج ذرات ذاكرته، وتسربت في قيعان روحه الهائمة والمحلقة، بحثا عن ملاذ أو سبيل خلاص يحفظ للجمال الخالص زهو مكانته، وفرقد وجوده، في زمن لم يعد فيه مكانا صالحا للأحلام الجماعية على نحو ما كان قائما حتى نهايات عصر المحبة أيام عز وألق الرومانطيق .
فائق العبودي من خلفه لوحة ( السلام )
حفريات البحث... تمردات الشكل
تمضي تطلعات أعمال الفنان (فائق العبودي) - في بعض مستوياتها التوليدية - قدما في بطون التأريخ القديم، لتحفر عميقا وتجترح مسارات تأويل قصدي يثير لوازم الشد والدهشة، حد التمرد والوثوب على مغايرة السائد في الكثير من الأحوال التي لا تقتصر-كثيرا- على ما توارثناه من منظومة ورحم ذلك النوع الذي يحادد المألوف أو المتوقع في قياس توريد معاملات إرتباط التجريد ونواتجه الحدسية البصرية، وفق إعتبار من يرغب في التجريد معبرا، وفي أن يكون فضاءاً حراً ومفتوحا بإتجاه تعميد مقاصد الشكل، مع حاصل قدرة الإحتفاظ بحيوية المضمون وبراعة تواجده الضمني والمعلن، في نهاية مطاف الوصول لجوهر نقاط تلك المقاصد الروحية، بنسقها المتمرد والمشحون بطاقة تحريضية، تسعى لآن تضيىء مسالك وعي الفنان، قبل أن تضيىء عتمة سبل البحث عما يميز ذاته المشرقة والمشرئبة في تقليد تلك الذات -المفكرة على الدوام- أوسمة إمتياز حدسي لما ستصل إليه عبر سيل مهارات ومساعي ومسالك تجريب، الزامت (فائق العبودي) من مد أواصر تواجده رساما ومصمما إنتقائيا شارك في الكثير من المحافل الدولية والبيانالات العالمية، ومعارض شخصية (تربو على 26معرض شخصي في عدد من الدول الأوربية و الآسيوية)، فيما تصدرت لوحة جدارية كبيرة أحدى واجهات مباني مدينة (جنيف) السويسرية، حملت عنوان (السلام) أتحفها (العبودي) عن طريق إستلهامه للكتابة المسمارية، تجسيدا عيانيا معززا برهان صدق عراقته وعنوان عراقيته الممتدة غرسا وجذورا في غرين حضارات سومر وبابل وأكد .
تتفتح أزهارالقصد في إبتهالات (العبودي) اللونية وتسابيح حروفه وفق تنامي أفعال يتتاخم فيها مناخ صوفي عام وملتزم من حيث توصيفاته التجريدية، مع قوادم وتحليات تصميمية باهرة القوة والحضور والأثر، وبما يوازي من لغة تلاقي نسيج اللوحة بأسلوب التطريز-أحيانا- وجهود ترسيم حدود ومساحات لوحاته بفرض سمك - تشكيلي خاص (texcher) يوحي بتأثيث بلاغي ونفسي هو الآخر من حيث مقوماته التعبرية وفخامة قدسية اللحظة التي يركن إلى تجسيدها بنوازع تصوف وتوحد تشي بروح عوالم ذات أبعاد متماثلة مع مقدرات ونواحي ذلك التلاقي الحي الذي يجلب للوحة موجبات قبولها تحفة (أنتيكا) لامجرد لعب وتبار فوق سطوح تصويرية لا تجيد مهمة الجذب وحكمة تجارب تزيد من ثراء مسرات تأويل المعنى، وفي أن تحافظ على سمة اللاشكلية -المقصودة والواعية-، بلوغا في الوصول إلى نشوة ذلك التمرد الحي، الذي يماسك ما بين الفكرة، أو مجموعة الأفكار، وما بين الموضوع، أو المواضيع التي تقترحها تلك الذوات الإبداعية الباحثة-أبدا- عن صيغ أخرى تنوء بحمل حقائق الجمال الروحي في وعاء قداسة وبراءة الأشياء على سجيتها .
الكتابة وصوت الكلام
سعى (فائق العبودي) في مجمل حفرياته البصرية وأنساق إستنتاجاته التصميمة (درس التصميم الطباعي في سويسرا) إلى بث معان وضوح معلن، في طريقة بوح تقني، جهد ونجح في إستثمار كل ما متداول من مواد متاحة (خشب/جلد/حجر/قماش) وغيرها من متممات حسية ولمسية، أضحت توهم الرائي والمتابع لأعماله وتوجهاته في صلب إعتقاد مشكوك في إمكانية حكمة التفريق مابين الطباعة والرسم داخل اللوحة الواحدة، جراء تقصداته الراهنة في منح لوحاته سمة العتق ونكهة العراقة المتوحدة عبر تواليات الزمن وتنويعاته، على وحدات ومساحات موضوعاته المرهونة بتحسسات وإنتباهات مدعومة بإنحياز طوعي لمعنى أهمية الزمن ووطأة تجلياته من خلال تماثل جلال وهيبة ذلك الماضي السحيق وسطوة آثاره الواضحة في تقريب مجسات للوازم تحريضية، حفلت، تبارك أفعال التأويل، ولتخالف مدى الرؤية وطبيعة الإيهام المدروس الذي ينتهجه الفنان حين يتفرس بممكنات فيض تزهد حاذق، وتبني شغف مهارات إيهام ضمني، من خلال تفوق لحظات عفوية وحيوية، بذات إستجابات تلقائية مكنت (العبودي) من براعة تطويع دفقاتها لصالح موصلات وحالات انهماك نوعي لمعنى إستثمار قيمة تلك اللحظات، التي يساندها ببث معادلات حروفية، تداني قيمة الغرف وتطويع هندسة الحرف العربي لصالح مرتسماته، وخواص الخامة التي يشتغل عليها ، والتي قد يحتاج ان يحضرها بنفسه وحسه، لكي تلائم وتطاوع مديات الوصول الى مبتغاه، عبر عدة مراحل تجانب حيثيات تلك التحضرات الممهدة، والممتدة لجوهر أفكاره، فضلا عن ملامسات تصديرية، وتناغيات وجدانية، أضحت مترعة بجوهر تلك القيمة التأريخية، العريقة التي تنشدها أعماله، وعلى مستويات وطبقات متعددة من حيث صلابة أو عراقة الملمس الذي يتهيأ لحمل مهابة الموضوع، بتضافر جهود تواجدات الحرف حرا... طيعا... بليغا في فضاءات لوحات (فائق)على نحو تدفق واع لدواعي تفرد ذلك الوجود الحيوي للحروف التي يستلها (العبودي) بحرفية وعناية فائقة، لكي يواشج ما بين الرسم، والخط والتصميم، في تواصل إنفتاح مدهش على أكثر من مدى وأكثر من رؤيا وأبعد من قصد، لا يقبل الوقوف أو الإكتفاء مثولا أمام أية مثابة من ثوالث ذلك التداخل الملحمي-الدرامي الذي يسكن لوحاته عموما، وربما على شاكلة ما دعت إليه وصرحت به ناقدة سويسرية حيال موقفها النقدي في نهاية دراسة فاحصة لها تناولت تجربة هذا الفنان حين قالت؛ (إذا كان فولتير قد أعتبر أن الكتابة هي صوت الكلام، فان فائق العبودي برسمه لحروف الكتابة القديمة أعطاها حقها في الصوت والكلام) .
غياب الإنسان ... حضور تماهيه
تكرار الرمز يؤكد وجوده، والأشارة أكثر حضورا من الفرد نفسه، تلك دلالات وإستفهامات تعادل كثافة محتويات الأمكنة، ومتواليات الأزمنة، عبر حلقات وتداعيات ما يخلفه الإنسان بحتميات وجوده (الفيزيقي) وتناسل ذكرياته وجسارة تحدياته وفيوضات معاناته الأزلية في بؤرالتفكير، بمعضلة تدعى تجرداً ب(الخلود) وتخريجاته الفكرية والسببية والقدرية، كلها تجتمع لتعطي للإنسان سمة إنسانيته المجردة من أغراضها المادية وغرائزها الأولية بحيواناتها المتوارثة من أجل توحيد فرص االتبرير للبقاء .
تلتزم معطيات (فائق العبودي) بجملة من تحذيرات خاصة، تلازم فكرة التفكير بمفهوم البعد الواحد- تلك التي أسس لها ورفع صولجانها، وسار على هديها الراحل الكبير الفنان (شاكر حسن آل سعيد)- من حيث مصدات البحث وتوجهات حلولها الإجرائية من قبل من تقبل سطوة هذه الفكرة وأقتفى أثرها عدد كثير من التشكيليين العراقيين، ممن أغرتهم مهارة اللعب على السطح التصويري للّوحة، بعيدا عن أي وجود تجسيدي للإنسان، مثلما سعى وألتزم (العبودي) بقواعد وأبعاد تبنيه لهذا النهج في خلق أمكنة أخرى لها (فيزيقيتها) الخاصة، ولزوميات فضاءآتها ومدياتها الروحية في رصد أفعال وسلوكيات ما يتركه الإنسان إلى جانب ما يتركه الزمن، فقد لمسنا ذلك الدفق والتبني الحاذق في مخيلة وتفكير(فائق) من خلال تعامله المجرد للحدث ومقومات تواجده مع أشياء الطبيعة، ليس بوصفها (هي) كما (هي) بل بما آلت إليه بفعل عوامل التعرية وتثاقلات أثار الزمن عليها .
لذا يحيي الفنان-هنا- ذواكر ماضيه وتحليلاته الذهنية بنواتج ومسببات وخواطر تراتبيبة تزيد من شحنات التعويض وتعبيد سطوح لوحاته بطبقات من الألوان والمثبتات واللوازم المدروسة في نحت لوحاته القادمة من أصقاع ومرافىء بعيدة، وعصور سحيقة، يكابدها حنين طاغي لحرارة ماضي مجيد، تم أختبار صلاحيته بشفاعة وكفالة الزمن الذي راح يضمن سحرهذا البقاء المتفرد والمتماهي في مسامات ومساحات أعمال، تخفي تحت دثارها أسرارا وطلاسم ومحكيات بصرية، يدغمها اللون تارة بأجواء كابية-موحشة، وتارة تضاء بوجودها النوراني وألق أحتدامها المدهش، ما بين حضور وغياب، وما بين غياب مبهر ينوء بذلك النوع من الغموض الخلاب، موجودات بروائح معتقة من فرط طهارة الصدق، وسمو القصد في رصد ما يتركه الإنسان من حيرة ذكريات وأوشمة (جمع وشم) يعاند النسيان ويقاوم الزوال، عبر موحيات فهم وتساوقات وعي، يعيد للأشياء جواهر أصولها وبريق لمعانها وتوردات حدوسها الأزلية، وترويجها لبقاء الفعل والروح، أمام فناء الجسد وتحلله، في غمار عودة ثانية لمقولة (غوته) الآنفه الذكر في أول سطر من سطور هذا المقال، لوحة (فائق العبودي) تعتني بهندامها وفق هذه المحصلات الصوفية، وفرض لحظات تأملها، ومتعة وزهد تمليها بتعاضد تقنيات ملهمة، لمواد أولية وبسيطة- كما قلنا ... متوفرة ومتاحة، بل مبذولة- مهدت لهذا الوعي والثبات، في رفع شأنها، بسواند ومقاصد سلكت طرق التماثل الروحي ما بين المادة وما بين الذات المفكرة، وهي تضيف وتحذف، تشيد وتهدم، لكي تتغلغل في ثنايا سكون ومفاصل حركة من خلال عمليات كسر و ثلم وتقويض، أو من خلال بلاغة شد و حواكم حث وتذيل، لينتج قوة سريان هذا النسغ الصاعد من توافدات (أكسير) المعرفة، بتنويعاتها الثقافية، وخواص التمهيد للخوض في مثل هذا المخاضات العنيدة، والصعبة كالتي أختارها (العبودي فائق) بفائق دراية، وثقة وعي بقيمة جوهرة التفاني التي تسكن ذاته القلقة، والباحثة عما يفردها ويميزها عن غيرها .