إن الشِّعر كيان محمول على الرموز . والرموز هي قاعدة البناء الشعري، والطاقة اللغوية القادرة على زراعة الصور الفنية المدهِشة في ذهن المتلقِّي . وكُل شاعر له رموزه الخاصة به، التي تنبع من طبيعة شخصيته ورؤيته للأشياء . وفي الفضاء الشِّعري يُصبح الرمز كالبصمة ، ولا يَقْدِر الشاعر أن يُحلِّق في فضائه إلاّ بوجود بصمة مميزة له، تكون بمثابة بطاقة تعريف لإبداعه . والبصمةُ الشعرية تعمل عمل الجناحين للطائر . وكما أن الطائر لا يَقْدِر على الطيران إلاّ بوجود جناحين، كذلك الشاعر لا يَقْدِر على الطيران في عوالمه الشعرية إلا بوجود بصمة شخصية ( رمز شِعري ) .
ومِن الرموز المنتشرة بكثافة في أشعار الأمم وثقافات الشعوب : الغُراب . ومع أن هذا الرمز يتكرَّر بصورة واضحة في الكتابات، إلّا أن معناه يختلف باختلاف الطبيعة الفكرية للكاتب . وهذا يدل على أن الرمز ليس مقصودًا لذاته، ولا غاية قائمة بذاتها، وإنما هو وسيلة وأداة توصيل للمعنى .
وقد ارتبطَ الغراب بالتشاؤم والسَّوداوية، بسبب صَوته المميَّز، ولونه الأسود القاتم . وكان العرب في الجاهلية يتشاءمون منه، فكانوا إذا نَعَبَ مرتين قالوا : آذنَ بِشَر . وإذا نعب ثلاثًا ، قالوا : آذنَ بخير . كما ارتبطَ الغراب بالفِراق ( البَيْن ) . وقِيل : سُمِّيَ غراب البَيْن، لأنه بانَ عن نُوح عليه الصلاة والسلام لَمَّا أرسله من السفينة ليكشف خبر الأرض، فَلَقِيَ جِيفة، فوقعَ عليها، ولَم يَرجع إلى نُوح . وفي عالَم الشِّعر، هناك شاعران حصلا على المجد الشعري والشهرة الأدبية، عبر توظيف الغراب كرمز شِعري مُحمَّل بالدلالات اللغوية والمعاني الفلسفية . الأول هو الشاعر الأمريكي إدغار ألان بو (1809 _1849) . والثاني هو الشاعر الإنجليزي تيد هيوز(1930_ 1998). لقد أصبحَ " بو " مشهورًا في جميع أنحاء الولايات المتحدة حين نشر قصيدة" الغراب" ( 1845) . وتحكي القصيدة عن زيارة غُراب مُتكلِّم وغامض إلى عاشق مُضطرب . وهذا المناخ الشِّعري يُقدِّم الغراب ككائن غامض ظَهر فجأةً، لِيُعيد ترتيب حياة هذا العاشق المحطَّم نفسيًّا، والمجروح عاطفيًّا . لقد صارَ الغراب هو المنقِذ والمخلِّص والناصح الأمين . وكأن هذا العاشق فقد ثقته بالناس، ولَم يعد يثق إلاّ بهذا الغراب . وهذه المفارَقة تُشير إلى انهيار العالَم الكامن في ذات الشاعر، واختلال الموازين، وفقدان البصيرة، وغياب الرؤية . وكما يُقال : إن الغريق يتعلق بحبال الهواء .
وحياةُ هذا العاشق المنهار في القصيدة، إنما هي انعكاس لحياة الشاعر بو المنهارة بسبب إدمانه الشديد على الخمر، وكثرة أزماته الروحية، ومشكلاته المادية . وقد صارت سُمعته سيئة للغاية في مجتمع القرن التاسع عشر المحافظ . وقد هاجمه النُّقاد بشدة بسبب مُعاقَرته للخمر، واتَّهموه بأنه مدمن على المخدِّرات . وقال البعضُ إنه يجب أن لا يُترَك الجمهور معَ رَجل مِثله، غير مستقر نفسيًّا وعقليًّا، يجلس في غرفة مُعتمة، مع غُراب على بابه، وزجاجة على طاولته، وأنبوب مليء بالأفيون . إن " غُراب بو" هو الذي أبرزَ نقاط توتُّر الشاعر، وانهيار عَالَمه الشخصي، ووضَّح قلقه وكآبته وأحلامه الضائعة وآلامه المتفاقمة وأوضاعه المالية السَّيئة . لذلك، ليس غريبًا أن تتمحور موضوعات " بو" حول الموت وعلاماته الجسدية وآثار التحلل، والمخاوف من الدفن، والحِداد . إن قصيدة "الغراب" هي حجر الزاوية في مشروع بو الشعري الذي يمكن تسميته بالرومانسية السوداء، وهي رَدَّة فِعل أدبية للفلسفة المتعالية التي كرهها بو بشدة .
أمَّا الشاعر تيد هيوز فقد نشر ديوانه " الغراب " عام 1970 بعد مُعاناة كبيرة، وانقطاع عن الكتابة لسنوات بسبب انتحار زوجته الشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث في عام 1963، وقد تَمَّ تحميله مسؤولية انتحارها، بسبب خيانته لها .
يُعتبَر ديوان الغراب أشهر أعمال هيوز على الإطلاق . وهذا الطير يتكرَّر مِرارًا في شِعره رَمْزًا للظلام والقسوة والسخرية السوداء والعنف الذي يتفجَّر في الطبيعة . لقد درس هيوز في جامعة كامبردج عِلم الآثار والحفريات، وهذا جعله على وَعْي تام بعناصر الطبيعة، فاستخدمَ الحيوانات والطيور(وعلى رأسها الغراب) كنماذج في شِعره الذي يمتاز بالغموض والتَّنبؤية . إن " غُراب هيوز" جَعل عالمه الشِّعري مليئًا بالعنف البدائي والقسوة المندمجة مَعَ انهيار الإنسان في عالم استهلاكي دموي تَحكمه الشهوات والغرائز . والغراب في شِعر هيوز ليس مفردةً عابرة، أو صورة بلاغية مُجرَّدة، بل هو رَمز مركزي شديد الإستقطاب، تَحُوم حَوْله القيم الإنسانية المنهارة، وملامح القسوة في الوجود . وكأن هيوز _ من خلال توظيفه لرمزية الغراب _ يُريد إعادة الإنسان المتوحش إلى إنسانيته النقية، وأنسنة العالَم القاسي الذي نعيش فيه . وفي هذا السياق تندمج رمزية الغراب المركزية مع قيمة التمرد على الأنماط الإستهلاكية التي قَتلت رُوحَ الإنسان، وحوَّلته إلى وحش ضِد أخيه الإنسان . والتمردُ الشِّعري هو تحوُّل الطاقة الجسدية إلى بُنية لغوية . وهذه البُنية اللغوية لا بُد لها مِن رمز يَحملها . وهذا الرمز هو الغراب، الذي يُشكِّل بلونه الأسود القاتم الحقيقة الواضحة الصادمة، بلا ألوان، ولا زخارف . وعلى الإنسان أن يُواجه مصيره بنفْسه، ويَقتلع شَوكه بيديه، ولا أحد سيأتي لمساعدة أحد . وهذه هي اللحظة المصيرية الفاصلة بين الوجود ( البقاء ) والعدم ( الفناء ) .