بعيْد انتصاف الليل، وذهاب الجيران والأقارب والأحبة إلى بيوتهم، تأمّلت حفيديْها اللذيْن يغطّان في نوم عميق هاديء، وجففت بمنديلها دموعا منهمرة من عينيها المحمرتين، وراحت تحدث نفسها :
في مثل هذا الوقت من الليلة الماضية، كنتما، أيها الطفلان البريئان نائميْن في سريريْكما، وعينا أمكما الحنون ترعيانكما . سيمرّ وقت طويل، قبل أن تعرفا أن المحتلين الغزاة حرموكما حنان الأمومة، وسبّبوا لكما هذا اليتم الحزين المبكر ..!!.
كانت ليلتنا البارحة مليئة بالبهجة والسعادة والسرور، سهرنا في ساحة البيت، واستمتعنا بهواء جنين البارد القادم إلينا من صدر بحر حيفا الرحيب، وكرملها الأخضر الحبيب، وتذكّرنا أيامنا الماضية، وذكريات آبائنا وأمهاتنا وأجدادنا، في قرانا الجميلة التي شردنا من أحضانها المحتلون الغاصبون، كانت زوجة ابني مبتهجة مسرورة بلمة الأسرة وتعاونها، ومحبتها وانسجامها، مشرقة الوجه، وهي تقدم لنا الفواكه والشاي والقهوة . كم كنا سعداء، حينما اخترناها زوجة لابننا الغالي، وحازت على ثقتي ومحبتي واحترامي، سهرنا حتى قبيل منتصف الليل، وأوينا إلى أسرتنا، تهدهدنا النسائم اللطيفة المنسابة عبر النوافذ المشرعة .
وفي آخر الليل، أفقنا على أصوات سيارات المحتلين، وقنابلهم الصوتية الكريهة، ورصاصهم القميء، أفقنا من نومنا قلقين مذعورين، وهبّت زوجة ابني لتغلق نوافذ المنزل؛ اتقاء للغازات السامة المنبعثة من قنابلهم المميتة، وحتى تحافظ على أطفالها وأفراد أسرتها، وما أن أنهت أغلاق النوافذ، وبدأت بتحضير قنينة الحليب لطفلها الرضيع الذي كان يبكي، حتى باغتتها رصاصة حاقدة في الصدر مباشرة . غابت عن الوعي، واستمر طفلها في البكاء، فيما سارع أفراد الأسرة إليها فوجدوها مضرجة بدمائها البريئة الزكية . نقلناها سريعا إلى المشفى، ولم تسلم سيارة الإسعاف من رصاص حقدهم وعدوانهم .
صرخت في وجوههم : انصرفوا ...ابعدوا عنا ...قتلتم أطفالنا وشبابنا ورجالنا ونساءنا... يتّمتم أطفالنا ... شردتمونا من ديارنا .. وهدّمتم بيوتنا ... لماذا تلاحقوننا في كل مكان ؟..لماذا تأتون بدبابابتكم وسلاحكم إلى مدننا وقرانا ومخيماتنا..؟..لماذا تستبيحون وطننا ودماءنا، وتغتالون الطفولة والأمومة والأحلام ؟! ، لو أنّ أحدا هاجمكم في بيوتكم، وأماكن سكنكم لملأتم الدنيا صراخا ونواحا وتهديدا ووعيدا...!!.ابتعدوا عنا .. انصرفوا .. لا نريد أن نراكم في ليلنا ونهارنا وحاراتنا وشوارعنا...
وتحرك الطفل الصغير في مهده، فربتت بكفها الحنون على صدره، فتابع نومه الهاديء، وكأنه شعر بالأمان، لوجود أنفاس أمه إلى جانبه ..!!.
وتابعت خواطرها : لم ينجح الأطباء في إنقاذها، فأسلمت روحها الطاهرة إلى بارئها العظيم، وشيّع المواطنون جثمانها، فيما كان الحزن والغضب يفور في النفوس المحتقنة..!!.
رحمك الله ، أيتها الأم الشابة الغالية، ولتطمئن روحك على طفليْك، فلن يصيبهما ظلم أو حرمان، وستتسلمهما أيادٍ حانية ومخلصة، ولكننا لن ننساك ، وسنفتقدك، ونعيش مع ذكرياتك، في كل ركن من أركان البيت، وفي كل مكان جميل، كانت لنا فيه ذكريات دافئة .