روائيات البصرة : يتحكمن بالمد والجزر

2018-10-11
الورقة المشاركة في الملتقى الثالث للرواية العراقية، / اتحاد أدباء البصرة من السادس الى التاسع من أيلول 2018

//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/737e3972-61bb-4d7c-b7ec-a160b496e639.jpeg
 
(*)
 
البصرة تكابد إبادة جماعية، منذ عهد الطاغية حتى هذه اللحظة، من أيلول 2018 التي تجسد استعادة الوعي الاجتماعي الميداني، ويقظة هذه اللحظة لا تخلو من فاعلية قتل الأب المخادع التي استأثر بالخيرات كلها له ولصفوته الطائفية، وما جرت من جرائم بحق البصرة منذ نصف قرن، لا يمكن تنضيدها ضمن تراتبيات السلّم الإنساني، لأن ما جرى يتجاوز المحفل الإنساني وينقض على إنسانية البصرة الحضارية التي منها معظم خيرات العراق، وما تحصل عليه البصرة، لا يكاد يقنع مراكز النفوذ، فكيف المواطن البئيس !! وما جرى يدخل ضمن ما لا يقبل التكفير، وما لا يقبل التكفير يستحيل تجاوزه، فكل مصالحة وصفح وعفو ومغفرة، تعد خيانة لدماء شهداء هذه الأسابيع الدامية .
 
ما جرى من استعمال الذخيرة الحية، ضد التظاهرات السلمية، واستعمال القنابل المسيلة للدموع، وتشويه هوية التظاهرات من خلال بعض مراكز النفوذ، في حرق مؤسسات الدولة، وقبل كل هذا وذاك، عدم مبادرة الحكومة المحلية، بفتح التحاور مع مطاليب أهل البصرة، جعل ما جرى بحق البصرة، مالا يقبل التقادم، أعني أن كل هذه الجرائم تبقى فتية لاتنالها الشيخوخة وكل الجرائم التي لا تتقادم، هي جرائم ذات شباب دائم السلبية، ومن جانبنا نعلن أنها جرائم تتطلب منا الحفاظ على شبابها حتى تبقى حية في ذواكر البصريات والبصريين حصريا، وهكذا يحترمنا شهداء البصرة، وهكذا يكون جزء حيوي وملتهب من ذاكرة البصرة شاخص في بشاعة جرائم السلطة بحق البصرة، أما لماذا التأكيد على هذا الإجراء، فجوابي هو كالتالي :
 
يجب أن يكون الماضي حاضرا بصيغة الماضي، وهكذا ستعيش ذاكرة البصرة، هذه اللحظة بصيغة حاضر مستمر في حضوره، وهنا يبزغ قلب الأم البصرية في روائيات البصرة اللواتي تقع الآن عليهن مسؤولية سردية مشرّفة، هي سردنة لحظتنا البشعة، قبل أن تسرق سرديا، كما سرقوا خيرات البصرة.. نعم لا راحة بال في البصرة، إذا حدثت أي مصالحة بين شهداء البصرة والقتلة..



(*)
 
الأدب الذي تكتبه امرأة، ينضّد ضمن الأدب النسوي، أما الأدب الذي يحتوي موجهات عقائدية، يمثل صاحبه أو صاحبته، فأنه يصنّف ضمن الأدب الأنثوي الموازي، لأنه يحتوي رؤية أنثوية للعالم وينتسب للحركات الأنثوية التحررية، وهذا الأدب الأنثوي قد يكتبه رجل أو أنثى، وذلك ما أكدته الأوراق المذكورة في مؤتمرين ثقافيين عالميين قبل ذلك بنصف قرن وأنبثق منهما أصداران : (تأنيث العالم) (يقظة الذكورة) . من جانب آخر يؤكد أدوارد سعيد : أما الأدب النسوي فهو من إنتاج امرأة / أنثى تحديدا، وموازيا للأدب الذي يكتبه الرجل .

 (*)

 
الرواية العراقية الأولى هي (الرواية الإيقاظية) كتبها سليمان فيضي بتوقيت احتجازه في البصرة الذي أُنتهى في 1919 وفي 1939 ظهرت رواية الأديب البصري كاظم مكي حسن (صفوان الأديب) وفي 1953 أصدرت مطبعة الحسني في بيروت رواية (مذكرات مسلول) للروائي البصري عبد الودود العيسي المحامي وأكدتُ في دراسة لي أن عبد الودود المحامي سبقَ أمبرتو أيكو في استعمال تقنية المخطوطة . وفي 1969عن شركة الطبع والنشر الأهلية/ بغداد صدرت رواية بعنوان (شمخي ) هي الرواية الثانية للمحامي عبد الودود العيسى تناولت أوائل القرن العشرين من خلال الريف العراقي وسطوة الإقطاع وأنتشار الفكر اليساري بين فقراء الفلاحين وانتهت الرواية مع قمع حركة الضباط الأحرار في 1941
 
(*)
 
أوائل ستينات القرن الماضي، في مجلة العربي الكويتية برصانتها وتنويعاتها الثقافية، صدر عدد من المجلة أفرح البصريات والبصريين، حيث تألق اسم فاطمة جمال الدين من خلال قصة قصيرة  منشورة لها، وهذه هي المرة الأولى التي تنشر فاطمة جمال الدين : قصة قصيرة باسمها الصريح، قبلها نشرت قصصها بتوقيع (التلميذة) في جريدة ( صوت البصرة) و(الجامعة)، وفي منتصف الستينات نشرت قصصا قصيرة كلُّ من وداد البازي، ورشيدة العكيلي وسواهما.. من خلال هذه المساهمات القصصية من نساء البصرة سينهض الفعل الروائي بعد سنوات قليلة، وربما سنكتشف في الأيام القادمة أن هناك مخطوطات روائية لم تر النور كتبتها نسوة بصريات، فالبحث مستمر في هذا المجال من قبلي يعينني فيه الأصدقاء الأوفياء للحركة الثقافية البصرية ..

(*)
 
تحاول ورقتي، حراثة  جوانب من الدرس الروائي النسوي من خلال تجارب الروائيات البصريات، وأرتب أسماءهن حسب الأسبقية في الإصدار:
 
*سميرة المانع
*إلهام عبد الكريم
*دنى غالي
*سمية الشيباني
*زبيدة مسلم حسب 
*بلقيس خالد
*الدكتورة إخلاص النجار
 
من أجل حياكة النسيج النقدي عن تجاربهن الإبداعية وتنضيد المشتركات بين موضوعاتهن والتمايز كبصمة روائية لكل تجربة على حدة، والتوقف عند تقنيات السرد لديهن .
 
(*)
 
الروائية البصرية تطوف حول البصرة طوافا قدسيا لتتدفق البصرة بروحها وكينونتها وكائنيتها النصية . الروائية والقاصة البصرية سميرة المانع، في الصفحة ما قبل الأخيرة من روايتها (حبل السرة) من خلال شخصية مديحة توّجه سؤالا لأحداهن : (هل تستوجب الحياة القصيرة كل هذه التعقيدات ؟) الإجابة عن السؤال نجدها في رواياتها الثلاث (شوفوني .. شوفوني) (حبل السرة) (الثنائية اللندنية) أشهد أن قراءتي لرواياتها منحتني درسا للأحتفاء بالوجود والموجود والأنوجاد..في ختام روايتها (شوفوني ..شوفوني) تدعونا كقراء مع شخوص الرواية
(تعالوا نضحك، الإنسان مضحك، العالم مضحك، أسرعوا هيا بنا دعوة مفتوحة، ضحك، ضحك، ضحك، هبوا معها ضاحكين، مجانين، ها،ها،ها،) وهذا الأخضرار في روح المرأة البصرية، تعلنه أيضا الروائية البصرية (سمية الشيباني): (لابد لنا أن نعيش، أريد أن أعيش، ليس من حق أحد أن يفرض علي الموت، أريد أن أنجب مزيدا من الأبناء، وآكل كل أنواع الطعام، أريد أن آخذ فتياتي في رحلات وأسفار، أريد أن أحب زوجي من جديد، وأتزوجه من جديد، أنا أعشق الحياة، لن أموت، طفلتي لابد أن ترضع من حليبي/ 214/ حارسة النخيل)..هذا الإصرار لدى نساء البصرة على الإحتفاء بالحياة، هو الفعل المبادر بالتصدي لذلك الخوف الذي تزرعه السلطات العراقية المتعاقبة في النظام الفسلجي لروح المواطنة: ( كائنات البن) و(عندما تستيقظ الرائحة) ( نصف للقذيفة / 63)(أحزان الشتاء).. لكن أحيانا شروط الإضحاك مغيبّة كما هو الحال مع شخصية سليم في رواية (الثنائية اللندنية)، لأن قبل الضحك هناك ضرورة توفر (الشعور بالمكان/99) فهذا الشعور هو الذي (يخلّد المكان ويجعله جميلاً) فهو من خلال رسالته إلى منى يبوح لها (غريب بين غرباء في هذا الميناء البعيد عن العراق بأقصى مايمكن البعد أن يكون بعد بضع مئات من الاميال شمالا، حيث النرويج والدانمارك ثم القطب الشمالي الجاثم على الكرة الارضية، كيف تبدو البصرة وكأنها حلم في جنة قرآنية، هنا لايكون للإنسان سوى رغبة واحدة وهي أن يعود الى شرقه، يبني أو يزرع في الصحراء ببساطة وحماس. ويقول هذه هي بلادي../93) هنا سيكون الرضا، قد تجرد عن أفيون اليوتوبيات كلها ويدخل جنة البستان بصرته (بلا أوهام ولا مبالغة ولا بطر فكري)، ليس شروط الإضحاك وحدها المغيّبة، بل شروط المباهج والمسرات، وذلك معلنة في (كائنات البن) في فصل ( زهرة برية في دخان الأزياء) حيث تدخل عائلة بصرية في محل للأزياء لتشتري ملابس (الطفلة تتأمل بدلة وردية يزين أطرافها دانتيل أبيض اللون تنتشر على بياضه فراشات ملونة .. /18) وحين نكمل قراءة هذا الفصل بعمق ونعيد القراءة، سنرى كيف يفعّل السرد تمازجا بين لحظتيّ قبل الحدث الأجرامي وبعده، حيث يشمل الأنفجار محل الأزياء والعائلة تتأمل الملابس لتختار ماتريد، والشيء ذاته في فصلي ّ(حبة ندى .. لا شمس لفجرها : دمعتي) (كلما قلبتُ فنجانا سكبني أرقا جديدا)..
 
(*)
 
في 2001 صدرت ( الماء والنار) الفعل الروائي الأول للروائية إلهام عبد الكريم .
السرد فيها هو المرتبة الثانية، أما المرتبة الأولى : الشفاهية البصراوية المنبجسة من شفتيّ الجد التاجر، الذي سنلتقيه ثانية في (نساء) روايتها الثالثة، الجد يحكي والحفيدة تكتب وهكذا تكون لدينا ما ستطلق عليه قراءتي المنتجة (أمالي التاجرالهندي) الحفيدة بدورها ستحركها قوة أماليها نحو جهوية مركبة .
 
*التلازم الشفيف المصوّت (فقد لازمني كما تلازم أغنية نسمعها لساننا ونمضي أياما ونحن نترنم بها /8)
*القوة الإيقاظية (بدوت كمن صحا من رقاد طويل عميق على واقع واضح من دون لبس أو غموض)
*القوة الإنتباذية الماضوية (راحت الأشياء تتفق مع بعضها لتضعني في صلب أحداث مضت منذ زمن طويل)
*انتقال التذكر من باطن الذاكرة إلى البراني (ترآى لي سقف غرفتي بحرا .. نزل البحر من السقف واستقر على مساحة الحائط بأكمله ..) وسيكون السقف مرآة في روايتها الثالثة (نساء) وسترى فيه ما مضى وقد تدفق .
*ترميم فجوات أمالي الجد : تخاطب الحفيدة جدتها (كان البحار يحملك على كتفه ويجاهد بذراع واحدة حتى أوصلك الى الجرف) فينظر الجد مندهشا ويقول مرتعشا :
 
(من قال لك هذا ؟ أنا لم أحدثك بشيء منه أليس كذلك ؟ لايوجد مخلوق يعرف هذا حتى أنا نسيته تماما . /13) وهندسة السرد ستكون منشطرة بين عين أمل الرائية الحفيدة ولسان الجد الذي يتذكر، سيتوارى السقف والجدار وفعل التذكر في هذا الحيز من الفضاء الروائي، ليظهر ثانية في ص216 كعتبة نصية من داخل النص لها وظيفة غلق دائرة السرد الرواية ( نهضت أمل متعبة.. القت بنفسها على سريرها حاولت أن تنام ولكن .. أصبح سقف الغرفة نديا.. هبط جدها آدم العطار من تلك السفينة تجول في أسواق البصرة، فتح دكانه راح يبيع الناس حنطة ومعلبات وبهارات وأشياء أخرى حسبوا انهم لن يروها بعد الآن.. /216) .
 
إذا كان السقف يتماوج بحرا ومن بعده الحائط، فإن هذه الكتلة الهندسية أوتلك تستعيد هويتها الثابتة، بعيدا عن ترسيمات المخيلة، أعني حائط غرفة الحفيدة أمل يعود إلى سيرته الأصل / الحائطية . في (كائنات البن ) للشاعرة والروائية بلقيس سنجد روسومات في الكهف وللكهف في الرواية علاماتياته المكثفة، التي تستحق اشتغالا نقديا خاصا، والترسيمات التي في الكهف سيتم تحريكها بالأختلاف حول شفراتها القابلة لتأويلات شتى، وسيقوم السرد بتحريك الساكن / رسومات الكهف..والعلاماتية الأخرى هي حبر رواية (كائنات البن) وترسيمتها، (من هنا سيكون البن خرائط مسردتي ومن فتيت الفناجين المتخثر تطل وجوه.. لتزيل تجاعيد الحاضر.. /99) هذه شهادة الساردة / مؤلفة الرواية، في الفصل المعنون (ما بعد السرد.. ما قبل البن) ..
 
في 2007 أصدرت الروائية إلهام عبد الكريم روايتها الثانية (الصمت) والصمت : امرأة لا تعرف عن ذاتها، إلاّ حسب ما تمليه عليها :
 
سلطة ذكورة تعمّد النص الروائي إغماضها، يبدو إن قوة معينة علّقت فاعلية النطق، وهكذا أنمسخت المرأة في الرواية بفعل نسق رجولي مهيمن ومتخفٍ، وهكذا صارت المرأة / الأم، لا تملك من ذاتها سوى شبهة الذات، أعني ذات مبأرة بقسرٍ رجولي، حوّل الأنثى : موضوعة ً كينونة ً خارجية ً، محض قيمة جنسية، لذكرٍ يُرى في ملامح أولاده ولا يراه القارىء في المسطور، وهكذا أصبحت الأم : خصبها لا يفيض منها، بل من الذكرالمتخفي . وبشهادة إبنها رياض (الرجل الذي تبحث عنه، في وجه أحمد، ليس مجرد ذكرى عابرة، أوغائبة في طيات النسيان، بل أنه حاضر معها في كل ثانية من عمرها المسفوح إنتظارا مذلا) الصمت تجسد امرأة ً، وصمتها موس في بلعومها إخراجه فضيحة، ابتلاعه جرح مميت، ومن تركيم الصمت، من قسوة الصمت إنطلقت قسوة أشد وهي قوة إنغلاق شفرة اجتماعية، لا تشتغل خارج علنيتها . وهذه الشفرة تدخل ضمن ما يطلق عليه كلود لوفور (السجل الاجتماعي) الذي يشمل : (المدرسة، العائلة، القضايا الجنسية) وتتمثل بالوخزات الاجتماعية التالية :
 
(1) مجهولية الأب بالنسبة للأبناء (أريد أن أعرف ُ أبي.. /ص27)
(2) مجهولية الأم (مَن أنت ؟ ما اسمك ؟ من أهلك ؟/ ص12)
(ألجأ إلى تعذيب نفسي بنفسي فأنا لا أعلم لوالدتي أهلاً)
 
قساوة تؤدي إلى شكوك وأحيانا إلى أقسى من ذلك !! وصمت الأم يؤدي إلى إساءات تأويل مشروعة، وبشهادة ولدها رياض (يراودني إحساس إننا لم نكن أبناءها حقيقة بل وديعة أودعها أحدهم لديها ونسي الأمر وبمرور الأيام نمت بيننا عاطفة غريبة . كنت أشعر بحنانها بقوة إلا أنها لم تمنحني منه شيئا/49) .
 
تشتغل رواية (الصمت) على مثنوي: المعلن/المتخفي، أنوثة في المعلوم وذكورة في الظلام (رجل أبيض يأتي في الظلام، ويغادر لحظة إنبعاث الضوء/31) .
 
إذن امرأة الصمت هنا مندغمة بكينونة الرجل، يدحض (أنثوية العلم) وبشهادة جيرمين جينيت، أحدى قياديات الجندر (حب الآخر يقوم على التفاهم، وبالتالي على الاتصال فالحب هو الذي علمنا أن نتكلم، والموت هو الذي وضع أصبعه على شفتينا وحثنا على الصمت/ المرأة المدجنة) والمرأة الصامتة اللسان تضيف علامتين صامتتين : فهي دائما (محنية الظهر/ مطأطئة الرأس) .
 
(*)
 
قسوة الكتمنة والصمت في رواية (الصمت) للروائية إلهام عبد الكريم، تحيلني  إلى ما يتوازن معها/ يتوازى، من خلال رواية ( كائنات البن) للإعلامية والشاعرة رئيسة منتدى أديبات البصرة بلقيس خالد، وكتمنة (كائنات البن) منبثة من حيوية العلاماتية في النص، حيوية تزدهر/ تتأرج بفعل القراءة المتأنية . شخصنة : الصوت/ الصمت، وبتوقيت تخفيض الصوت بقوة مغناطيس الحجر والعتمة والرطوبة والظلام وستكون الصورة الاسم الثاني للصوت وبشهادة أحداهن (كهف إلتصقت الأصوات على جدرانه . من الأصوات : صورٌ تنهض.. تستبق والظلال) هنا نلاحظ التالي : صوت/ صمت --------------- صورة + صورة ظلية.. نلاحظ أن الجملة الأولى في السطر الأول من الفصل الأول، هذه الجملة تكتنز بخلية السرد الموقوتة في الرواية : (هص..أص ..أص ..عليك أن تلدي بصمت، صمتك ِولادة كبرى . لا..لا ترفعي صوت أنفاسك.. حسُبك ِ الصمت كل شيء سيكون على مايرام) كيف يقترن المخاض بالصمت، أي امرأة لها هكذا طاقة، عليها أن تصمت وهي على شفا حفرة الصمت الأبدي !! في حين أن الصوت، بل الصريخ ضرورتها الفيزيولوجية، تلتقط قراءتي المنتجة هذه العينة السردية الصغرى (صمتك ِ ولادة كبرى) إذن هناك ولادتان : صغرى / كبرى، ولادة الجنين هي الصغرى وهذه الولادة هي الحد الطبيعي أما الولادة الكبرى فهي الولادة بحدها المجازي بدلالته التحررية المكتنزة بشحنات ثرة وهي تخليص الأراضي العراقية من إظلاف الدواعش . نلاحظ في رواية( كائنات البن) تعديد الصمت :
 
*الصمت يقلق السمع / يربكه
*الصمت ينتزع الثقة بالحياة
*الصمت ضجيج يحجب الرؤية
*الصمت :عمى الأذنين
 
والأهم من كل هذه التنويعات : أن النسخة الأصل من السرد هي النسخة الصامتة .. هي ترسيمات ما يتبقى من القهوة في قعر الفنجان، وهنا نكون مع سرد ينتظر الدفعة الأولى من الحركة، أن نقوم بقلّب الفنجان على فوهته، بعد تكميمها بصحنه الصغير، ثم أعادته إلى موضعه على المنضدة، وازاحة فوهة الفنجان عن حافة الصحن قليلا، لتسيح خيوط البن وترتسم كائنات البن، هنا يقوم البن بتصدير الأمالي، على مَن يمتلك مفاتيح الشفرات، ليقوم بدوره لتصويتها إلى من أرتشفت الفنجان وبالطريقة هذه يكون تكليم البن/ النص (مَن خطوط الفنجان.. بعينين احتشدت فيهما كل سؤالات النساء وقفت تتأملني/16) وللقهوة فعل استقواء (صببت ُ قهوة ً في الفنجان: أشرقت الأشرعة/13) نلاحظ أن السارد الأول هو البن، ويشهد السارد الثاني/ السارد المشارك في صوغ الحدث وفتنتة السرد الروائي ( إلى الآن لم أعرف أن الفنجان عالم آخر تسير في شوارعه الكائنات وتحكي قصص الخيال الحياتي، الديني، العلمي.. كائنات مستنسخة تتمرد على الأصل، تتلبس اشكالا عدة.. كائنات تحلّق أحيانا وتزحف.. تأخذنا معها تحركنا كيفما تشاء . بإمكانها أن تجعلنا نبتسم بإمكانها أن تزرع بروحنا غابة الكآبة/ 77) سرد البن ليس حروفيا، وإن أحتوى أحيانا بعض الحروف، سرد البن علاماتيا : ترسيمات/ خطاطات/ وجه/ عين/ قدم/ رأس طير/
وبشهادة أحداهن في الرواية ( هذا الفنجان : عينٌ هو يرى ما لاتراه عيني/ 60) .
 
 
(*)
 
سمية الشيباني في (حارسة النخيل)  وكذلك زبيدة مسلم حسب في ( أحزان الشتاء) تنشطر شاشة السرد لديها في الفصول الأولى، كما تنشطر شاشة السينما بين الآن / كان.. أعني بين لحظة الراهن المعيش وبين الزمن النفسي الذي كان، وهكذا يحاول السرد الموازنة بين لحظتين، ثم تحاول لحظة الراهن، أن تتصدر الشاشة..
 
(*)
 
في  روايتها الأولى (النقطة الأبعد) دنى غالي، يكون المكان بوظيفة أختلاف، وتعاني أشكالية من طراز الضحك الموجع كلا من : هنا وهناك، حيث يصبح الهنا الأول بمنزلة هناك، فالشخوص غادر الهنا كرها، وتبدلت الأدوار فالمكان الأبعد صار بالنسبة لأهل البصرة المتواجدين في لندن، هو (ساحة سعد) بوابة البصرة وكراجها الموّحد المؤدي إلى المحافظات، ومؤثرية المكان تخلل الساعة البيولوحة لدى وفاء البصرية التي وصلت لندن للتو.. (نظرت إلى ساعتها، حتى الشعور بالوقت بدا مختلفا لديها، بل إن جسدها ومنذ أسابيع .. يعلن عن اضطرابه . راح يعطي اشارات خاطئة عن الجوع والعطش والبرد.. /55) هنا تقارن وفاء لحظة اللندنية، وهي تبأر الوطن من خلال بصرة المقاولات وهمجية الحرب في الثمانينات التي مسخت الحياة في البصرة وجعلتها (تبدو في ظاهرها كمكتب عقارات هادئة لا تتطلب منك سوى طاولة وكرسي /39) وبرسم الايجار تطينت القيّم المجتمعية : الشرف ..الأخلاص.. الأمانة، وحتى الحروب فهي محض مشكلة لغوية !! كما يرى أحد المفكرين وهو يحرّف الخطاب من المفاهيم إلى المدفعية !! معلنا عن ذلك في حوار أجرته معه مجلة لها وزنها العراقي آنذاك !! . الحرب تصيب البصرة بداء عضال : قصف سجال على المدينة وأقتحام البيوت بحثا عن بقايا القوتين اليسارية والإسلامية . إعدام الجنود الرافضين للحرب والمشكوك بولائهم، ودفع أجور رصاصات الإعدام، ترقين قيد العوائل التي لم تستلم لتموت جوعاً، تهجير عوائل على حقول الألغام . ماء البصرة بنكهة الخردل بشهادة مركز الوقاية الصحية / ص25 . أما الآن ونحن في أيلول 2018 فالبصرة لاتعاني فقط من ملوحة المياه كما هو شائع، بل تسريب النفايات النووية في مياه شط العرب، وتعاني تدميرها شاملا من قبل الحكومة العراقية .. في (النقطة الأبعد)  المتبقي من البصرة هو :  يوتوبيا مؤتلفة النسيج تجسدها مكتبة والد سامي تحوي خرائط لم تعد ترى، ولا يمكن تخيلها، في البصرة ترسو سفن ٌ ويتعايش في البصرة تعايشا سلميا خليط أجناس عاشت فيها، دعاة حق، مدارس شتى، ملل ونحل، تركت مدائنها وأنتظمت حجيجا، وأعشوشب حيواتهم في أزقة البصرة وبساتينها، ولم يعودوا لمدنهم الأولى/ص79 وهذا يعني أن ثمة هجرات حضارية قصدت البصرة وأستوطنت فيها، أما الآن والآن تعني لحظة الإنقضاض على قوى الخير في البصرة والعراق، وبشهادة أحد الرواة في رواية (النقطة الأبعد) : (لم يعد هناك مثقفو نادي الرازي للأطباء.. ولا شيوعيو نادي الأقتصاديين ونشاطاتهم الثقافية، ولا الميناء وأماسيه العائلية.. /79) وهكذا حدث النكوص الأكبر مقارنة بخمسينات القرن الماضي، حيث تفعلت اتصالية بين الثقافتين الشعبية والعارفة – حسب فاطمة المحسن –
 
(*)
 
الفراغ : هذه المفردة تتكرربشكل لافت للنظر في رواية دنى غالي، ومفردة فراغ تستدعي ضديدها : ملء، لكن الملء : مفردة مشطوبة بقوة الشرط السلطوي العراقي المتحكم بمصائر العراقيين والعراقيات كافة .الفراغ يصطحب معه أنىّ ذهب : التفاهة والوصولية المشخصنة بهؤلاء الذين لا يرون سواهم  : فلاح/ هناء/ خالد/ سالم ..أما الشخوص الأخرى، فتكابد الفراغ : (أدور ببيتي ..بفراغي/ 129) (وكأن الكون أفرغ من هوائه فلم تجد ماتستنشقه /291) (شعرتُ بصداع وزعيق ومن ثم بفراغ تام /257) والخوف يكون أحيانا هو الأب الشرعي للفراغ يأخذ الفراغ لدى وفاء انعكاساته السيكلوجية، من الفراغ يأتيها الخوف في لندن (خوفها يشبه صمت المكان.. خوف على ما تملكه، وخوف مما سيأتي يتكرر دوما .
 
(*)
 
إذا كانت بلقيس خالد في (كائنات البن) قد حرثت روائيا العنف بالجملة ضد العراق من خلال داعش ومجزرة سبايكر، فأن زبيدة مسلم حسب في روايتها (أحزان الشتاء) قد ركزّت على العنف بالمفرد، كتجسيد لعنف بالجملة، يقوده رؤوف الكمالي الذي يتاجر بالمخدرات، وغير المخدرات، وهو لايتورع عن قتل (براء) زوج حفيدته ( حنين) ثأرا لمواجهة بين عصابته بقيادة ولده (شريف) وبين الشرطة، يحدث ذلك وهي في الأشهر الأولى من زواجها، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد (48ص) وفي النهاية حين يرى نفسه قد خسر صفقته الكبرى من الحشيشة، أثر مواجهة مع الشرطة يمارس عنفه الأخير ضد نفسه وينتحر .
 
(*)
 
عبدالله الملاك في رواية إلهام عبد الكريم ( الماء والنار) ورؤوف الكمالي في رواية زبيدة مسلم حسب (أحزان الشتاء) كلاهما من الأثرياء، لكنهما يتموضعان بالتقاطع .
 
فالفلاح الثري عبد الله الملاك محب لقريته يساعد الجميع في حين رؤوف الكمالي يسمم الجميع بتجارة المخدرات ويقسو على آل بيته، ويقف ضد حفيدته (حنين) خلافا لذلك يكون الفلاح الثري عبدالله الملاك الذي يرى في حفيدته مستقبل المرأة العراقية وكلاهما يعكسان سمات حقبة من تاريخ العراق، فالأثرياء في بداية القرن العشرين كانوا يتسمون بميسم الوعي الوطني الجمعي، أما في هذا القرن فقد طفحت طبقة طارئة تكتلت من خلال الثراء المشبوه، طبقة تعصر المواطن بقبضتها .
 
(*)
 
الجامعة والعلاقات العاطفية والصداقات في الحرم الجامعي هي المشترك الإتصالي بين روايتيّ الدكتورة إخلاص وزبيدة  وتنماز رواية إخلاص بالإنسجام العائلي بين عائلات الرواية وإنتسابهم للطبقات المرفهة إجتماعيا والملاحظ أن للدكتورة إخلاص النجار طاقة لمواصلة السرد، وشاهد العدل على ذلك روايتها الطويلة، المكتظة بحيوات ومصائر شخوص تتداخل وتتقاطع وتتنامى ضمن شبكة إجتماعية واسعة، والملاحظ أن الشخوص الفاعلة من طلبة جامعة البصرة، وهي في كتابتها تعتمد لغة متداولة تصل لأبسط القراء، لكن هذه الشخوص تحتاج الى صقل سردي لتزداد الرواية فتنة، وأسلوبيا من المؤكد في روايتها القادمة ستتخلص من أفقية السرد من خلال ترشيق المسرود ونحت شخوص روايتها . والعلاقة التقنية بين روايتيّ (كائنات البن) لبلقيس و(رسائل بأنامل القدر) لإخلاص، أن رواية بلقيس تنسب للرواية القصيرة ذات الإقتصاد السردي، وهنا ينبثق السؤال السردي الضروري: هل الروائية بلقيس خالد استعملت الإيجاز أم تكثيف السرد ؟ جوابي هو كالتالي : حين يكون القارىء ملما بشيء من الإحساس بالفعل الروائي، سيرى سرد كائنات ينتسب للتكثيف وليس للوجيز والفرق بينهما (الكثافة تعني عمق الدلالة واكتنازها وقوتها، أما الايجاز فيعني قول الأشياء بأقل ما يلزم من الكلمات دون أن العمق والاكتناز شرطا من شروطها/ 179).. أما رواية الدكتورة إخلاص فتنسب للرواية النهر، يؤكد ذلك حجمها 692 صفحة، وتحتوي الرواية على عائلات بصرية يقارب بينها الرفاه الاجتماعي، ومشكلاتها مألوفة ومؤتلفة مع وضعها الطبقي، وتقنية الرواية تستفيد كثيرا من الحوار المسرحي، وكان من الممكن لملمة فرشة الرواية  لتنتقل من رواية في الإمكان الى رواية تتجاور ولو على مسافة من الرواية الحداثية .
 
(*)
 
في رواية بلقيس خالد (كائنات البن) والبن تسيح سروده كترسيمات بعد قلّب الفنجان رأسا على عقب، وهذه الترسيمات، ستبث أماليها على قارئة الفنجان، وهكذا تنتقل السردية من الترسيم إلى الحروفية . في روايتها (حارسة النخيل) تستقبلنا الروائية سمية الشيباني بعتبة نصية عنوانها (رؤيا) في هذه الرؤيا، تلتقي سمية الشيباني بامرأة مؤسطرة الملامح، ثم يحدث بينهما تماه (5) ثم  تنبجس الأمالي، المرأة تملي وسمية تكتب (قالت لي : اكتبي ما أمليه عليك، ابحثي معي عن كلمات تكسر الصمت وابعثي فيّ الروح !  ويتكرر فعل الكتابة (اكتبي كي لا تموت فيك الروح !)  ويكتمل التكرار في الإحالة الثالثة (فاطردي خوفك واكتبي) وهكذا تبث المرأة الأسطورية شحنات الكتابة الموجبة في ذاكرة المؤلفة سمية الشيباني وبشهادتها ( وجدت نفسي أكتب ولا أريد أن أتوقف عن الكتابة ) ثم تخبرنا المؤلفة دون أن نسألها عن هويتين لهذه المرأة الأسطورية :
 
(1) إنها سيدة البحر
(2) حارسة النهر
وهذه هوياتها العامة أما الهوية الخاصة لتلك المرأة فهي بالنسبة لسمية
(1) حارسة روحي
(2) وسيدة أمومتي
 
(*)
 
المشترك الروائي الثاني هو الروايتان تبدأن بحدث كبير يحدث قطعا سياسيا حادا، في (كائنات البن) الحدث يتجسد في إغتصاب داعش للتراب العراقي، أما في (حارسة النخيل) فالحدث يبدأ بغزو العراق لدولة الكويت .
 
*المشترك الثالث : تبدأ رواية (كائنات لبن) بلقطة مخاض عسير لأحدى النساء
ومكان الولادة لايمتلك أي شروط التوليد، في (حارسة النخيل) ستكون البطلة مرغمة على مغادرة الكويت بعد الحرب النفسية التي تعانيها البطلة 
والساردة في الرواية، تجعلني أرى أن الرواية لاتخلو من جانب من السيرة الذاتية للمؤلفة /24/27 بينما رواية (كائنات البن) رغم أنها الرواية الأولى للشاعرة بلقيس خالد، لكنها بمهارة سردية وزعت ذاتها في ذوات العراقيات الثكالى، لتمنحنا نسق المتعدد في الواحد .
 
(*)
 
في رواية سمية ( حارسة النخيل) مع غزو الكويت يتوقف البث السردي عن التقدم ويزاول بدلا عن ذلك تراجعا إلى زمن مضى، شباب المذيعة التلفزيونية وزواجها، ثم التراجع نحو طفولتها وسيادة ظلم زوجة الأب، التي تخونه زوجها بالجملة والمفرد، مصطحبة معها ابنة زوجها للتمويه، فينتاب الطفلة القلق والرغبة بالبكاء والأختباء وطرح الأسئلة، وحين ترتمي بحضن جدتها، تصير عصفورا مبلولا، كرة أسفنجية ً، تمنت التوغل في دفء جدها، لتكون وشما في عنقها أو كحلا في عينيها محبسا فيروزيا في أصبعها، ولاتكتفي بالتمني بل تنخرط بالبكاء وتتوسل جدتها أن لاتسمح لزوجة ابيها أن تأخذها معها كلما غادرت البيت وبشهادة الطفلة ذاتها (فأنا أبحث عن سحر ٍ يخرجني من كابوسي/35) . نلاحظ أن الطفلة تحلم بخلاصها من جحيم حياتها مع زوجة الأب، وكذا الحال في رواية (أحزان الشتاء) لزبيدة مسلم حسب فالشابة الأرملة مبكرا، تتمنى التحرر، من العيش في قصر جدها رؤوف الكمالي، الذي أرغم عمها على قتل زوجها براء، ثأرا لمقتل ولده شريف على يد الشرطة في مجابهة مع عصابة المخدرات التي يقودها جد حنين .
 
(*)
 
مشكلة المذيعة العراقية البصرية، في الكويت، أضرمت نارا مع غزو الكويت  على وفق المثل الشعبي (الشر يعم والخير يخص)، أصبح العراقي المضطهد في زمن الطاغية، جزءاً من آليات الطاغية أثناء غزو الكويت !! هنا لا فرق بين العراقيين بالنسبة للخليجين :  كل العراقيين :  شاركوا في الغزو، وهذه الكلية جائرة، لأنها لاتميز بين أزلام الطاغية والشعب العراقي المسحوق والمقبور في مقابر جماعية مجهولة، والمزجوج به في حروب الطاغية . 
 
يتوزع السرد على تراتبيتين :
 
*التراتبية الأولى هي الآن ويكون السرد من خلال الأم المذيعة الحامل بطفلها الثالث، والآن هي لحظة غزو الكويت وتداعياته على المنطقة
*التراتبية الثانية : تتراجع المرأة المذيعة، لتستقر في الطفلة التي كانتها هذه المرأة، والإختلاف بين الأثنتين هو اللسان والصورة الأشهارية ( مذيعة التلفزيون الغنية عن التعريف/24) .. تتراجع المرأة ومعها يتراجع المكان والزمان وتستقر المرأة في طفولتها الآفلة، وبشهادة المرأة نفسها عن نفسها آنذاك : (كانوا يسمونني الخرساء، حيث كنت قليلة الكلام، وربما كنت أنشغل كثيرا بالتخزين فليس لدي الوقت الكافي للكلام والسرد والوصف/49) يستوقفني هنا النسق المفاهيمي : 
 
*الكلام
*السرد
*الوصف .
 
هنا لدينا أشكالية لغة، تشير أن المتحدث هنا المؤلفة وهي تكتب نصها، أن الطفلة لا تعاني من الوقت، بل كانت تعيش طفولتها مثل غيرها من الأطفال من ناحية تحسس الوجود وتناولها للحياة، وهذا الأمر لا دخل له (بالوقت الكافي) وما يجري هنا تداخل اللاشعور في الرواية العربية، نحو هنا مع الروائي وبطلة
بشهادة جورج طرابيشي في كتابه (الروائي وبطله/ مقاربة اللاشعور في الرواية العربية) 
 
(*)
 
البصرة في روايتيّ سمية الشيباني في الغالب تأخذ مساحة من السرد السياحي الأفقي (234- 235- 236) هذا السرد يصلح للتعليق التلفزيون المصاحب لشريط الصورة، وهذه الحالة، معلنة أحيانا حين تتسرب المذيعة التلفزيونية من لاوعي المؤلفة وتتمرد على البطلة، وهذه عينة على كلامنا (كان الطريق إلى الشارع العام طويلاً، وأزقة تلك البيوت المريبة تحبس الأنفاس، وتعليقات النساء والرجال بعضهم لبعض جارحة، كانت هي تبتسم لي وتأمرني أن لا أخبر أحدا بما أسمع وأرى، أو أن أذكر تلك الزيارة !؟/ 30/ حارسة النخيل) بعد هذا التداعي في زمن مضى، تنهض المذيعة التي في المؤلفة سمية الشيباني وتخبرنا (قلت : حسنٌ بهزة رأسي، وفي حقيقة الأمر كان رأسي قد انتفض لأنه بدأ بتسجيل المشاهد وحفظ الصور !) وكذا الحال في (نصف للقذيفة) حيث ينغمر النص الروائي بالسرد السياحي (32- 33) وتوجد صفحات كثيرة على هذا المنوال السردي وهناك ملاحظة سردية أيضا وهي دكتاتورية الساردة، فهي لا تفسح مجالا في السرد لسواها، ويتحجم الآخر من خلال التحاور معها الساردة المركزية، فتكون الشخوص كلها مبأرة من خلال عين السارد المشاركة / العليمة في الوقت نفسه، وهذه الدكتاورية تؤثر سرديا فيصاب السرد أحيانا بالترهل بسبب أفقيته الحركية .
 

(*)
 
الكتمنة الموجودة شخصية المرأة في (الصمت) رواية إلهام عبد الكريم، والشخصية/ المحور التي تطوف حولها بقية الشخوص، بتوقيت الإحتلال البريطاني للبصرة، لهذه المرأة جذور في روايتها الأولى (الماء والنار) سنجد الكتمنة والإنتباذ عن الآخرين، من خلال شخصية (سماء) وكذلك من زوجة أحمد، والدة أمل لكن صمت المرأتين مرتهن بأسباب معينة وسيزول هذا الصمت بزوال المؤثر المجتمعي . في روايتها الثالثة (نساء) ستكون هناك نقلة من المفرد إلى الجملة من امرأة مكتومة إلى خمس نساء بصريات وبتوقيت الإحتلال الأمريكي للعراق.. وهؤلاء النسوة بمنزلة الواحد المتعدد في خطواتهن الأولى (نحن خمس صديقات جمعتنا عشرون سنة متواصلة، وباعدت بيننا أكثر منها.. لم نتوقف عند التفكير بعضنا البعض، وكان أفتراقنا بعيداً عن إرادتنا ألا أنه لم يكن قسريا.. /ص21).. نسوة مثقفات في مدينة حضارية مثل البصرة العظمى، تتعايش فيها سلميا الملل والنحل : بصرة المسيحيين، في الكزارة وإبريهة والمعقل، وكمب الأرمن في منطقة العباسية، والبصرة القديمة ومدرسة الراهبات ومدرسة الرجاء العالي التي كان من تلاميذها يوسف سلمان يوسف (فهد) زعيم الحزب الشيوعي العراقي وفي الصف نفسه كان بهجت العطية الذي سيكون أكبر رأس في مديرية الأمن العامة في العراق.. البصريات أربعة منهن تقاسمن الأعدادية نفسها : (ساغيك) (بريتون) (زهراء) أما الرابعة فتعوّض عن الاسم بضمير المتكلم (أنا) وخامسهن (موجة) اقتسمت معهن جامعة البصرة.. رسمة غلاف الرواية زخرف نباتي يحتوي خمس أوراق، الورق البنفسجي بلا كتابة، أربع أوراق تميل للوردي الذي تشوبه الدكنة، معلّمات حروفيا : س/ ز/ ب/ م.  وبين (س) و(م) تتموضع الورقة الخامسة وهي خضراء من غير سوء معلّمة بضمير المتكلم (أنا).. ولكل امرأة بصرية حكايتها المشطورة بين مثنوي: الذكرى/ الراهن . لكن الراهن بسسب ضعفٍ في شخصيته سيتراجع وينغمر بما مضى وبشهادة الساردة (فالجديد يشغلنا حيناً ويقطع علينا طريق التذكر ولكنني أعترف أن قوة الجديد سرعان ما تتلاشى بعد حين وسيفاجئنا التذكر بأقسى هداياه اللعينة، سيرمي علينا دائما ما ركناه خلفنا من ركام /84) وهذا الكلام يتسق مع ما تقوله (كائنات البن) للشاعرة والروائية بلقيس خالد ( لا فرق بين الغرائبي الذي مسَخ َ حياتنا وبين الواقع المتراجع في شبحيته.. كل حرب لها أشباحها الذين يطوفون في كل الأمكنة والأزمنة نسمع حركتهم في أبواب الغرف والبيوت/99) وبصرة التعايش السلمي بين الملل والنحل، نجدها حين ندخل بيت جدة سلوان في (منازل الوحشة) رواية دنى غالي حيث (أقام فيه المهندس الكردي والمرأة التركمانية الثكلى والهاربة المتخفية من الناصرية والعائلة القادمة من أطراف المدينة) زمن الرواية في (منازل الوحشة) هو ما بعد سقوط الطاغية وتحديدا 2006- 2008 زمن الخطف والقتل على الهوية والتفخيخ.. سلوان مهووس بالموسيقى والقراءة ومن الروايات يشتق أسماء بديلة لمن يعرفهم وبشهادة أم سلوان (كنتُ، منيرة، أوفيليا قبلها، أنا الآن سونيا، وأظنك مازلت، مدحت حتى اللحظة/ 137) ثم يبحث عن اسم يليق بفاعلية جدته فهو يطلق عليها (أسرار) وقد اشتقه من تعددية غرف البيت المكتظة بالاسرار، ثم يرفضه لأنه ( مجرد اسم رنين وخفة لا يتناسبان معها/ 176) وسيرفض أن يسميها (ذهب) لأن الذهب (معدن جامد ليس بحاجة للكثير كي يفرض نفسه، ثقتها ليست متأتية من الذهب، بل من أبيها) خلافا لذلك يكون الأمر في رواية بلقيس خالد (كائنات البن) الشخوص كلهم بلا أسماء، وفي (ما بعد السرد.. ماقبل البن) تخبرنا المؤلفة بلقيس خالد (وضعت لكل حيز من الفضاء النصي اسماً بصيغة عنوان فرعي، وعليك ياقارئة/ .. قارىء النص أن تتشاركا بتسمية شخوص روايتي، حسب مكابداتكما بماجرى ويجري../99) ..
 
(*)
 
في رواية دنى غالي (عندما تسيقظ الرائحة)  كقارىء شوكته خبرة ٌ سياسية ٌ، تستوقفني شخصية (مروى البصري) مصابة ب(تشتت ذهني حاد كجزء من حالتها المرضية /56) في مديرية أمن البصرة يكاد يخنقها الدخان أثناء التحقيق وهم يتحرشون بجسدها ليسقوطها أخلاقيا/ سياسيا/ ص173 )ومروى تعرف جيدا أن البراءة من الحزب سقوطا سياسيا مدمرا/ 123 المرأة العراقية عرضة للأستباحة من قبل الأوغاد،  دائما المرأة العراقية عرضت للأغتصاب منذ حركة بكر صدقي الذي استباح النساء الآثوريات وانتهاء بداعش حيث (صارت الزهرة مثل هذه المعلقة فخذيها على الحيطان.. وبينهما تأرجح كل هؤلاء.. كان يسمع صياحها والبكاء.. /43/ كائنات البن) .. نهلة صباح حين تصل الدنمارك، يصير اسمها دنماركيا : نهلة سابا وهي تعيش مثنوية نفسانية (في داخلي يتصارع إحساسان قاهران، إحساس بالظلم لكل مامر بي وأحساس بالذنب وكأني المسؤولة عن كل مايحدث/129).. تحاول الطبيبة النفسانية أن تتفهم الذات العراقية، لذا تسعى لتعلم اللغة العربية لتقرأنا تاريخا ومشتقاته، وهنا أقترض من شخصية نهلة صباح السؤال التالي وأبثه للطبيبة الدنماركية (لن يمكنك أن تتخيلي حجم ما مررنا به في العراق . هل تتخيلين وجود نظام يفتك بمواطنيه لكي ينقرضوا/ 124) هذا السؤال صالح للعمل حتى ما بعد هذه اللحظة العراقية والسبب أن الحاكم العراقي وحاشيته، عراة من روح المواطنة والولاء للعراق .
 
(*)
 
من عنوان ( مفردة بين قوسين)، نجترح مدخلا آخر ل(كائنات البن) بتوقيت تراكض أقدام العوائل مع أجتياح داعش للموصل، يلتقط ُ طفل وهو مع أمه، ما تبقى من كتاب أنتهكته الأقدام وغير الأقدام، يقرأ سطورا منه تنتبه الأم تصفعه وتأمره بالتراكض من أجل الخلاص، الطفل يخبر أمه أن السطور التي قرأها لم يفهمها، توجز أمه فهما للمسموع الذي قرأ طفلها بقولها : (تعني متاهتنا هذه /92) يواصل السير، صوت منتج السطوراللامرئي يخاطب الطفل ويرجو منه أن يستأنف القراءة، فيقرأ ثانية ً  وهنا يتم الداخل بين حياة مسطورة كلمات وبين حياة لا تملك إلا الأقدام لتتجاوز طوق الكارثة فتنتصر الكارثة على الأقدام (تفرقت الاجساد ما بين راكض ومتعثر ومختف.. الكتاب على حافة الشارع البعيد ملقى تقلّب صفحاته الريح.. تجاوره بركة دم وعين مشرعة الأجفان /95) .
 
(*)


جدولة المشتركات المكانية

         الروائية           الرواية           الأمكنة 
 سميرة المانع الثنائية اللندنية      لندن – البصرة 
شوفوني شوفوني لندن - بصرة
حبل السرة لندن - بصرة
الهام عبد الكريم الماء والنار البصرة – الهند – البصرة - بيروت
الصمت البصرة
نساء
دنى غالي النقطة الأبعد البصرة – لندن 
منازل الوحشة البصرة – عمان 
عندما تستيقظ الرائحة الدنمارك  - البصرة 
سمية الشيباني حارسة النخيل البصرة – الكويت –الإمارات  بغداد – عمان – الإمارات 
نصف للقذيفة البصرة – لندن – البصرة 
زبيدة مسلم حسب احزان الشتاء البصرة – الهند – النرويج – روما – البصرة 
بلقيس خالد كائنات البن الموصل – تكريت – البصرة 
إخلاص النجار رسائل بأنامل القدر البصرة 
(*)
 
سميرة المانع توظف الصورة الموجودة في مقالة الكاتب البريطاني (كافن يونك) الصورة هي صورة الطاغية متكئا برفق على ظهر كرسي من طراز لويس السادس عشر، وتحت الصورة الفخمة المعلقة بالطريق العام، يقرفص مباشرة رجل عجوز عراقي شعبي، حاف، سيقانه نحيفة كسيقان الجرادة وبجانبه ربما زوجته.امرأة متكومة على الأرض، نائمة من اليأس، قربهما سلة مطاط فارغة صفراء خالية من الطعام /171)
 
(*)
 
في (كائنات البن) توظيف بلقيس خالد رسومات البن داخل الفنجان، رسومات الكهف .
 
(*)
 
سمية الشيباني في (حارسة النخل) توظف المرأة /31 والكاميرا/ 73 والحلم/89 .
 
(*)
 
زبيدة مسلم حسب في(أحزان الشتاء) تفتت الكتلة من خلال مونتاج يجزء المكان والزمان .
 
(*)
 
إلهام عبد الكريم، توازن بين المخيال والميداني في (الماء والنار) كما أنها توازن بين الصمت واللسان في روايتها الثانية (الصمت) أما في روايتها الثالثة
(نساء) فهي تتنقل من الحياة الجامعية لمجموعة صديقات، الى التشتت الذي يصبهن بمؤثرية الزمن واللحظة العراقية الصخابة .
 
(*)
 
دنى غالى في روايتها الأولى (النقطة الأبعد) يكون للمكان البديل / لندن : وظيفة أختلاف، يتجسد بمؤثريته على البصريين والبصريات في لندن . والزمن العراقي هو بدء الحرب العراقية الإيرانية، في روايتها الثانية ( منازل الوحشة) ستكون بعد سقوط الطاغية وبتوقيت الأرهاب والتفخيخ من 2006 إلى 2008 والمشترك بين الروايتين، هو تثبيتات سعادة منتصف سبعينات القرن الماضي أما المشترك الثاني فهو مغادرة العراق . في روايتها الثالثة (عندما تسيقظ الرائحة) سنعود لإنشطار السرد بين البصرة -------- الدنمارك، ومؤثرية إستبداد سلطة الطاغية على الشخوص التي يحاول التحليل النفسي أن يرمم الصدع الكبير لديها .
 
(*)
 
الدكتورة إخلاص تتمهل في توصيف وسرد الحياة في مجاليها الجامعي والأسري، وتنشّط لغة الحوار في الفضاء الروائي .




 






 


مقداد مسعود

مقداد مسعود (من مواليد 15 أكتوبر 1954م البصرة، العراق)، هو شاعر وناقد عراقي بدأ النشر منتصف السبعينات من القرن العشرين ولدَ في بيتٍ فيه الكتب  أكثر من الأثاث . في طفولته كان يتأمل عميقًا أغلفة الكتب، صارت الأغلفة مراياه، فعبر إليها وتنقل بين مرايا الأغلفة، وحلمها مرارًا . في مراهقته فتنته الكتبُ فتقوس وقته على الروايات، وقادته إلى سواها من الكتب، وها هو على مشارف السبعين في ورطته مع زيت الكتب وسراجها بقناعة معرفية مطلقة

مؤلفاته
الزجاج وما يدور في فلكه
المغيب المضيء
الإذن العصية واللسان المقطوع
زهرة الرمان
من الاشرعة يتدفق النهر
القصيدة بصرة
زيادة معني العالم
شمس النارنج
حافة كوب ازرق
ما يختصره الكحل يتوسع فيه الزبيب
بصفيري اضيء الظلمة
يدي تنسى كثيرا
هدوء الفضة
ارباض
جياد من ريش نسور
الاحد الاول
قسيب
قلالي

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved