في العشرين من آب ( أغسطس ) 1940، جاء رجلٌ يدْعى " جاكسون " إلى بيت تروتسكي في المكسيك . كلُّ مَن في البيت كان حذِراً من خطرِ القتَلةِ الذين قد يرسلهم ستالين، لكن " جاكسون " استطاع أن يُـقْنع الجميعَ بأنه تابعٌ مخْلصٌ . لقد جاء بمقالةٍ كتبَها، وطلبَ من تروتسكي الذي كان يعتني بأرانبه، أن يقرأ هذه المقالةَ .
بعد الخامسة مساءً بقليل، عادَ تروتسكي إلى الأقفاصِ، يُطْعِمُ الأرانبَ . ناتاليا التي كانت في الشرفةِ، رأت شخصاً ما، يقفُ إلى جانبه . الشخص اقتربَ، وخلع قبّعتَه، فعرفتْ أنه " جاكسون " . تقول ناتاليا إن سؤالاً التمعَ في ذهنِها : لماذا صار يُكْثِرُ الزيارةَ ؟
مَظهرُه ضاعفَ من ارتيابِها . كان وجهه أخضرَ، وحركاته عصبيّةً، وكان يشدُّ معطفَه على جسمه بتشنُّجٍ .
تروي ناتاليا أن تروتسكي كان متردِّداً في ترْكِ الأرانبِ، ولم يكن مهتمّاً بالمقالةِ إطلاقاً . لكنه تمالَكَ نفسَه، وقال : حسناً . ماذا ترى ؟ أنذهبُ لنراجعَ مقالتَكَ ؟
أغلقَ أقفاصَ الأرانب، غير متعجِّلٍ، ونزعَ قفّازَي العمل ... ومسحَ سترتَه، وسار صامتاً، مع "جاكسون " ، ومعي، نحو البيت . رافقتُهما حتى مكتب ليف دافيدوفيتش . أُغلِقَ بابُ المكتب، وذهبتُ إلى الغرفة المجاورة .
عندما دخلا المكتب، برَقتْ هذه الفكرةُ في ذهن تروتسكي : " بمقدور هذا الرجلِ أن يقتلني " .
قال هذا لناتاليا، بعد دقائقَ قليلةٍ، حين كان ممدّداً على الأرضيّةِ، ينزفُ دماً .
لا بُدَّ أن أفكاراً كهذه راودتْه، أحياناً، حين يُزارُ من أفرادٍ أو جماعاتٍ، لكنه كان يستبعدُها .
لقد قرّرَ ألاّ يُفسِدَ حياته بالخوف والحَيطةِ، وهكذا قمعَ آخرَ إشارةٍ لغريزة الدفاع عن النفس .
مضى إلى طاولتِه، وجلسَ، ثم انحنى برأسه على المسوّدة المطبوعة . لم يكد يُنهي قراءة الصفحة الأولى، حتى انهالتْ ضربةٌ رهيبةٌ على رأسِه .
تضمّنتْ شهادةُ " جاكسون " ما يأتي : "كنت وضعتُ معطفي المطريّ على قطعة أثاثٍ . أخذتُ فأس
الثلج وأغمضتُ عينَيَّ، وأهوَيتُ بالفأسِ على رأسِه، بكل قوّتي " .
لقد توقّعَ، بعد ضربته الجبّارة، أن يموتَ ضحيّتُه، بدون أن تصْدُرَ منه نأمةٌ .
كما توقّعَ أن يخرجَ، هو، من البيت، ويختفي، قبل أن يُكتشَفَ الأمرُ .
بدلاً من ذلك، أطلَقَ الضحيّةُ صرخةً مُدَوِّيةً . القاتلُ قال ( سأظل أسمعُ تلك الصرخةَ طيلةَ حياتي ) .
وثبَ تروتسكي، مهشَّمَ الجمجمةِ، ممزَّقَ الوجهِ، ورمى على القاتلِ كلَ ما بلغتْه يداه من كتبٍ ومَحابرَ وسواها، ثم رمى بنفسه على القاتل . حدثَ هذا كله في دقائقَ ثلاثٍ أو أربعٍ .ِ
الصرخةُ النفّاذةُ الرهيبةُ نبّهت الحرّاسَ وناتاليا، لكنهم أخذوا وقتاً قبل أن يتأكّدوا من مصدر الصرخةِ ويسرعوا نحو الموضع .
في تلك الدقائقِ دار صراعٌ عنيفٌ . آخرُ صراعٍ يخوضه تروتسكي . لقد خاض هذا الصراعَ كالنمِر . أمسكَ بالقاتلِ، وعضّ يدَه، وانتزعَ فأسَ الثلجِ من يده . لقد صُقِعَ القاتلُ، فلم يوجِّهْ ضربةً ثانيةً، ولم يستعمل مسدّساً أو خنجراً . تروتسكي الذي لم يعدْ قادراً على الوقوف منتصباً، ولم يشأْ أن يسقطَ عند قدَمَي عدوِّهِ، ترنَّحَ متراجعاً إلى الخلفِ . وعندما أسرعتْ ناتاليا ودخلت المكتب، رأتْه واقفاً في المدخلِ، بين غرفة الطعام والشرفةِ، مستنداً إلى إطار البابِ . كان الدمُ يغمرُ وجهَه، ومن خلَالِ الدمِ كانت عيناه الزرقاوان، وهما بلا نظّارتَينِ، تشِعّان أشدَّ من المعتادِ . كانت ذراعاه تتدلَّيانِ بارتخاء .
سألتُ : ما حدثَ ؟ ما حدثَ ؟
ثم ّ طوّقتُهُ بذراعَيَّ .
" ناتاشا . أُحِبُّكِ " . ردّدَ الكلماتِ على نحوٍ غيرِ متوقَّعٍ، نحوٍ خطيرٍ وقاسٍ، حتى لقد مِلْتُ عليه .
همستْ له : لا أحد، لا أحد، يُسْمَحُ له برؤيتِكَ، دون تفتيش .
ثم وضعتْ وسادةً تحت رأسه المهشَّم، وقطعةَ ثلجٍ على الجُرحِ، ومسحت الدمَ عن جبهته وخدَّيهِ ...
الممرِّضاتُ شرعْنَ يخلعْنَ ملابسَه، للعمليّةِ، وهن يقطعن بالمقصّاتِ السترة والقميصَ والصِّدارَ، وينزعن الساعةَ من رسغِهِ .
وحين بدأنَ ينزعنَ آخرَ ما يرتديه، قال لناتاليا بصوتٍ بصوتٍ مسموعٍ، لكنه بالغُ الأسى :
" لا أريدهنّ ينزعن ملابسي . أريدكِ أن تنزعي أنتِ ملابسي " .
كانت هذه الكلمات آخرَ ما سمعتْ ناتاليا منه .
بعد أن أكملتْ نزعَ ملابسِه، انحنتْ عليه، وضغطتْ بشفتَيها على شفتَيه .
" بادلَني القبلةَ . قبّلتُه ثانيةً . واستجابَ أيضاً . كان ذلك وداعَنا الأخير ... "
--------------
* ترجمتُ المادةَ من كتاب إسحق دويتشر " النبيّ المشرَّد : تروتسكي 1927-1940 "