عشب ويتمان يخضر في بساتين سعدي يوسف

2011-05-02

يعيد الشاعر العراقي المهاجر سعدي يوسف إحياء مجموعة من الكتب التي أصدرها سابقاً ولاسيما المترجمة وهي كتب تقدم نبضاً ثقافياً من عالم آخر تنقل إلينا الشعر بلغة مختلفة. وقد فعلت حسناً دار التكوين في دمشق حيث تبنت إعادة إصدار أهم هذه الكتب.

الكتاب الذي نتوقف عنده اليوم هو أوراق العشب للشاعر الأميركي والت ويتمان ومن المعروف أن ويتمان يشكل نقطة انعطاف في تاريخ الشعر الأميركي.‏

ويتمان بميزان سعدي‏

يقول سعدي يوسف في مقدمته التي قدم بها لهذا الديوان: تعرض والت ويتمان 1819-1892 إلى تشويهين كبيرين لا يزالان ذوي تأثير ونفوذ.‏

كان التشويه الأول يأخذ بأفكار ويتمان مركزاً عليها منطلقاً منها لمهاجمة الشاعر دون تأكيد ظاهر على جماليات «أوراق العشب» الأثر الشعري الوحيد لوالت ويتمان يتبدى التشويه المذكور في كتابات أميركية وأوروبية حاولت أن تضع الشاعر في منزلة النبي أو المتصوف حيناً وفي منزلة الشاذ حيناً مستفيدة على أي حال من شواهد في شعره ومشاهد من حياته.‏

أما التشويه الثاني فكان يحاول الاهتمام بجماليات «أوراق العشب» مستبعداً أفكار ويتمان ويتبدى هذا واضحاً في نظرة ت.س اليوت إلى شعر ويتمان فقد رأى أن من غير الخسارة أن نرى أفكار ويتمان تتساقط عن أشعاره بينما رأى جيمس ميللر أن في أفكار ويتمان التي ضمتها قصائده تأسيساً لعلم النفس الفرويدي مثلاً.‏

لكن هذين التشويهين لم يكونا سوى بعض مظاهر النفوذ الذي تمتع به ويتمان في الشعر الأميركي والأوروبي لقد اعترف اليوت بصدد ويتمان (في مقدمة لكتاب- إزراباوند قصائد مختارة) بأنه كان عليه أن يتغلب على كراهيته لشكل شعره كراهيته لمضمونه حتى يستطيع قراءته) ولكن رغم نفورهما من ويتمان نفوراً واضحاً فإن أحداً من باوند واليوت لم يفلت إفلاتاً تاماً من ظل الأوراق الظليل وقد بدا أن باوند يقر بهذا الإرث حين كتب في قصيدة قصيرة لامعة إنني أعقد معك حلفاً يا والت ويتمان فلقد كنت أنت الذي اقتحم الغاية الجديدة فلدينا، نحن الاثنين جذر واحد وعصارة واحدة ولا أحد يقرأ بعمق ديوان أوراق العشب يمكن أن يفوته الإحساس بالآثار التي نفذت من هذا الديوان إلى صفحات أغنيات باوند والرباعيات الأربع لإليوت.‏

عمل فريد‏

وفي تقديمه أيضاً المكرس لأوراق العشب يتوقف عند فرادة ديوان أوراق العشب ويشير إلى أن ويتمان قضى أربعين عاماً من حياته يعيد وينقح في هذا الديوان ومع أن نسخه الأولى لم تكن تتجاوز ال 800 لكنها كانت إيذاناً بمرحلة جديدة في الشعر الأميركي ويتساءل سعدي ما المفاجئ في أوراق العشب؟ ليرى أنه في الواقع ثمة أكثر من مفاجئ يقول: إن ويتمان وهو المعروف بصحبة سائقي العربات والبحارة والنجارين والجنود استطاع أن ينتقل من دار العتمة إلى دائرة الضوء مقدماً وجوههم وكلماتهم وأعرافهم وآلامهم ومباهجهم وكان حريصاً في تقديمه هذا على أن يمنحهم جميعاً بطاقة تعريف واحدة محترمة لانجد فيها غضاضة حين تجمع العاهر والقديس:‏

إلهي أنا مظهراً ومخبراً‏

اجعل كل ما أمسه مقدساً‏

وكل ما يمسني مقدساً‏

هكذا نلتقي مع أناس ويتمان: القارئ والغريب والعاشقة والتلميذ والصياد والجندي والعبد الآبق والرياضي والعاهرة وسائق العربة والمزارع وقاطع الأخشاب والساحرة هؤلاء الناس ليسوا في قصائد «أوراق العشب» جزءاً من مشهد أو طرفاً إن لهم المشهد كله يتحركون فيه طلقاء.‏

إن صيادي السمك في قصيدة «المشعل» يضيئون وحدهم القصيدة:‏

في ساحلي الشمال الغربي‏

وفي موهن الليل‏

صيادون يراقبون‏

وفي البحيرة المتسعة أمامهم‏

يطعن آخرون سمك السلمون‏

وفاء ويتمان لأناسه يبدأ من حرية الحركة وينتهي بالتقاط الحوار مع كل المسافة المتضمنة بين الابتداء والانتهاء هذا الوفاء «التقنوي» للناس الذي يبرز في التفصيل الفني سوف يجد له تعبيراً آخر تعبيراً متمماً في الأفكار والآراء التي يقدمها الشاعر والتي يعمم فيها نتائج ملحوظاته ومشاهداته كما يجد التعبير في الموقف الذي يتخذه الشاعر داخل حركة القصيدة نفسها في مسألة معينة محققاً نموذجاً جيداً في بلورة المضمون الفني للأثر الشعري في القسم العاشر من «أغنية نفسي» يرسم الشاعر صورة عبد التجأ إليه لكنه في البيتين الأخيرين يقول:‏

لقد أجلسته إلى جانبي على المائدة‏

وبندقيتي مسندة إلى الزاوية‏

هذا الموقف الصريح إزاء الرق الذي وصل إلى حمل السلاح هيأ له ويتمان السبيل الفني.‏

وقصيدته «إلى عاهرة عادية» نموذج آخر في بلورة المضمون الفني:‏

كوني هادئة رابطة الجأش‏

فأنا والت ويتمان‏

حر ومتشه كالطبيعة‏

لن أهجرك حتى تهجرك الشمس‏

في هذه القصيدة لا يبحث ويتمان عن نسخة جديدة من المسيح بل إنه ليعلن شهوانيته ورغبته في أن تتبسط معه هذه المرأة لقد ألحقها بالطبيعة بأبناء الطبيعة.‏

ويتمان والشمس والمياه والأوراق ليس الغفران ما تطلبه المرأة في الواقع إنها لا تطلب شيئاً.‏

والشاعر قام بمهمة غاية في الدقة حين صرف انتباهنا عن ارتجاعات المسألة ووضعنا ببساطة أمام حقيقة بسيطة ومذهلة في آن هي أننا جميعاً أبناء الطبيعة.‏

كان والت ويتمان شاعراً أرضياً بل لا تملك قصيدته أحياناً غير أسماء الأماكن والمدن وظواهر الطبيعة وحتى اهتمامه بالأجرام السماوية ليس غير تأكيد لقوانينه الأرضية إن ورقة العشب ليست أقل حركة من النجوم.‏

هذا النزوع الأرضي لدى ويتمان قد يستخدم الشعر بوقاً للمقولة:‏

إني أتقبل الواقع ولا أجرؤ على مساءلته‏

المادية أولاً..‏

والفكرة أخيراً‏

بطاقة تعريف: - الكتاب: أوراق العشب - المؤلف: والت ويتمان - ترجمة: سعدي يوسف - الناشر: دار التكوين- دمشق.‏

 

 

الشيوعي الأخير يدخلنا جنة مقالاته


عندما يكتب سعدي يوسف شيئا غير الشعر, يصبح كمن يخرج من ماء النهر ؛ ليجالس الضفة ويراقب ,كيف أنه لا يستحم بماء النهر مرتين؟!.

" مقالات غير عابرة " عنوان كتابه الصادر عن دار التكوين/ دمشق , يفتتحه كعادته بأن يُخرج التفصيل/ اليومي للرؤيا , فيمد الكلمة / الخطوة نحو أفاق مضمرة في السائد والمعتاد , فيخصبها بالآتي , فيحفز السؤال ويعطيه جناحي فينيق .

وبداية بالعنوان الذي يحيل أو لايحيل ؟! إلى محمود درويش - بقصيدته :أيها المارون بين الكلمات العابرة - التي أرادها صرخة تقفع غشاء الصمم في أذن العدو وكان لها ذلك ,لتصير الكلمة مرادفة لفعل التحرر وهنا سعدي يعكس العابر؛ ليستقر لكونه يخاطب سمع شعبه العربي الذي استبد به الصمم ليحرره أيضا من عداوة نفسه , فتأتي المقالات الأولى تختص بحمود درويش يعبر بها جسر الصداقة بينهما ويكشف خفايا وضعت بعض علامات الاستفهام حول درويش , ففي "قمر بغداد الليموني " يميط سعدي اللثام عن حيثيات قبول محمود جائزة "المربد" وكيف أن محمود التجأ لقرية قصية في النرويج لكي لا يحرج أحدا إلى أن جاءه اتصال يحثه على قبوله كونه .... ؟! وأن محمود طلب رأي سعدي العراقي الأصيل , فجاء الجواب " ليس بمقدوري , ولا من حقي أن أقول لك لا تذهب . لكن سأظل أتذكر , بكل اعتزاز أنك استشرتني مبديا استعدادك للأخذ بما أرى " ويتابع في " أيها الثاوي برام الله " :هل سيقرأ العرب موجات الصنج الهائلة ؟ هل ستحملون صوتك الأدق رنينا الآن؟.

سعدي لا يكتب سيرة بل يقف موقف المتأمل في سرير نهره / الحياة / الشعر , فالشعر خبزه اليومي وهو المعجزة التي تستخدم اللغة العادية التي يقولها الصغار والكتّاب ومعجزته تتأتى من إن الشعر يعود باللغة إلى بداءتها, آن اللغة مرهفة كالوتر الحساس والشعر يقدم الخطوة الأولى في السلم الذي يحمل البشر للسماء . بيروت التي تنام على قلق وتستفيق على حدود في أوائل السبعينات وأمجد ناصر الذي زاره في منفاه حين كان يقيس نسبة ترسب الطين في أنهار العراق " ومديح لمقهى آخر" حيث يضبط سعدي ساعة الرؤية الشعرية لأمجد ناصر لتصل لساعة " الحياة كسرد متقطع " ليقول عن الشعر وعن ناصر " الفن تعلم دائم , مثل ما هو سفر دائم . وظل أمجد ناصر يتعلم . توقفه عند ناصر كان مكتملا بالنقد الذي يلاقي الشعر بالأحضان ليقول : أليس هذا هو الفن المتمكن .

" الشعر مغيِر في اللحظة الحميمة التي , تجمع بين الراهن والأبدي في عناق عجيب" ومقالة سعدي تلامس بأسلوب البندول ما قاله وكأنها تحبير ظل ما كتب . أهدى أدونيس قصيدة , فقامت دنيا العرب , هل حقا ثارت لما رأت أنه تعريض بأدونيس أم ...؟! لكنه يقول : أدونيس محرّرِ في الشعر والفكر.

عراقه المبتلى بداء المثقف التابع الذي جاء على ظهر دبابات الاحتلال يرصده سعدي بدقة قناص ويصيب كبد كذبه وافترائه في مقالته " محاولات في موضعة المثقف التابع" ورغم العدد الهائل لقراء هذه المقالة لم يأته رد واحد, ألهذه المرحلة وصل الأمر؟! " المثقف التابع بدأ مراوغا ... يتفادى الضربة . أما الآن فقد أمسى القوة الضاربة , المستخدمة من جانب الاحتلال ووكلائه المحليين.

" أجوبة إلى بيت الشعر في المغرب" بطريقة خوزيه سارماجو يدمج السؤال بالجواب كنص واحد فلا فرق . يتقول عليه , فيقول : انتهيت إلى الأمر الصعب : لا وطن لا منفى . ليس من طقوس : إنه الضنى اليومي . حاجتي إلى فوضى الانجراف مثل حاجتي إلى دقة الانتظام ...... , التنقيط عندي هو وقفة , للتمهل في استيعاب ما سبق وللتمهيد إلى ما سيأتي . ثم أنني لم أعد أشعر أنني شاعر. أنا الآن مدون حياة هي حياتي وحياة الناس . أنا لست شاعرا!. - امرؤ القيس ؟ : حامل لوائنا إلى الجنة . ممدوح عدوان ؟ : أحببت ما خفت من صوته . سركون بولص : هو الشاعر .

الكتاب يضم العديد من المقالات والترجمات ك "الملك كلوديوس" ل كافافي وعن نعومي كامبل وقراصنة الصومال وغيرها مما تعرضنا له أو لم نتعرض , كتاب يدخل في صميم التجربة الشعرية المعاشة لسعدي يوسف , كتاب يستهدي بنجمة شماله ويصنع بوصلة تحمي قارئه من عماء كثرة الجهات .

مقالات غير عابرة ل سعدي يوسف عن دار التكوين 2010

الثورة

باسم سليمان

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved