شجرة المغفرة

2012-09-25

 يرى الآخرون

شجرة المغفرة لسالمة صالح

القص تكونه لحظات إنسانية عابرة وشخصيات هامشية

جنان جاسم حلاوي

 

تمتلك سالمة صالح أسلوبا أموميا في الكتابة، بكل ما في الأمومة من رقة ودقة واهتمام وحرص وحب وشغف، أسلوبا هادئا متينا يتبدى في لغتها الطيعة المعتنى بها، والموجزة أيضا، حيث لا إطناب أو استرسال، بل تركيز على الحديث والشخصية، حتى التداخل. فالحوادث تتلخص في لحظات إنسانية عابرة في حياتنا اليومية، والشخصيات البسيطة والهامشية تصبح مراكز قصصية للحوادث من فرط قوة حساسيتها وجمال حركتها وأهمية علاقاتها بما يحوطها وقابليتها على تحديد تلك العلاقات بما يمنح الحدث أهمية قصوى.

ثمة شيء خفي بين الشخوص يتجلى في الوشائج التي لا تتعقد بل على العكس تتبسط في دراما صغيرة، نكتشف في حبكة قماشتها ذاك الأسى الإنساني والحزن العميق، والفراق والحب والخوف والشوق والرهبة والقلق، بلا ضجيج كثير حتى. فالحياة وإن جرت بتلك البساطة فإن عمقها يتمثل في التكوين الوجودي للعلاقات بين البشر في ما تتركه من تأثير ملموس على النفوس والأرواح.

من هم اولئك الناس، وما هي تلك العلاقات، وما مضمون السرد القصصي؟

في القصص الست الأولى (أي ثلث المجموعة تقريبا، والمتكونة من سبع عشرة قصة) أطفال فقراء يعيشون هواجس علاقاتهم مع الكبار، بما تحتمل تلك الهواجس من اكتشافات، قلق، غموض وارتباك. وهم في الحالات كلها منساقون للبالغين من أمهاتهم وآبائهم. تصور القاصة في مسارات السرد معنى العالم بالنسبة لأولئك الأطفال، وعدم درايتهم كونهم في مواقف كثيرة ضحايا سوء الفهم والالتباس والخرافات.

قصة "ذات مساء" تحكي لحظات خوف الأم من أشباح في المقبرة، وابنها أحمد الذي التقط خوفها فصار جزءا من تصاوير طفولته، تصوغ القاصة حدثها بوصف الأمكنة في براعة حيث تبدو معها جزءا من الحدث أيضا بما تخلف من وقع على نفسية الطفل وتصوراته. ها هو يسير هنا مع أمه مساء في طريق مهجور يمر عبر مقبرة فتروح الأم تقص عليه حكاية رؤيتها ظهور الأشباح وتلاوتها سورة الفلق كي يطمئن قلبها، الأمر الذي يأخذ بلبه فيسأل خائفا عن تلك العوالم الخفية، المهجورة والمظلمة. وللتعبير عن قوة هيمنة الأمكنة في السياق القصصي، عبر تصوير تأثيرها، يقول الصبي(ص8) " توقفتُ لحظة حتى بلغتني، أمسكت يدي. كانت يدها دافئة. وتوافقت خطواتنا، فاختلط وقع أقدامنا، ولم يعد زقيق حذائي يسمع بوضوح. سرنا في الطريق الصاعد إلى شارع ابن الأثير، كان أول مصابيح الشارع يلقي ضوءا خافتا على العشب، وخزان الماء يرسم ظلا ثقيلا على الأرض، وكانت قطرات الماء تتتابع منه. كان يمكن سماعها وهي ترتطم بالأرض. رأيت بريقا ضئيلا عرفت أنه الماء المنساب على الأرض، فقد رأيته مرارا في النهار. حين كنا قد خلفنا خزان الماء وراءنا سمعت حوافر خيل تضرب إسفلت الشارع، ثم رأيت أضواء عربة تقطع شارع ابن الأثير وسمعت صاحبها يحث الخيول وهو يستدير شمالا ويختفي وراء الأبنية. إلتفت ورائي فلم أر سوى الظلمة."

أما قصة "الظافر" فعن طفل يريد طحن قمحه في مطحنة، وقتها يدور حوار ملتبس بينه وبين الطحان الذي يسأله عن اسم أبيه وعمله فيظن أن اسمه الظاهر وليس الظافر رغم تأكيد الصبي على الإسم الصحيح، الظافر؟ ولما سأله الطحان عن عمل أبيه، ردد ما أوصته به أمه على أنه: كاسب. والحقيقة أنها كانت خجلة حقا بعمل زوجها وبما يتضمن معنى كاسب من فقر وعوز وبطالة بين فترة وأخرى. لكنها تؤكد لابنها أن أصل أبيه كريم، بالطبع لم يفهم الصبي كل ذلك التعقيد الاجتماعي، ولكنه يندهش لأن الطحان لم يعرف أباه، ذلك أنه يظن أن أباه مركز العالم، وهو تأكيد من القاصة على العفوية والبراءة والبساطة التي تتحلى بها نفوس الأطفال قبل أن يعقدها الكبار في مجتمعات مبتلاة بالفاقة والعقد الاجتماعية.

قصة "شجرة المغفرة" يرويها الأب لابنه كي يتعظ منها، وتتجلى في حكاية قاتل تائب يريد أن يعرف أن الله غفر له ذنوبه، فيلجأ إلى حكيم يستشيره، فيقول له الحكيم "إذهب واغرس عصاك في الأرض فإذا أورقت يوما فاعرف أن الله قد غفر لك". يذهب فيغرس عصاه في المقبرة، ولكنها لا تورق، ينتظر ليلا، ولا شيء، بيد أنه في لحظة رحيله ويأسه يشاهد رجلا يأتي إلى قبر جديد، يخرج الجثة منها ويخاطبها "امتنعت علي في حياتك، أما الآن فإنك لن تستطيعي المقاومة". حينها ينتفض الرجل هاجما على نابش القبر ويقتله، وإذ يقترب من عصاه يجدها قد أورقت فيعرف أن الله قد غفر له ذنوبه.

فيما يصلح الأب ساعة الحائط ساردا القصة للصبي تكون الأم منزعجة من الأمر برمته بل من القصة ذاتها لأنها تتضمن حوادث لا يليق بطفل أن يعرفها. فهي من شأن الكبار وذلك من حقها حفاظا على عدم تعقيد أفكار ابنها بأمور لم يحن الأوان لمعرفتها كالمغفرة والقتل واغتصاب الموتى. يعثر الكبار دوما على مبررات وتفاسير لأخطاء تحدث أو يقترفونها فيروونها لصغارهم كونها أمورا خارجة عن إرادتهم وهي كذلك حقا، كالفقر، أو يدفعون إليها دفعا كالسرقة في قصة "حراس القمح" حين تقوم الأم الفقيرة بسرقة القمح ليلا من أكداس يعمل زوجها أصلا حارسا عليها. وتبدأ الرحلة بمسيرة الأم وطفلها إلى مكان الأكداس وفي تلوين شائق لمحيط الرحلة يدور حوار ذكي بين الطفل وأمه التي تبرر له السرقة بكونهم فقراء وبأن صديق أبيه جورج يفعل ذلك أيضا، وبأن القمح كثير وأخذ شيء بسيط منه لن يجعل الأغنياء أقل غنى. هذه القصة تشبه من حيث البنية السردية قصة "ذات مساء" إذ يلعب وصف الأماكن تأثيرا مذهلا على الحكاية، بما يترك من ايحاءات خاصة على جو الحدث، ومن لغة نقية، حتى لأعد هذه القطعة من أجمل النصوص العراقية المعاصرة.

قصتا "النشيد" و "العائد" تنويعان آخران على تلك العلاقة المميزة بين الولد وأمه، بما يشوبها من مفارقات، فالأم متأثرة بما يحوطها من مشكلات اجتماعية تطرأ كل حين، والطفل يكتشف تلك المشكلات من دون أن يفهم معناها ومغزاها، بسبب بساطة عالمه ونقائه، مما يخلف في عقله آثار الدهشة والغموض، والصدمة أحيانا.

تنقلنا القاصة في قصصها الأخرى مثل "قصة حب شرقي" و "الستائر المسدلة أو الصدع" و "العدو" و "الحاجز" إلى عولم الشرق، والعراق تحديدا حيث الكبت الجنسي في "قصة حب شرقي" في حكاية رجل يطارد البطلة في صمت من مكان إلى آخر، ثم يروح يراقب عملها، وهو شبه غائب ولها وتيها وغراما، ثم يختفي فجأة وإلى الأبد، مما يترك فراغا وأسى في نفس البطلة. وهذه القصة عادية في مسارها، ومألوفة غالبا في أعمال القاصين العراقيين والعرب، إلا أن ما أنقذها من التسطح والسذاجة هو لغتها المشدودة بنفس بوليسي يجعل القارئ يتابعها إلى النهاية.

في بلاد محكومة بالقمع السلطوي يسود الرعب والقلق والريبة والتستر وتتحول الحياة إلى عذاب دائم، فالوقت مكيدة والمكان سجن، وفي ظروف كهذه تتجلى الدفائن البشرية وتتبدل عاداتها في أجواء عدم الاستقرار والخوف من مستقبل غامض، ولعل العراق نموذج معروف تتجلى أجواؤه في خبريات قصة "الستائر المسدلة أو الصدع"، إذ ما يختبئ بين سطورها وفي زوايا بيته رجل مطلوب للسلطة ولأسباب سياسية كما يبدو، وهو يعيش مع زوجته وأمه العجوز هاجس اقتحام بيته من قبل الشرطة السرية، إلا أن القصة تركز على العلاقة الغريبة القائمة على سوء الفهم والتشنج والنفور بين الرجل وزوجته، فيكبر الصدع وراء خفاء الستائر المسدلة، حيث تبدأ الزوجة تتأخر عن البيت إبان جولاتها الخارجية لإنجاز بعض الأمور البيتية، مما يعطي انطباعا بوجود علاقة عشقية بينها وبين أحدهم، تتأكد حين تقرر أخيرا ترك البيت وزوجها. تتجلى مهارة القاصة في وصف أجواء الخوف السائدة في العراق بسبب القمع الشامل وما يترك من آثار مؤذية على العلاقات الإنسانية. إذ ما يصبح العالم الخارجي للإنسان عدوا دائما، وموتا محتملا في كل لحظة، وهو ما أوحت به في قصتها القوية الأخرى "العدو" والتي تتناول جنديا عراقيا يقضي خدمته في كردستان العراق، في أجواء حرب أهلية حقا، وفي ظرف يكون فيها المحيط عدوا والحذر سائدا. غير أن لامبالاة الجندي أدت في النهاية إلى ذبحه في كمين دغلي. القصة تدين الحرب برمتها والعسكرتارية والقتل في العراق، من غير أن تقول ذلك صراحة ولكنها تدل عليه، وتومئ إليه في بشدة.

والمعنى ذاته في تصوير التشوه في العلاقات الإنسانية في أجواء الرعب التي أرستها الأنظمة القمعية العراقية في قصة "الحاجز" القائمة على حكاية رجل يطلق سراحه بعد فترة وجيزة من اعتقاله فتدور الشكوك حول تعامله مع رجال الشرطة وتعاونه معهم بعد تعرضه للتعذيب.

أما قصة التركة فلا لون لها ولا رائحة، عن رجل يموت فجأة تاركا أشياءه الخاصة بينها طقم أسنانه، أرادت الكاتبة أن تتحدث عن تلك الوشائج البسيطة بين البشر ففبركت طقم الأسنان الذي لفت انتباه بطلة القصة وتحديدا تلك البقعة السوداء فيه.

تترك سالمة صالح العراق وتنتقل إلى الغربة في قصصها الأخيرة "زهرة الموتى وعلاقة ومغنية الشانصون" فتحكي عن جوانب من العلاقة الأوربية المبنية على البرود والتكلف وخلو العاطفة والسماجة وسوء الفهم وكأني بها توجه انتقادا أدبيا إلى صميم الصلات البشرية السائدة في المجتمعات الرأسمالية ونموذجها ألمانيا، وهي في رأيي محقة في ذلك. \وبقدر ما تلوح قصة "رحلة السندباد الثامنة" طريفة، حيث المنفى والإقامة يلغيان السمات الشخصية والمميزات الخاصة بالمنفيين، تكون قصة "الكاتب" رديئة ومكررة غالبا بموضوع تم تناوله كثيرا عن حكاية كاتب يريد كتابة شيء جديد عبر تسجيل أفكاره في جهاز صغير يمكن حمله في الجيب ولكنه في النهاية لا يسجل سوى أشياء سخيفة. كان أجدر بالمؤلفة أن تبعد هذه القصة عن بستانها القصصي الرائع المورد بأجمل القصص العراقية التي قرأتها في السنوات الأخيرة.

 

النهار 25 آب 2000

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved