بات من الصعوبة بمكان تحديد معالم واضحة لهوية الموسيقى العربية اليوم. بإمكاننا القول إنّ التأثيرات الغربية التي أدخلت هيكل الموسيقى الشرقية في النصف الثاني من القرن العشرين، باتت الحامل الرئيسي للأغنية العربية في الوقت الحالي، لتتحول الموسيقى العربية في الأغنية الحديثة، بتأثير حركة العولمة والتقدم التكنولوجي، إلى فن هجين، يفتقد للأصالة؛ حتى بات من الممكن أن نقول إن الكلمات العربية المستخدمة في الأغنية، على اختلاف لهجاتها، هي العامل الوحيد الذي يحدّد هويتها كأغنية عربية الأغنية العربية اليوم.
"اغتراب الموسيقى العربية وضياع هويتها". عبارة، رغم أنّها فضفاضة، وقد يجدها البعض متعصّبة، إلا أنها أمست محلّ نقاشات كثيرة، دائمة الحضور في الساحة الموسيقية العربية، وفي المهرجانات الموسيقية والندوات التثقيفية، إذ يحاول الموسيقيون والنقاد تفسير حال الموسيقى في الأغنية العربية السائدة، ويعزون المشكلة إلى التطور التقني المتسارع، الذي أدى إلى "تخلي العرب عن تراثهم الموسيقي".
وبحسب ما ذكر يوسف طنوس في مهرجان القاهرة 2012، فإن المشكلة الرئيسية التي تسببت بفقدان الموسيقى العربية لهويتها ناجمة عن أن التطوير الموسيقي العربي، الذي لا بد منه، لم يقترن بالوعي الكافي بهوية الموسيقى العربية، ولم ينهل من تراثها.
هنا، لا بد من الإشارة إلى أن تاريخ الموسيقى العربية الحديث، ولا سيما المصرية منها، هو تاريخ صراع ما بين موسيقيين تشبثوا بالهوية الموسيقية العربية الأصيلة، وآخرين حملوا لواء التجديد بمرجعيات غربية؛ ويمكن أن نلخص هذا الصراع بحكايتين، وهما: الخلاف الذي دار بين عبد الوهاب الذي تصدّر تيار التجديد في خمسينيات القرن الماضي، وعمد إلى إدخال الآلات الموسيقية الغربية إلى التخت الشرقي بمفهومه الموسع، وأم كلثوم التي تصدت لهذا التيار لأعوام، قبل أن نراها تنصاع وراء لواء التجديد في النهاية، وتتعاون مع عبد الوهاب في عدة أعمال غنائية استخدم فيها آلات موسيقية غربية حديثة، كالغيتار الكهربائي، الذي استخدمه لأول مرة في أغنية "إنت عمري" (1964).
القصة الثانية تعود إلى ثمانينيات القرن العشرين، حين هاجم الملحن المصري حلمي بكر التيار الجديد الداعي للتجديد، الذي تصدره حميد الشاعري، إذ جاء بتقنيات حديثة حينها وأدخلها الموسيقى العربية، وتمثلت هذه التقنيات بالإيقاعات الإلكترونية، وبأنماط موسيقية غربية مثل الروك؛ فأطلق بكر على هذه الأغاني الجديدة تسمية الأغنية الشبابية، وعاد ليعدل التسمية ويصفها بـ"الأغنية الهبابية".
وعندما باتت الأغنية الشبابية تتصدر المشهد الموسيقي العربي في بداية تسعينيات القرن الماضي، استخدم بكر سلطته، ليصدر قراراً باسم نقابة الفنانين سنة 1992، ليوقف حميد الشاعري عن مزاولة عمله الفني. وانتهت الحكاية بتعاون بكر والشاعري في أوبريت "الحلم العربي" سنة 1998.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن بكر ينتمي لزمرة عبد الوهاب، بمعنى أنه لم يكن يدافع عن مفهوم أصالة الموسيقى الشرقية الصرفة، بل كان يدافع عن الموسيقى العربية التي عاصرها بما تحتويه من عناصر غربية، التي يحلو للبعض تسميتها بـ"موسيقى الزمن الجميل"، لتعكس هذه الحالة التحولات الزمنية لمفهوم الأصالة.
وبالتأكيد، لم يتوقف الصراع ما بين الأصالة والحداثة حتى اليوم؛ الأصالة التي تتغير معالمها بحكم الموسيقيين المتمردين الميالين للتجديد، والحداثة المرتبطة بالاختراعات الغربية والمتأثرة بشكل أو بآخر بأشكال موسيقية من العالم. ولكن طبيعة هذا الصراع وأقطابه تختلف من حين إلى آخر؛ وآخر ما تجلى منه هو ما يقوم به نقيب الفنانين المصريين هاني شاكر، من ممارسات وقوانين يستصدرها للحد من انتشار موسيقى المهرجانات، التي باتت تتمتع بشعبية كبيرة في الأعوام الأخيرة، وقد أوضح حمو بيكا (أحد أبرز أسماء مغنّي المهرجانات)، أن شاكر فرض عليهم مبلغاً خيالياً كضريبة (يصل إلى 25 ألف دولار)، ليتمكنوا من مزاولة عملهم الفني في مصر، ليحاول من خلال هذا القرار أن يضع حدوداً تطوق موسيقى المهرجانات وتحد من انتشارها.
فعلى الرغم من أن الشارع العربي قد تشرّب الموسيقى العربية بصيغتها السائدة، بما تحتويه من تأثيرات غربية وثقافية متعددة، إلا أن المؤسسات الثقافية العربية المعنية بالموسيقى، الرسمية منها والبديلة، لا تزال متشبثة بأشكال موسيقية أكثر أصالة، لم تتمكن من مقاومة عامل الزمن والصمود في وجه موجات التجديد جماهيرياً، ولكنها تتمتع بشرعية وتسيطر بأفكارها على العقلية الجماهيرية العربية؛ وذلك أدى إلى خلق هوة كبيرة يصعب ترميمها، ما بين الأغنية العربية الدارجة والأغنية العربية الأصيلة، وتم ترسيخ هذه الفجوة من خلال برامج تلفزيون الواقع المعنية بالمواهب الغنائية الشابة، والتي تنحاز في كل مرة إلى كل ما هو قديم وطربي على حساب الجديد.
أدى هذا إلى انبثاق أفكار مغلوطة عن مفهوم الأصالة في الموسيقى العربية؛ إذ اقترن مفهوم الأصالة بالتكرار والعودة إلى الماضي المتفق عليه، بدلاً من فهم ماهية وعناصر الأغنية العربية الأصيلة لخلق مسار أصيل متجدد.
فعلياً، لا تزال الأغنية الشرقية ذات طابع الطرب تحظى بمكانة ثقافية عالية في الثقافة العربية الشعبية، لكن حضورها في الأعوام الأخيرة اقتصر على الأداء المباشر الذي بثته المحطات التلفزيونية لها بأصوات المواهب الشابة الصاعدة، أو على نُسخ أُعيد إنتاجها بأصوات الفرق والمغنيين الشباب، الذين أعادوا توزيع هذه الأغاني بطرق حداثوية في معظم الأحيان، تشكل الموسيقى الغربية جزءاً رئيسياً فيها، كما نرى في أغنية "آمان" لمريام فارس، التي وزعها عادل فرحان بالاستفادة من موسيقى التكنو.
ولكن في بعض الأحيان، اقتصر دور المغني على إعادة أداء الأغنية وتسجيلها، كما هو الحال في أغنية "مستنياك" التي قامت نانسي عجرم بتأديتها مع المحافظة على التوزيع الأصلي لأغنية عزيزة جلال. ولكن هذه النسخ الحديثة للأغاني القديمة، على اختلاف توجهاتها، تضعنا أمام التساؤل: هل يساهم التكرار بالمحافظة على أصالة الأغنية العربية؟
إذا ما عدنا إلى بدايات القرن العشرين، لدراسة الطريقة التي تشكلت بها هوية الأغنية العربية الحديثة، بالأشكال التي نألفها، فإننا نلاحظ أن ثقل التراث العربي الإسلامي وهاجس المحافظة عليه كان حاضراً منذ ذلك الحين؛ وخير مثال على ذلك هو القدود الحلبية، التي تعتبر منظومات غنائية أنشئت على إيقاعات وألحان معظمها دينية، فبُنيت على مقاس الأغاني الشائعة، لتستفيد من شيوعها في تحقيق انتشار شعبي؛ بمعنى أن طريقة إنتاجها كانت تنحصر بإيجاد كلمات تلائم الألحان السائدة في الثقافة الشعبية. وهذا النمط يثبت أن هاجس الأصالة والارتكاز إلى التراث الشعبي الشرقي كان ملازماً للأغنية العربية الحديثة، وكان التكرار دوماً أسلوباً يتبعه الموسيقيون العرب، ويعتبرونه معياراً للأصالة.
استمر أبناء حلب بالاعتماد على النهج نفسه في صناعة الموسيقى حتى نهاية القرن الماضي؛ وهناك أمثلة كثيرة توضح استمرارية هذا النهج بصناعة الموسيقى، مثل أغنية "يا حبيّب ما أنساك" لشادي جميل، التي أنشأها كمعارضة غنائية على قد الأغنية الدينية "على طيبة يلا نروح". إلا أن استمرار هذا النهج، باستخدام القدود وتكرار الألحان، لم يقف عائقاً أمام تطور الأغنية العربية بموسيقاها الأصيلة، بل كان داعماً لها؛ فقام مطربو القدود الحلبية بتأليف العديد من الأغاني والألحان الجديدة التي تمتاز بالأصالة والفرادة، مثل أغنية "خمرة الحب" لصباح فخري، التي قام صباح فخري بتلحينها بنفسه، ليبين ذلك أن مسألة التكرار لم تقف عائقاً أمام تطور الموسيقى العربية الأصيلة في ما مضى.
وقبل أن نمضي بالحديث عن الأغنية العربية في القرن الواحد والعشرين، نشير إلى أن المحاولات المستمرة التي قامت بها عدة أجيال متتالية من الموسيقيين العرب لتجديد الموسيقى العربية من خلال التأثر بالتيارات الموسيقية الغربية، أمر لا ينقص من قيمة الموسيقى التي قاموا بإنتاجها، وكان لهذا التوجه العديد من الأسباب، التي يترأسها الهيمنة الغربية على صناعة الآلات الموسيقية وتصدير أدواتها للعالم برمته، وميل الموسيقيين العرب إلى تطويع الأدوات الموسيقية الجديدة في صناعة موسيقى جديدة، تمكنت تدريجياً من التغلغل إلى الذائقة الجماهيرية العامة. يمكن أن نقول إن الإقحام التدريجي لهذه الآلات الجديدة والغريبة عن الثقافة العربية في نسيج الأغنية العربية، هو أبرز ما ساهم بتشكيل هوية الموسيقى العربية في العقود الماضية.
خلال رحلة الأغنية العربية، من صورتها الشرقية البحتة إلى شكلها الحالي وقوامها الغربي، مرت الأغنية العربية بالعديد من المراحل، وانبثقت عنها العديد من الأشكال الوسطية، التي كانت لها خصوصيتها، فتجد أغاني ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته لها رونق خاص، بسبب حضور التأثيرات الغربية الحداثوية بطريقة محدودة، لا تتعدى على الطابع الشرقي الأصيل فيها. ولا يزال بعض أعلام هذه المرحلة الانتقالية حتى اليوم مستمرين بنتاجهم الفني، وحافظ البعض منهم على تلك الخصوصية بنسب متفاوتة؛ فمثلاً نجد أن جورج وسوف لا زال يحافظ على أسلوبه الخاص، ويغني بطريقته على أنغام شرقية مهجنة بالآلات الغربية.
وفي المقابل، نجد العديد من المطربين قد أسدلوا الستار على الماضي، وتأقلموا مع كل المستجدات التي طرأت على الموسيقى الحديثة، وتمكنوا من التربع على عرشها، كما هو الحال مع سميرة سعيد، التي مرت خلال مسيرتها الفنية بالعديد من المحطات، لتنتقل ما بين الأغنية الطربية والشبابية، وتصل لأغنية البوب العربية بشكلها الحالي.
ومن الجدير بالذكر أن فرق الموسيقى العربية البديلة كانت لها علاقة خاصة مع ثنائية التجديد والتأصيل في الموسيقى العربية، ولعبت دوراً هاماً بتطوير الموسيقى العربية في القرن الواحد والعشرين.
تمردت هذه الفرق على الموسيقى السائدة والمنتشرة بأسلوبين مختلفين؛ فالبعض منها فضّل أن يخلق أشكالاً موسيقية خاصة وجديدة على العالم العربي، بالاستفادة من الموسيقى الغربية، كما هو الحال مع فرقة "الصابون يقتل" اللبنانية، التي كانت أول فرقة عربية تتبنى نمط "الإلكتريك بوب". وبالمقابل، فإن هناك فرقاً أخرى بحثت عن خصوصيتها من خلال العودة إلى الأصالة، وكان لهؤلاء أسلوبان مختلفان، فالبعض اجتهد لإيجاد صيغ متوازنة تجمع الموسيقى الشرقية والغربية بتكافؤ يدعم الأصالة، إذ زاوجت الفنانة المصرية دينا الوديدي بين الروك والصوفية واللطميات، في حين أن البعض الآخر عادوا إلى تأليف وإنتاج أغان عربية على أنغام التخت الشرقي، كما الحال مع فرقة "تراب"، التي قادها الفنان الفلسطيني باسل زايد.