الروائية جنى فواز الحسن في (الطابق 99)
1-2
خيوط السرد..
لو كانت الخادمة لوريس هي السارد العليم ضمن فضاء بيت العائلة المسيحية المنضوية تحت راية حزب الكتائب .. ( عائلة مسيحية أورثودوكسية من منطقة المتن في لبنان، هذا الوطن الكبير الذي شعرنا أنه يوما ما، كان يجب ان يكون لنا وحدنا ورحنا نتقاتل عليه../ 218 ) ربما سنعرف الكثير مما يجري في هذا البيت، لأن لوريس ذات نظرة غير مبأرة ترى الاشياء بحيادية، لوريس داخل البيت نفسه لكنها خارج العائلة التي في البيت، هي محض خادمة العلاقة بينها وبين كل مَن في البيت ذات تراتبية طبقية : خادم / مخدوم .. فقيرة / اغنياء . خادمة مسالمة / مقاتلون اشداء ..( في الحرب كانت لوريس تنظّف أرضية المنزل بعد ان يأتي اليه الجرحى..لم تكن تسعف المقاتلين لأن هشاشتها كانت تجعلها تنهار ../245)..وهذا يعني لوريس لاترغم نفسها، وشعوريا هي المختلف ضمن نسق المؤتلف وحسب هيلدا.. ( وحدها لوريس بينهم كانت تنظر لي بعطف، كأنّها تفهم تماما مايدور في خلدي . هناك أمر مختلف، حين يتعلق بأشخاص يعيشون معك منذ الطفولة، لكن ليسوا أهلك أوأقرباءك، يشعرون بك بشكل مختلف، كأنهم لايتوقعون منك شيئا . لست جزءاً منهم أو أمتداداً لهم لذا، يحاولون رؤيتك كما انت، لاحسب مايريدون هم.. / 230 ) كما انها ... ( شهدت كل الاحداث الكبيرة في عائلتنا، كما عرفت التفاصيل الصغيرة وحفظتها../ 245 ) . لكن لوريس الطفلة اليتيمة التي احضرها ابوها ليتخلص من أعباء تربيتها، مثلما تعلمت كافة شؤون المنزل وتعايشت مع العائلة ونظام البيت، تعلمت حسب هيلدا.. ( قواعد جدتي الذهبية ،، مايحدث بين الجدران لايخرج منها،، ) .. ويمكن تصنيف لوريس ضمن صنف : المرأة المخصية.. فهي لاترغب بالحرية التي تريد ان تهبها سيدة القصر، لاترغب في الاستقلال أو الزواج او بحياة خارج القصر، كأنها راهبة تسكن ديرا، ولها مغادرة واحدة .. ( أريد ان اخرج من هذا المنزل الى القبر ياسيدتي، لا اريد شيئا آخر، لم تقل ذلك بنبرة أسى أو حزن بل بأقتناع تام من امرأة تقية رأت في هذا البيت شيئا مماثلا لمعبد ) رغم هذا فأن لوريس ستفند سرد أكبر رأس في القصر، أعني والد هيلدا، الأب القائد، في ص166.. بصفتي قارىء منتج للرواية : الطابق 99 : سأعرف وبالأحرى ستخبرنا هيلدا ( مجد ) وأنا ( عمي قتل ثلاثة فلسطينيين في الحرب.. ثم قتل نفسه.. أهانوه، لا أعرف ماذا فعلوا../ 166 ).. مابين القوسين سيفّند سرياً، من قبل لوريس من خلال حواريتها مع هيلدا، ستعرف هيلدا والقارىء معا : ان العم اختطفه الفلسطينيون ثم افتداه والد هيلدا، ( عاد منكسرا، لم يتكلم لأيام نتيجة التعذيب . كان يتناول أدوية مهدئة للأعصاب واشتدت ازمته، كان يريد ان يقتل آمال ...اتهمها بالخيانة، كان يصوب مسدسه تجاهها وكانت تبكي مذعورة لكنّه عاد وأفرغه في رأسه../242 ).. فالأب المؤمن بالقوة يسقط خلل العائلة على الآخر.. يطرد زوجة شقيقه من القصر ويحملها مسؤولية موته، لكن حسب مرويات لوريس الى هيلدا ان العم الوسيم الذكي العصبي جدا ( كانت لديه مشاكل جنسية . نادراً ماكان يستطيع ان يتمّم واجباته تجاهها... فكان يضربها.. وكانت بشرتها تزرق من شدة الضرب .../241 ).. وكان الأب القائد، ماهراً في تلفيق سيناريو بطولة العم.. وحسب لوريس ايضا ..( والدك أراد ان يجعل انتحاره عملاً بطوليا..) فأدعى ان العم قتل ثلاثة فلسطينيين .. وهذا يعني ان الأب كذاّب بالنسبة لأبنته هيلدا، لكن الأب وفق وجهة نظر لوريس لم يكذب.. ( السيد لايكذب . ليس كذباً كان يريد ان يحمي العائلة من ألسنة الناس . ألا تعرفين كلام الناس ياهيلدا . السيّد رجل طيب وقوي، قال ان عمك قتلهم كي لايكسره.../243 ).. وماتيلدا ايضا تؤكد رغم ما اصابها على يد ابيها .. وهي تزجر اختها هيلدا ( لايمكنك أن تتكلمي عنه بهذه الطريقة . أبي رجل عظيم.../253 ).. وتبرر تزويد المقاتلين بالمخدرات من قبل ابيها.. ( كان يفعل ذلك لتهيئتهم بشكل أفضل للقتال ../254 )
(*)
القوة : لايمكن اعتبارها في هذه الرواية محض صفة، بل لها سيادة المهيمنة الروائية، وكقارىء منتج ارى القوة هي الشخصية الرئيسة في الرواية، والقوة هي السلّم الجواني المشيّد من مسرات وأوجاع الحياة لكن حين تنبثق القوة من السلطة سيختلف الأمر .. ربما هكذا يرى ( مجد ) :( القوة هي ماتبنيه من الداخل ليقودك الى السلطة، هي مزيج من تجارب الحياة، فيها الكثير من الخسارات وليس المكاسب فقط .السلطة ! السلطة هي الكارثة تحديدا تلك السلطة التي تولّد القوة . تنتج حينها قوّة عمياء هداّمة لاتعترف بأي رادع ../39 ).. ونيويورك بعينيّ الفلسطيني ( مجد ) تختلف تماماً عن نيويورك في عينيّ لوركا في( الشاعر في نيويورك ) .. وتختلف عن ( قبر من أجل نيويورك ) قصيدة أدونيس، فمجد ينظر الى نيويورك بعينيّ رجل الاعمال الناجح وهي.. ( قوة متينة وصلبة لايمكن انكارها وبالنسبة لي هذه القوة في عمق نسيجها، نابعة من تعاضد ووحدة ومن سرعة وتيرة الحياة كأن لامجال لمضيعة الوقت هنا..../39 ).. والبيت الكتائبي يباهل بالقوة، ويستعمل الفن كفاصل اعلاني يروّج للقوة، فالنحات في العم جورج ،كان يجسّد ذاكرة المقاتل جورج الذي لايتذكر من أرشيف العائلة سوى تاريخ القوة.. ( كنّا أقوياء، أعتقدنا أنّنا لن نُهزم أبداً../247 ).. وهكذا يتحول القبو من خلال منحوتاته الى التاريخ السري للعم جورج.. وحسب هيلدا.. ( في هذا القبو، كنت وجها لوجه مع ضحايا القصف وأيضا المدفعية التي لم يستطع عمي ان يزيلها من ذهنه../249 ) القبو مثنوي الوظيفة فهو مشغل العم، يسرد فيه تاريخ خاص/ عام، الخاص يمثل تجربة العم في القتال اثناء الحرب اللبنانية والعام ماتكبده لبنان من خسائر فادحة، في هذا المشغل سرديات العم من خلال الطين والصخور والمعدن ..( رجل ٌ بلا أصابع .آخر بلا أذنين، إمرأة ثديها مقطوع والآخر مستلق ٍ فوق بطنها . تماثيل لرجال بلا ساقين أو بلا رؤوس . منحوتات لمدفعية .منحوتات أخرى للأعضاء . يد وأذن وساق../248 ) هذا المشغل يمثل الطرف الاول.. أما الطرف الثاني من المثنوي، فهو النظرة الماورائية لكل هذا الفضاء المعتم / المغلق / التحت أرضي .. نظرة ذات طبقات جيولوجية، حسب هيلدا وسأتدرج كقارىء منتج في ذلك، نقلا عن الصفحتين (248- 249 ) :
*فكرت أننّا نعيش في منزل كبير، تحته جثث، أو أنقاض بشرية . أنّ هذا المكان أشبه باللعنة
*أنّ هذا الوطن أشبه بمقبرة جماعية طمرها الجميع وبنوا بيوتهم فوقها
*في هذا القبو كنت وجها لوجه مع ضحايا القصف
*لم تكن هناك بقع دم حمراء، ولكني أقسم أنيّ كدت أسمع عويل البشر وأنينهم
(*)
الأب بقوته القيادية لم يكتف ببث سردياته في البيت والتنظيم والحكومة، بل حوّل العائلة والضيعة التي يعيش فيها وتحتمي بقوته الى نسخ طبق منه وهنا تتساءل هيلدا.. ( لماذا ليس لديهم اعتراض على كل مامررنا به، ولماذا استطاع أبي أن يستنسخ الجميع على صورته.. /254 ) انها اتصالية الواحد / الكثرة
الراعي / القطيع، وفق انظمة السلوك الجمعي ..الأب ( أسعد ) المقاتل القائد في حزب الكتائب .. ( يريد منصبا وزارياً.. هذا مايحدث للمحاربين القدامى هنا في هذا البلد . تنتقل السطوة من سلاحهم الى مركز في السلطة../222 ).. وللأب سلطته المطلقة ( هذا منزلي وقواعدي تسري هنا.. / 259 ).. وهو المطلق الارضي .. ( الأب الذي يعتبر نفسه وأفراد عائلته فوق كل شيء../219 ).. وللأب سردياته الكاذبة فقد اشاع ( أنّه أرسل ماتيلدا الى منزل أقرباءٍ لجهة أمي في الجنوب خوفا من أشتداد المعارك هنا.. /225 ) لكنها كانت سردية واهنة، لأن الجميع يعرف ان ماتيلدا شقيقة هيلدا كانت تتعاطى المخدرات، لكن الوحيدة التي لاتعرف شيئا كانت الطفلة هيلدا، وبعد سنوات ستنقض الخادمة لوريس سردية الأب : ( أخبرتني لوريس لاحقا، عندما أُدخلت اختي الى مصحّ،، بحنّس ،،/ 224 ) .. في الصفحة الأخيرة يصبح المقاتل الكتائبي وزيرا.. تنشغل العائلة بالمهنئين أثناءها تغادر ابنتهم هيلدا بحقائبها عائدة الى وطنها الشخصي حبيبها ( مجد )، وهكذا تنتقل سطوة المحارب القديم الى مركز في السلطة.. ( كان وفد من أهل القرية . زغاريد نساء في الخارج . رجال يحملون البنادق ويفتحون النارفي الهواء . أخي يدخل علينا ويبشّر،، أبي ، أبي، أسمك وارد في التشكيلة الوزارية الجديدة ... سيعلنونها بعد الظهر، تأكدت من الخبر، معالي الوزير... وزير الشؤون الاجتماعية ،.. /264 ) ..
(*)
العيش خارج ذاكرة المكان : أحلى شيء بالنسبة لهيلدا يتضح ذلك من خلال محاورتها لأختها :( تعرفين ماتيلدا، أحلى مافي نيويورك أنيّ غريبة هناك، لاأريد أن أعرف تلك المدينة جيدا، لا اريد أن أصنع ذاكرة جديدة استمتع بكوني غريبة ... /252 ) .. وهذا يعني ان الذاكرة راسخة كالاصابع في الكفين كالجلد البشري وان تأثيل ذاكرة جديدة من التمارين الافتراضية الشاقة وهكذا حسب هيلدا وهي تناجي وطنها.. حبها لحبيبها مجد وتحدثه عن اشكالية التأصيل / الأمكنة ( كم مرة طلبت منّي ان انتمي الى حبنا وحده .. لم أكن أعرف إن كان الحب انتماء أو قيدا. لم أعرف لماذا يجب أن أنظر اليك كوطن.. أنا الممزقة من البيت الاول، ألمّع الزجاج في هذا البيت الثاني العبثي، أغرق في حضنك في المساء، وأترك نفسي لك كأنيّ أتغطّى بكلكن غالبا ماكانت تأتيني صورة المكان الاول، الذاكرة تتحداني أني لن استطيع أن أصنع مكانها ذاكرة جديدة . تراني عدت لهذا، لأنظر إليها، وأخبرها أنيّ أستطيع؟ ربما عدت لأحتال على الذاكرة ، لأخبرها أنه يمكننا ان نتوصل الى تسوية ما . أن أتسع لكل الأماكن وانهي عداوة مع الجذور.. / 240 )
المنفى : ممحاة لتجاعيد الوطن
2-2
سنوات النأي عن مسرح المجازر انعشت تعايشا سلميا بين : مجد الفلسطيني وهيلدا المسيحية سليلة عائلة من حزب الكتائب وهما في البدء أمتداد لخصمين وحسب مجد الفلسطيني .. ( بدت لي هيلدا في البداية تحديا، المرأة الآتية من بعيد والتي تحمل جزءاً من ذاكرتي، تحديدا الجزء الذي لاأعرفه . لوكنت التقيتها قبل سنوات لقلبت الطاولة على رأسها لما عرفت مَن اهلها، لكن الوقت كفيل بتغييرنا . الخروج من الشرنقة الضيقة للحياة ومخالطة أناس آخرين في بلاد عديدة، معظمهم احتمال عدو، يجعلك أكثر تقبلا للآخر كنت اريد أن أكتشفها... / 165 ).. وهذا التعايش .. دون انسجام مطلق مع المكان وتحديدا نيويورك ربيع 2000 وحسب مجد الفلسطيني.. ( وأنا في نيويورك واقف على شرفة مكتبي الواقع في الطابق 99 . أرى انعكاسي في الزجاج، على مرتفعات مدينة الضوء، وأفكر لابدّ لهم – هؤلاء الاجانب – أن يشعروا بأننا غرباء عنهم . لا أرض عربية حيث أقف ولا قضايا أو هموم . مدينة تدور عجلاتها بسرعة، فتخال نفسك في محيط كبير.. يحتاج دوماً أن تكبس له الأزرار لتستمر العجلة بالمضي.. أن الطريق الوحيد هنا هو اللامكان . بأني يجب أن أمسح سحنتي عن وجهي كي أكون، كي أصبح شخصا ما../32 ).. أمريكا الرفاه ومصادر الثروة المتنوعة هي نفسها أمريكا الى تجعل مجد يتساءل .. ( الى أين تذهب هذه القوة، الى مزيد من الصعود أو الى الهاوية ؟.. / 190 ) وهي أمريكا التي لايمكن ان تكون رحيمة ولهذا ربما كنت أشعر أننا كعرب أو فلسطينيين وقود لهذه البلاد . حسب رأي مجد ..
(*)
في هذا الارتفاع الشاهق / الطابق 99 ، هل انتقل مجد من اللاوعي المبكّر الى الوعي ضمن جغرافيا العبث القدري ؟ .ألم يكن السطح في ذلك المخّيم : عتبة حدس الطفولة لدى مجد الفلسطيني ؟ ( كان السطح متنفساً يتيح لي أن أشم رائحة مغايرة للهواء.. أرى المباني السكنية أمامي، ويلسعني النور الذي يكاد لايجد سبيلاً الى المخيم المحاصر بالبناء الضيق والنفايات المنتشرة في أزقته ورطوبة الغسيل الذي تعلقه النسوة على حبال عشوائية.../65 ).. ومجد مسكون برغبة العلو أو الطيران، منذ الطفولة يريد أن يكون طيّارا عندما يكبر، لكي يرتفع ويرى الامور من فوق / ص61 وهل صار وجوده في الطابق /99 حسب رأيه ( تعويضي الوحيد عن كل مافقدت وحصني المنيع الذي لايستطيع أن يحطّمه أحد... ) وهذا الهاجس التصعيد صار التراسل الاول بين مجد ونيويورك حين وصلها مع والد ..
( .. بدا لي أنّه هنا بعض الأمل بأن أرتفع كناطحات السحاب . بدت تلك الأرض لي فرصة للقفز على قدم واحدة. واستحقاقا لبداية جديدة ربما تكون أفضل .../ 72-73 ).. لكن كل الارتفاعات لديه لها فاعلية تجسير اتصالية مع فلسطينيته المهدورة هناك .. ( كلّما وقفت على شرفة مكتبي في ذلك المرتفع، كنت أتخيل المخيّم وسكّانه وأكاد اسمع رذاذ المياه ترشح من السقف وأحيانا أمد يدي لقطع أسلاك الكهرباء الشائكة أو لالتقاط طفل وانتشاله من هناك والمضي بعيدا .../ 74 ) ان هذا الفلسطيني المقيم في الطابق 99 مبلل بيقظة أحلام الماء تلك الاحلام الناصعة التي سيحققها لفلسطيني آخر قسيمه في مخيّم صبرا وشاتيلا .. ربما بالطريقة هذه يرمم مجد روحه اللائبة ..
(*)
الزمن الروائي يمتد من مخيم صبرا وشاتيلا في لبنان حتى نيويورك 2000.. زمن عربي وخيم حرب عراقية – إيرانية، غزو الجيش العراقي غزو الكويت، اغتيال السادات، اعلان الحصار الامريكي ضد العراق .. أسقاط جمهورية اليمن الديمقراطية بألوية الحرس الجمهوري العراقي، هروب النميري من السودان، اغتيال العلامة الدكتور صبحي صالح، تصفية الشيخ الأحمر الفيلسوف حسين مروة، اغتيال المفكر الماركسي اللبناني مهدي عامل وغير ذلك من الاحداث الدامية... كل ذلك لم تحذفه الروائية جنى فواز الحسن، بل التقطت عينة خاصة من وطنها واشتغلت عليها، بمثنوية : الأرشيف / المخيال.. ثبتت التاريخ كعنونة فرعية ومنحت شخوص روايتها تسيرا ذاتيا، وهذا يعني ان الشخوص ليست دمى في مسرح العرائس، تحركها من الاعلى أصابع بشرية
(*)
التقط هذه الوحدات السردية الصغرى المبللة بشعرية اللحظة المرهفة :
( كنت ارتعب خائفا من فكرة أنّ المنزل سخلو من أشيائها، ومن أننيّ لن أرى آثار الماء على فرشاة اسنانها في الصباح، ولن أجد بعض شعيراتها العالقة في المشط على المنضدة، ولا ثيابها الداخلية ملقاة أرضا.../ 19 ) السرد الشفيف هنا يغترف نبضا باشلاريا ( غاستون باشلار ) السارد هنا هو مجد الفلسطيني، يعلّم حضور حبيبته هيلدا باليومي المألوف الذي غالبا ما لاننتبه له لأن حياتنا مشيدة على عنف العوامل .. مجد هنا يتناول هيلدا كحياة احتفائية مغمورة بالطراوة : من خلال بلل الفرشاة، مايعلق بالمشط، مايبقى على الارض من ثياب.. وهنا بهذا يكتب الضديد المحذوف : يباس الفرشاة / مشط اصلع/ غرفة بغياب المرأة ...و( كل مكان لايؤنث لايعول عليه ) كما علمني أفلاطون الثاني مولانا محي الدين بن عربي.. التقط هذه الوحدة السردية كحجر كريم بين سبّابتي وابهامي وأتمعن فيها بعينيّ صائغ البروق *
( ضحكتها العالية . هذه الضحكة التي كانت تنطلق في كل ارجاء المكان . ظل يسمعها حتى الآن../ 157 ) مجد الفلسطيني هنا احد احفاد الشاعر البصري الكبير بشّار ابن برد حين يقول ( الأذن تعشق ُ قبل العين أحيانا ) ومجد وحده مع يسمع تلك الضحكة فهي مرسلة له وحده من هيلدا الحبيبة الوطن وهو الآن لايسمعها بإذنه بل عبر ذاكرة الاذن / القلب ويجوز لنا التعبير بمثل هذا الكلام ويبدو ان مجد صار يكتشف ذاته وذاكرته وموطنه من خلال هيلدا وهاهو يخبرنا ..( أعترف بأني لم أشعر بحنين جارف الى موطني سوى بعد تعرفيّ بهيلدا . وجدت نفسي أروي لها تفاصيل مخيّلتي عن ذلك المكان تفاصيل كنت انا نفسي غير مدرك لوجودها في ذهني . مع حبيبتي، كنت أحكي كثيرا عن الاماكن والذكريات والمآسي والمجازر ورجال الاعمال والصفقات . كلما رويت لها حادثة أو فكرة ،شعرت كأنيّ أتعرف على ذاتي للمرة الاولى، كأني رجل يخرج الى الحياة، يخرج اليها من العمق ويجعل كل ماكان بين طيات النسيان يطفو على السطح . كأننا حين نحكي عن أنفسنا، ندرك كم أننا غرباء عنّا../36 ).. كأن مجد في لحظة علاج سريري، وكأن الفراشة هيلدا لها فاعلية المساج لذاكرة وروح ومخيلة حبيبها مجد... نعم ان هيلدا فراشة فهي كسرت افق توقع العائلة وانزاحت بقناعتها عن النسق
وهيلدا قسيمة الفراشة بأفعالها .. هيلدا اخترقت وطارت وأكتشفت وكذلك تفعل الفراشة ( على حدّ وصفها كانت تقول دوما إن الدودة لاتتحول الى فراشة إلاّ عندما تخترق شرنقتها، واذا كانت حياة الفراشات اصعب لأنها معرّضة للغبار والعواصف، فإنها تطير وتجتاز المسافات وتكتشف العالم.../48 ) ..
حجر كريم آخر في الوحدة السردية التالية :( كانت تجدها فكرة مغرية أن تعرف كل الخطايا لتفهم عمّا أعتذرت معظم سنين حياتها وليكتسب اعتذارها جسدا ما... /49 ) إذا هيلدا تبحث عن مفتاح لهذه الشفرة المطلسمة فهي تريد معرفة الخطايا كلها، ولكن كيف يكون المعرفة دون التجربة؟ فثمة نصيص في نص الصلاة يؤكد (لاتدخلنا في التجارب ) لنوضح الأمر التدرج التالي :
معرفة ---------- فهم------------ أعتذار-------- حياة = الجسد
وهكذا تتأثل إتصالية : الفهم / التفسير
دون ذلك تكون الصلاة حدا فاصلا متخثرا لاحياة فيه .
(*)
الفلسطيني يتأطر بهذا النسق الثلاثي/ ص72:
( *أن تولد في ملجأ أو مخيّم وترى الجميع ينظر اليك بشفقة أو اشمئزاز وأن تعتبرك الأغلبية عبئا، وأن تنتظر المساعدات الدولية وهبات الاونروا وأن تخاف أن ترزق بالاولاد ..
*أن تكون فلسطينيا هو إما أن تنسى الجذور وتتخلى عن أصلك لتتقدم في هذه الحياة وإما ان تبقى كرصاصة تنظر في فوهة البندقية أن تنطلق في اتجاه ما، على عداء مع الحياة لأنها سلبتك مهدك الاول وأجبرتك ان تختلق وطناً..
*أن تكون فلسطينيا، خصوصاً في زمن الحروب، هو أن تنكر على نفسك حقك في الحياة وأن تتلّبس الاسى ليصبح جلدك . وإلّا فقد وطنيتك . أن تكون فلسطينيا هو أن تنسى الضحك وتلتزم الشعور بالغبن والمظلومية، وإلاّ بت من الخوارج . )
ضمن هذا المثلث كانت تقبع ذاكرة مجد الفلسطيني ، لكن تجربة والده ، أنقذته من هذا المثلث المتساوي الاضلاع..الأب الذي انتقل من الاستاذ الى مقاتل فلسطيني وهنا يقع الأب في اشكالية تسموية
( كان في حيرة من أمره، لايعرف إن كان عليه ان يتخلى عن لقب الأستاذ لكي ينخرط في العمل المسلّح وينضم الى حركة فتح.../ 66 ) أما الزوجة فهي ترفض فعل المشاركة وحسب مجد..( كانت أمي غاضبة وهي تسأله ما الذي سيحوّله الى مقاتل هو الذي لم يدس نملة طوال عمره . كانت تقول له إن القتال حرفة تحتاج الى مهارات وتدريبات . ) وتستعمله حيرته التسموية سنارة ضده.. ( هل سينادونه الآن بغير لقب الاستاذ ؟/ 67 ) وبعد المجزرة.... حسب رواية مجد ( هاجسه الوحيد أن يمضي به الى بلاد أخرى . كان يخبر الاصدقاء أنه أكتشف أنّ ماوجده هنا، بين الميليشيات المسيحية والقيادات العربية، يفوق كراهية الصهاينة للفلسطينين... والاحتقار الذي لقيه هنا بين من يفترض انّهم عرب مثله يفوق حقد الاسر.. )
(*)
المرآة ليست قائمة بذاتها، ولابتسيير ذاتي، تطور الإنسان هو الذي أقامها بعد ان كانت ممدة بين ضفتين أو مدوّرة في قعرة تلك الاسطوانة المتخفية في الصحراء : تستقر . الإنسان هو الذي سكنّها بعد ان كانت دفاقة في الانهار، فأنتقلت المرآة من المطبوع الى المصنوع : من الماء الحي الى قلق الزئيق ..( ونرسيس لم يكن من الغباء، بحيث يخدع بما رأى، لكنه عشق الجسدي فغرق فيه ) وحين ضَجَر َ الإنسان من الأستواء المنافق في الحياة وفي المرآة، فّر بكل روحه الى الجوهر الفذ، ليفضح التشوهات بما يماثلها، فأجترح حدبة ً وقعرا للمرآة فكانت المرآة المقعرة و... المحدبة ،ولم يكتف ِفقد زاده الشوق رهقا.. شوقه ُ الى ماوراء الآن، فأخترق الراهن بتعازيم السحر وسَخَرَ سواه مَن تكتمل فيه شروط البث ليقدّم له توصيفا كاملا لما يراه... بالطريقة هذه عُرِفت مصائر الغائبين / الغائبات . في خماسية الروائي إبراهيم الكوني ( الخسوف ) يستعمل الثائر عمر المختار هذه المرآة ويسّخر صبيا ليصف له المواقع التي تتموضع فيها القوات الايطالية.../97- 98/ القصيدة : بصرة .
(*)
مع الصفحة الاولى في الرواية، أكون وجها لوجه مع المرايا، كقارىء اجدني احد طيور فريد العطار في ( السيمرغ ) والتي تعني بالفارسية ( الثلاثون طيرا ) ولكنني لست مثلها فهي رأت نفسها في تلك المرآة الكبرى في ذلك الكهف المطلق .. سأحدق في مرايا طابق 99 لأجد سواي، لن أرى هيلدا فأنا لست مجد الفلسطيني سأرى مجدا عبر سرده المرآوي لهيلدا، مجد الذي يحاول ايهامي انه يحاول اجتراح مسافة بين هيلدا وانعكاسها في المرايا( وكنت أنظر الى تكاوينها في المرآة أكثر ممّا أحدّق بها مباشرة ً كأني أتعمّد خلق تلك المسافة بين ذاتها وانعكاساتها ../9 ) لو كان مجد الفنان الايطالي مودلياني لقال لهيلدا ( حين أدخل روحك وأعرفها أرسم عينيك ).. وهذه اجابة مودلياني على رسمه حبيبته مغمضة العينين، ولن يرسم عينيها إلاّ في لوحته الأخيرة .. لكن مجد رجل أعمال ، وبه شظايا مرئية في الجسد وأخرى لامرئية في الروح ، وتخذله نفسه ايضا.. وهو لايكتفي بهذا التلصص، بل يغويها بالتراسل الجسداني / المرآوي.. ( صرت أضاجعها أمام المرآة وأطلب منها ان تراقب نفسها وتنظر مطوّلا الى حركة جسدها.../9 ).. وحين تنتقل لهيلدا عدوى المرايا، سيكون لمجد رأيا آخر.. ( حين صارت هيلدا تنظر الى المرايا بت ّ أشعر بالعجز أمامها. لم أعد أستمتع بلعبة الانعكاسات وصرت استشيط غضبا كلّما رفعت رأسها أثناء المضاجعة.. ).. وهذا يعني ان مجد الفلسطيني، يريد المرآة ذات اتجاه واحد بالتراسل اتجاه خاص به .. وسينقطع سرد المرآة ليعاود البث في الفصل الأخير / الرابع حيث تناجي هيلدا حبيبها مجد ( كنت تطلب مني أن أراقب جسدي في المرآة . كانت احتمالاتي الأخرى، البريق في العتمة، الألم الذي يلفظه الجلد خارجا.../218 ).. وتستمر بمنولوغها مع مجد أثناء زيارة أهلها في لبنان..( لم أكن أنا هيلدا التي نفسها التي غادرت هذا المكان . كان الأمر بمثابة انتقالي من صورة الفتاة الصغيرة الى المرأة، المرأة التي كنت أراها حين أحدّق الى المرآة، وأنت تطارحني الغرام../ 230 ) سأتوقف عند الجملة التالية : المرأة التي كنت اراها حين أحدّق الى المرآة
المرآة هنا تقود الذات الى اكتشاف ذاتها وفق براءة اختراع جاك لاكان .. وهناك مرآة بمرتبة المجاز مرآة عمياء لاتعكس بل تبث وعيا في الذات ..( كلّما نظرت الى الجدران التي تحيط بي كنت افهم لماذا رحلت../ 261 ) في الصفحة ماقبل الاخيرة في الرواية تشهر هيلدا مرآة حبيبها في وجه عائلتها
( يمسك بالمرآة ويجعلني أرى انعكاسات والواناً أخرى.../ 263 )
(*)
قبل ان نهم بالصعود الى طابق 99 تتدلى امامها لافتة اقترضتها المؤلفة من جيمس بالدوين في هذه اللافتة خلية سردية موقوته ، فعل القراءة سيحّول الخلية الى فرشة سردانية متماوجة كماء فرات دافق
( ربما ليس الوطن مكاناً ولكن شرطاً لايمكن إنكاره / جيمس بالدوين.. ) بالنسبة لي كمصاب بلوثة الكشط ، سأقرأ لافتة أخرى : ليس للعمال وطن / كارل ماركس..
* هذه المقالة منشورة في مجلة (البحرين الثقافية ) العدد 83/ كانون الثاني 2016
*جنى فواز الحسن / طابق 99/ منشوارت الضفاف / بيروت / ط1/ 2014
*مقداد مسعود / القصيدة بصرة/ قراءة اتصالية منتخبة من الشعر البصري / دار ضفاف : بغداد / الشارقة / ط1/ 2012
*بخصوص مودلياني / أعني الفيلم الذي أخرجه الكاتب الاسكتلندي ميك دايفز في 2013، آندي غارسيا بدور مودلياني
وجين هيوترن بدور عشيقة مودلياني