أشقياءُ مغاربةٌ سلبوني العراقَ الذهبَ

2013-01-08
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/a16624dd-f3e1-489d-a575-8624fdd827ee.jpeg

في ليل بروكسل :

أشقياءُ مغاربةٌ سلبوني العراقَ الذهبَ

ما آبَ من سفرٍ إلاّ و ...
أنا امرؤ يحبّ الأسفارَ ، حتى القريب منها ، كأن تسافر بقطار اليوروستار من محطة كنج كروسٌ اللندنية إلى بروكسل .
كنت زرت بروكسل مرةً لأقع ضحية احتيالٍ من جانب مسرحيّ عراقيّ كان يقيم في أنتويرب ،و لربما حتى اليوم.
الآن اختلفَ الأمرُ ، فأنا ذاهبٌ أزورُ صديقةً بلجيكيةً كنت أعيش معها أيامَ باريس العجيبة.
أوكتافيا دي بويسير.
كانت أوكتافيا زوجةً للرسام البلجيكي المعروف ديس دي برون ( توفي في العام 1998 ).
في باريس افترقا ، أوائل التسعينيات ، فقررت السيدةُ العيشَ معي في الضاحية الباريسية أوبرفيلييه.
Aubervilliers
تقلّبتْ بنا الأمكنة والظروف ، لكنا ظللنا على صلةٍ ما.
قبل عشر سنين زارتني في لندن.
الآن أزورها ، في نيسان ، بعد سنواتٍ عشرٍ ، ملأى.
لسنا ، نحن الإثنين ، في غضارة الصبا.
الزيارة ، إذاً ، لها معنىً أعمقُ.
في شباط الماضي قلت لأوكتافيا : أريد أن أزوركِ . قالت : مرحباً بك . قلت: سأبقى أسبوعين . قالت :
ابقَ ما شئتَ. سألـتُها : في مسكنكِ ؟
أجابت : أين إذاً ؟
*
أوكتافيا تعيش في حيّ غير بعيد عن وسط العاصمة ، حيّ مختلط الأجناس واللغات . منزلها قريب من محطة مترو. في منزلها كلبان ، أحدهما نصف ذئب.
شقّتها أقرب إلى أتيلييه ، وتضمّ عدداً من أعمال زوجها الراحل.
قدّمتْ لي سريرها ، وارتضتْ لنفسها سرير الضيوف.
الكلبان يعيشان معها في الشقة.
*
أوكتافيا تغنّي في أوبرا شعبية .
تروي حكايات للكبار والصغار.
وتتابع باهتمامٍ المعارضَ التشكيلية.
*
لأوكتافيا علاقة وثيقةٌ بمركز ثقافيّ فلمنكيّ ( تمييزاً عن الثقافة الوالونية الفرنسية ) ، اسم المركز : سينما Zinnema
وهي تذهب إلى هناك أكثر من مرتين أسبوعيّاً.
*
مساء السابع عشر من نيسان ، أي ليلة سفري عائداً إلى لندن ، قالت لي : أنذهبُ إلى المركز؟ هناك جازٌ حيٌّ. هي تعرف أنني أحبّ الجاز . قلت لها : لكنْ علينا ألاّ نتأخر . قالت: ساعة واحدة فقط !
ابتدأ الجاز متأخراً ساعةً تقريباً عن الموعد المقرر.
أوكتافيا ظلّت تكرع النبيذ . أنا امتنعتُ تقريباً.
ضجرتُ .
خرجت من القاعة أتمشّى في الممرّ لعلّ أوكتافيا تخرج لنعود إلى شقّتها.
لا خبر.
أخيراً جاءني مدير المركز وزوجته . قالا لي : أوكتافيا زادتْها هذا المساء . أنت تعرفها .
خرجتْ أوكتافيا ضاحكةً .
بمجرد بلوغنا الشارع ، فقدتْ صديقتي القدرةَ على السير المتزن.
قلت لها : الخير أن نعود في تاكسي.
رفضتْ.
هكذا سرنا بمشقّةٍ حتى بلغْنا محطة المترو .
كانت الساعة حوالي الحادية عشرة.
في المدخل ، كان الحرّاس ذوو السترات الحمر المخططة ، يبدون مغاربةً ، وكان أيضاً عددٌ من الشبّان المغاربة يتمازحون ويتصرّفون بصورة مريبة غير بعيدين عن الحراس.
أوكتافيا التي تحبّ المغرب كثيراً ، حدّ الاشتراك في " المسيرة الخضراء " ، لم تهبط إلى القطار ، وإنما اتجهت إلى المغاربة ، تمازحهم وتتضاحك معهم . رجوتُها أن تأتي نحوي ، لكنها أصرّت على البقاء بين الشبّان المغاربة .
لاحظتُ ، مرتعباً ، أن أحد الشبّان كان يحاول انتزاع خواتمها من أصابعها ... احتدمتْ . كادت تسقط على الأرض . سحبتُها إلى المدخل لنأخذ القطار ، لكن أحد الحراس اعترض قائلاً إنها سكرى . والقانون يمنع السكارى من استخدام القطار. والأرجح أنه كان يريد أن يساعد الشبّان على سرقتها . فجأةً اندفع أحدهم إليّ.
كنت بعيداً شيئاًما . اندفع إليّ وسحب من عنقي سلسلة الذهب ، العراق الذهب ، السلسلة التي أهدانيها صائغٌ عراقيٌّ في السويد ، والتي تحمل خارطة العراق . لا أدري كيف عرف اللصّ المغربيّ أنني أحمل سلسلةً . كنت ألفّ رقبتي بإيشارب أبيض أسود على طراز حمار الوحش ، أهدتنيه أوكتافيا. حاولتُ الإمساك بالسلسلة فتدفّق الدم من إبهامي . فرّ اللصوصُ فجأةً.
جاء الحرّاس .
قالوا : استدعَينا الشرطة.
جاء الشرطة.
بعد سلام وكلام ...
وتحقيقٍ أوّليّ ، وسؤالٍ عمّا كنتُ بحاجة إلى سيارة إسعافٍ ...
بعد هذا كله :
حملتنا سيارةُ الشرطة إلى منزل أوكتافيا التي ظلّت تهذي طوال الطريق.
ولقد كانت الليلة ليلاءَ حقّاً :
ظلّت أوكتافيا تعوي ، مثل لبوءةٍ جريحٍ . تعوي الليل كلّه :
سرقوا بطاقتي الحمراء الصغيرة . سرقوا بطاقة الإئتمان البنكيّ . سرقوا بطاقة التأمين الإجتماعي ... واه ! واه!
سأكون عنصريّةً !
أجهزتْ على قنينة نبيذ .
حاولتْ أن تدخن لكني منعتُها ، خشية اندلاع حريق في الشقّة.
الكلب نصف الذئب ظلّ هادئاً.
*
والآن ؟
أعتقدُ أن الأشقياء المغاربة فعلوا ما كان عليّ ، أنا ، أن أفعله :
الخلاص من فكرة العراق الذهب !
العراقُ لم يعُدْ قائماً .
ولن يعود ...
*
في منزلي بحثتُ عمّا أطوِّقُ به عنقي.
تذكّرتُ قلادةً سوداءَ تحمل صورة شي غيفارا.
هذه القلادة اشتريتُها ، ذات صباح نيويوركيّ ، من بائعٍ جوّالٍ ، أسود.
القلادة سوداء.
غيفارا بالأبيض والأسود.
*
أذهبُ بغير ذهبٍ.
النبيّ لا يورث.
هكذا قال محمد بن عبد الله على فراش الموت.


لندن 20.04.2012

سعدي يوسف

 شاعر عراقي وكاتب ومُترجم، وُلد في ابي الخصيب، بالبصرة عام 1934. اكمل دراسته الثانوية في البصرة. ليسانس شرف في آداب العربية. عمل في التدريس والصحافة الثقافية . غادر العراق في السبعينيات وحاليا يقيم في لندن ونال جوائز في الشعر: جائزة سلطان بن علي العويس، والتي سحبت منه لاحقا، والجائزة الإيطالية العالمية، وجائزة كافافي من الجمعية الهلّينية. في العام 2005 نال جائزة فيرونيا الإيطالية لأفضل مؤلفٍ أجنبيّ. في العام 2008 حصل على جائزة المتروبولس في مونتريال في كندا . وعلى جائزة الأركانة المغربية لاحقاً

عمل كعضو هيئة تحرير "الثقافة الجديدة".

عضو الهيئة الاستشارية لمجلة نادي القلم الدولي PEN International Magazine

عضو هيئة تحرير مساهم في مجلة بانيبال للأدب العربي الحديث .

مقيم في المملكة المتحدة منذ 1999.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved