الديكتاتور العظيم (1940) The Great Dictator
إن ظاهرة مثل الفاشية هي التي جعلت شارلي يتخلّى عن استمراره في إنتاج أفلام صامتة ويتكلم، ولذلك كان «الدكتاتور العظيم» أول فيلم ناطق لشابلن . فكّر شارلي في الفيلم بعد أن انتهى مباشرة من تصوير فيلم «العصور الحديثة» سنة 1936، إذ كانت الدعاية النازية آنذاك على أشدها، وكانت الدول الأوروبية في تراجع مستمر أمام انتشار الفاشية، فبريطانيا تهادن هتلر، وفرنسا تلزم الصمت، وأمريكا تعود إلى عزلتها، ولا أحد يدري بما يمكن أن يؤدي إليه صعود هتلر من كوارث على العالم .
كان شارلي يعرف أخبار ألمانيا في ذلك الوقت من المهاجرين القادمين من هناك، ومن الصحف والأخبار المصورة سينمائيًا، والتي كانت غالباً ما تعرض في صالات العرض . وبعد سنة 1938 عندما توسعت النازية خارج ألمانيا ونجحت في ضم النمسا وابتلاع يوغوسلافيا سنة 1939، شعر شابلن بالخطر، وأدرك أن حربًا أخرى قادمة لا محالة، وعندئذ تحمس لفكرة الفيلم مرة أخرى، وأخذ في الإعداد له، وبدأ في تصويره سنة 1939، أي في السنة التي نشبت فيها الحرب العالمية الثانية بعد احتلال ألمانيا لبولندا .
تدور أحداث الفيلم حول الحلاق اليهودي الفقير في دولة تومانيا ( ألمانيا ) الذي يصاب في الحرب العالمية الأولى ويدخل في غيبوبة طويلة لسنوات، ليخرج من المستشفى بعد صعود أدنويت هنكل ( أدولف هتلر ) للسلطة . ولا يعلم الحلاق بأمر اضطهاد هنكل لليهود، ويفاجأ بجنود فرق العاصفة يغلقون محله ويدخل معهم في مطاردات مضحكة . وأخيرًا، يتخفّى الحلاق في زي عسكري، ونظرًا للشبه الكبير بينه وبين هنكل الدكتاتور يخطئ جنود الحراسة ويحيون الحلاق التحية العسكرية، ويأخذونه إلى احتفال عسكري ليلقي خطبة . وهنا يتجاوز شابلن شخصية الحلاق ويلقي خطبة باعتباره شابلن الفنان، محذرًا فيها من أخطار الدكتاتورية .
وعلى الرغم من أن الفيلم ناطق، فإنه مليء بالمشاهد الصامتة، مثل مشهد الدكتاتور وهو يلعب بالكرة الأرضية تعبيرًا عن هوسه بحلم احتلال العالم، وفي خلفية المشهد يظهر تمثال نصفي لقيصر تعبيرًا عن الرغبة في تقليد القياصرة بإنشاء إمبراطورية .
شارلي شابلن، من فيلم «الدكتاتور العظيم»
كما يحتوي الفيلم على مشهد للدكتاتور وهو يخطب أمام ضباطه وجنوده، وكان نموذج بديع لقدرة شارلي على تقليد هتلر، وعلى الرغم من أن الخطبة يبدو منها أنها بالألمانية فإنها ليست كذلك، فهي تقليد شارلي لنطق الماني لا معنى له . وبالتالي فإن القيمة الحقيقية لهذا المشهد ليست فيما يقوله شارلي لأن ما يقول لا معنى له، بل في أسلوبه في تقليد هتلر .
يبدو في الفيلم أن شارلي يقلد هتلر، لكن شارب هتلر الشهير هو أيضا شارب شارلي الذي اشتهر به منذ 1914، فمن في الحقيقة يقلّد من ؟ إن هتلر هو الذي يقلّد شارلي لا العكس . لقد عملت نجومية شارلي على انتشار ذلك الشارب القصير، إذ كان آنذاك موضة جديدة تختلف عن الشارب التقليدي العريض والمدبّب. وقد بدأ هتلر في مسايرة تلك الموضة في العشرينيات رغبة منه في التقرّب من الجماهير ومن رجل الشارع، ورغبة أيضًا في الاختلاف عن القادة والسياسيين الألمان القدامى أصحاب الشوارب العريضة المدببة .
وعندما زار شابلن ألمانيا سنة 1931 كان الحزب النازي في بداية صعوده هناك، ولفت نظر شابلن ملصق دعائي به صورة هتلر، فلاحظ استعارة هتلر لشاربه الشهير الذي كان بمثابة علامته التجارية، وهذا ما أغضبه للغاية، ومنذ ذلك الوقت قفزت إلى ذهنه فكرة أن يقوم بتقليد هذا الدكتاتور في فيلم سينمائي .
ومن الغريب أن يقلّد شارلي شخصا يقلّده هو، وكأنّه يُذكّر المشاهد أن شارب هتلر هو شارب شخصيته التي ابتدعها؛ والمفارقة هنا تتمثل في تقليد الأصل ( شارلي بشاربه ) للتقليد ( هتلر بشاربه المستعار من شارلي )، وفي أن تكون الشخصية الهزلية هي الأصل والزعيم السياسي الكاريزمي هو التقليد . والحقيقة أن ما مكن شابلن من أداء هذا الدور هو شبه حقيقي بينه وبين هتلر .
شارب شارلي شابلن الذي قلّده هتلر
ولأوّل مرة في تاريخ السينما يخرج الممثل عن دوره في الفيلم ويظهر بشخصيته الحقيقية، إذ بعد أن يتخفّى الحلّاق في الزي العسكري ويخطئ الضباط ويعتقدونه الدكتاتور، يأخذونه إلى استعراض عسكري ليلقي خطبة . وهنا يتجاوز شارلي شخصية الحلّاق وينظر مباشرة نحو الكاميرا موجهًا كلامه للجمهور في خطبة تتضح فيها نزعته الإنسانية، محذرًا من أخطار الدكتاتورية . يقول شابلن في خطبته :
آسف .. لا أريد أن أكون إمبراطورًا.. فليس هذا من شأني .. لا أريد أن أحكم أو أغزو أحدًا.. بل أحب أن أساعد الجميع إن أمكن .. الأسود والأبيض على السواء.. إننا جميعًا نريد مساعدة بعضنا البعض .. فهذه هي طبيعة البشر .. نريد أن نعيش عن طريق سعادة الكل لا شقاء الكل .. ولا نريد أن نكره ونحتقر.. ففي هذا العالم متسع للجميع .. والأرض الطيبة غنية وتستطيع إعاشة كل من عليها.. والحياة يمكنها أن تكون حرة وجميلة.. لكننا فقدنا الطريق .. فقد سيطر الجشع على نفوس الناس .. وملأ العالم كراهية.. وقذفنا إلى البؤس وحمامات الدم .. لقد طورنا السرعة لكن حبسنا أنفسنا داخل أنفسنا .. الآلات التي تعطي الوفرة تركتنا في عوزٍ.. معارفنا جعلتنا شكاكين .. ذكاؤنا جعلنا متصلبين .. نفكر كثيرًا لكن إحساسنا قليل .. نحتاج الإنسانية أكثر من الآلية.. نحتاج الطيبة والتهذب أكثر من الذكاء والدهاء .. فبدون هذه الأشياء تصير الحياة عنيفة .. ويضيع كل شيء .. الآن يصل صوتي إلى ملايين الناس في كل أنحاء العالم .. ملايين من الرجال والنساء والأطفال اليائسين .. الخاضعين لنظام يستعبد البشر ويعتقل الأبرياء .
وبعد عرض الفيلم في إنجلترا بأيام قام الحزب الشيوعي الإنجليزي بطبع الخطبة وتوزيعها كمنشور .