سِيدي بِلْعبّاس

2015-09-10
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/11aa8a0b-352e-4fa2-a7e5-bd7b565aefa2.jpeg
"القصيدة مهداة إلى إحميدة العيّاشي "

خمسون عاماً ؟
إنها خمسون عاماً، وهي ماثلةٌ، لدَيّ
كأنني في اللحظةِ الأولى
كأني أهبِطُ، الآنَ ...
القطارُ من " الجزائرِ " وهي عاصمةٌ ، أتى بي .
إنني في سِيدي بلعبّاس .
قالَ رفيقُنا حِمْراسُ، يشفعُ مَطْلَبي بوزارة التعليمِ :
سوف تكون في بلديّةٍ كالمبتغى، 
بلديّةٍ، يا صاحبي، لرفاق دربِكَ، للشيوعيّين ...
سوف تكون، يا سعدي العراقيّ، السعيدَ
وسِيدي بِلْعبّاس سوف تكون بيتَكَ، أيها المتشرِّدُ !
الآن القطارُ توَقّفَ ...
التبسَتْ عليّ الخطوةُ الأولى .
ولكني سأمضي نحو نُزْلِ المتروبولِ ...
وسوف أدفعُ  للموظّفِ، ما سأدفعُهُ :
الجوازَ
مزوّراً ...
ويقولُ لي : يا مرحباً، يا شيخُ  !
أحملُ، كالرصاصِ، حقيبتي، عبرَ الممرّ المعتمِ .
انتهت المسيرةُ بين بيروتَ العجيبةِ
والجزائرِ .
إنني في " المتروبول " 
وإنني في " سِيدِي بِلْعبّاس " ...
*
كان ذلك في 1964
*
قَسَـماً !
وتعرفُ أن تاريخَ المدينةِ دوَّنَتْهُ شهادةٌ
 وهناك مَن كانوا بِـ"وجْدةَ " يأكلون حياتَهم بين البطالةِ والبطاطا ...
لا تَضِعْ !
ها أنتذا في قلبِ بِلْعبّاس :
كانت هذه الثُّكُناتُ للدرَكِ الفرنسيّ .
المَراقصُ أُغلِقَتْ .
والعاهراتُ، بلا جنودٍ، ما يزلْنَ بذلك الـمبغى .
وثَمَّ  حديقةٌ للناسِ .
ثَمَّ " المسرحُ البلديُّ " ... حيثُ رأيتَ بِنْ بلاّ،
( عشِيّةَ حِبْسِهِ ) !
وتظلُّ تهتفُ، هامساً :
قَسَـماً !
*
هل كنتَ تعرفُ أنّ بِلعبّاس سوف تكون بيتَكَ ؟
أنّ ميلادَ ابنتَيكَ هناكَ،
والوادِي، الذي ضحضاحُــهُ عفِنٌ، سيملأُ صحنَكَ الفخّارَ بالسمَكِ ...
الحياةُ بهيّةٌ .
والكرْمُ يملأُ  كأسَكَ الفخّارَ بالشمسِ التي سالتْ إلى حافاتِها،
ورديّةً ...
قَسَماً !

قد كنتَ تدخلُ "لامْبِيانْس " الحانةَ :
السردين يُشْوى
والرِّميتي،
والحلازينُ المملّحةُ ...
*
الدروبُ طليقةٌ،
سيكون في " الفَرْساي "  بيتُكَ !
Le Versailles ...
*
كنتَ، أحياناً، ترودُ جزائرَ الأعماقِ  ...
تمضي في ترابِ الريفِ :
بَسْكرة . تْلاغ.سيدي ابراهيم. معسكر. عين البرد. سفيزف
بو حنيفيّة. تسالة . سيدي لحسن . ريو سالادو . مَغْنِيّة .
عين البرد. رأس الماء . سيدي خالد . باريّا آلتو . سيدي علي بوسيدي .
سيدي خالد. العمارنة . زروالة . سيدي حمادوش . غليزان .
بور ساي ...
...................
...................
................... 

المرافيءُ، إذْ تعودُ مع المساءِ، مراكبُ السمَكِ ...
*
الحياةُ بهيّةٌ ...
قَسـَـماً !
*
إنْ كانت الأقدارُ أرحمَ ...
إن نجَوتَ،
وإنْ ترفّقَت الرياحُ، ورقَت الأمواجُ حتى أوصَلَتْكَ هنا
إلى فردوسِ بلعبّاس  ...
إنْ كان المقامُ مقدّساً 
فلِمَ ارتحالُكَ ؟
أيُّ جِنٍّ قد ألَمَّ بكَ ؟
الرحيلُ !
ألم تَقُلْ : قسَماً  ؟
*
غادرْتَ ، بِلْعبّاسِ، ممسوساً، وأخرقَ ... تقطعُ البحرَ المحيطَ، وتقطعُ المتوسِّطَ، الجبَلَ العظيمَ . تبيتُ ليلَكَ في مخيّمِ بلدةٍ من بعدِ أخرى . تُرْهِقُ الأطفالَ، تثملُ في المرافيءِ ... تقطعُ الصحراءَ مندفعاً ، تقود كناقةِ البدويّ ما أسميتَه سيّارةً .  وتنام عند الفجرِ منحنياً إزاءَ الـمِقْوَدِ  . الأفقُ العجيبُ يقولُ : بغدادُ !  الخرائطُ سوف تلمِظُ ... إنها بغدادُ، بغدادُ.
انتبِهْ !
قد أقبلَ الشُّرَطيُّ 
&
الحزبيّ ...
*
 
والآنَ ؟
تنأى، مثل ما تنأى بنا الإحلامُ، بِلْعبّاس ...
أنتَ الآن في ريفِ البحيراتِ الغريبةِ
وسْطَ غاباتٍ
وأوديةٍ ...
لقد راحَ العراقُ،
ورُحْتَ، أنتَ، متوَّجاً بالشوكِ .
أنتَ، الآنَ، تهدأُ .
أنتَ تهدأُ .
أنت، بِلْعَبّاس ...
فارفَعْ كأسَها
واهدأْ 
لأنك لم تُغادِرْها، وإن شطّتْ بكَ الأيام ...
قَسَماً !

لندن  04.01.2015

سعدي يوسف

 شاعر عراقي وكاتب ومُترجم، وُلد في ابي الخصيب، بالبصرة عام 1934. اكمل دراسته الثانوية في البصرة. ليسانس شرف في آداب العربية. عمل في التدريس والصحافة الثقافية . غادر العراق في السبعينيات وحاليا يقيم في لندن ونال جوائز في الشعر: جائزة سلطان بن علي العويس، والتي سحبت منه لاحقا، والجائزة الإيطالية العالمية، وجائزة كافافي من الجمعية الهلّينية. في العام 2005 نال جائزة فيرونيا الإيطالية لأفضل مؤلفٍ أجنبيّ. في العام 2008 حصل على جائزة المتروبولس في مونتريال في كندا . وعلى جائزة الأركانة المغربية لاحقاً

عمل كعضو هيئة تحرير "الثقافة الجديدة".

عضو الهيئة الاستشارية لمجلة نادي القلم الدولي PEN International Magazine

عضو هيئة تحرير مساهم في مجلة بانيبال للأدب العربي الحديث .

مقيم في المملكة المتحدة منذ 1999.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved