أقول صلاح فائق سعيد، فتتألق ثريا متلألئة أنبجست من سماء كركوك ورفدت أشجار العراق بأضوية من حداثة الشعر والسرد، والتشكيل في تلك الحقبة التي أطلق عليها ( الستينات) .. مَن ينسى حامل الفانوس سركون بولص؟ مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة؟ صهيل المارة حول عالم جليل القيسي ؟ بوهيمية جان دمو (حيث الأحتقار بذرة إبداعية يجب أن تغرس في تربة كل شاعر أصيل- 35 عبد القادر الجنابي)(2)؟ حين يجف البحر يوسف الحيدري؟ والأب يوسف سعيد؟ ..زهدي الداودي الذي سيتحفنا بعد سنوات برواية ( رجل في كل مكان ) .. قصص أنور الغساني وفي منتصف السبعينات في جريدة (طريق الشعب ) ينشر( مقامات كركولية ) ومن ينسى ( رجل في غواصة )؟ أعني مؤيد الراوي بهوسه التجريبي رأى في الكتابة ( أشكالية الذات غير المتلائمة مع العالم – 26- الجنابي) (3) وهو مؤيد الراوي الذي يقول عنه سعدي يوسف ( لمؤيد الراوي فضل ُ وضع قصيدة النثر، في وقت ٍ مبكر، على المسار الجاد، مع ديوانه المرموق – احتمالات الوضوح – الصادر في العام 1974 / ص121) (4) هذه الكوكبة الثقافية والتي عرفناها ب( جماعة كركوك) تميزت (عن أدباء سائر المحافظات بنزعة أدبية راديكالية، أبرز مافيها الميل الى التغريب وكتابة الشعر المتحرر من الاوزان /ص83- سامي مهدي)(5)
(2)
إذا كانت القصيدة نتاج لحظة تاريخية، فأن نمط وجودها في التاريخ متناقض، لأنها لاتنتج إلاّ تاريخا مضادا يسعى الى مناقضة الزمن وتغيّر مظهره، وهكذا نتوصل الى ان التاريخ والشعر يشكلان اتصالية تضاد، وهذه الاتصالية اتضحت أكثر في العصر الحديث كما يؤكد الشاعر الكبير أوكتافيو باز(6) فاللغة والمعتقد والايقاع وهواجس الشاعر يمكن اعتبار كل هذه المفردات وغيرها بمثابة مواد انتاج القصيدة. لدى كل شاعر.
(3).
حين أقرأ صلاح فائق، أشعر بمهارته في توظيف ما في الوحدة السردية من طاقة ايقاعية فيستحيل النثر على يديه عاملا حيويا من ايقاع القصيدة وتوهمني القصيدة ان ما أقرأه كلاما نثريا من طراز خاص، وهو يشحن سردنته الشعرية بشحنات تخييلية وهكذا نحصل على شعر مترابط للأحداث التخيلية وفق شلوميت ريمون كنعان (7) ولنقطف قصيدة (مقبرة في رأس/ص35) تأكيدا على كلامنا :
(ظهر أمس كنت عائدا الى غرفتي، عبر مقبرة
رأيت من بعيد مظلة كبيرة ومفتوحة فوق قبر
اقتربت، اذا بيد نحيلة تمسك تلك المظلة
- لا أرى مطرا هنا . لماذا هذه المظلة مفتوحة، سألت
- المظلة ليست للمطر فقط، مفيدة أيضا لاتقاء حرارة
الشمس وأشعتها، أجا بني صوت منهك .
- ربما تحتاج مروحة كهربائية صغيرة
- عندي واحدة، شكرا على اهتمامك .
- اليوم مررت من هناك، لم أر أي مظلة او قبر أو
تابوت مفتوح :
بضعة بيوت مبعثرة ودكان صغير لبيع فواكه، حيث كان
القبر امس
- لا أتذكر هذا الدكان، اهو جديد ؟
- أبدا انا هنا منذ سنوات، أجابني صاحب الدكان
- أنا أتذكر مقبرة هنا
- مقبرة ؟ أي مقبرة ؟)..
القصيدة من سطرها الاول حتى السطر الثامن ليس فيها مايثير الانتباه فالحدث عادي جدا ويذكرني كقارىء بنصوص فرسان الرواية المضادة : الآن روب غرييه، ناتالي ساروت، ميشال بوتور وكلود سيمون .. لكن من السطر التاسع حتى نهاية القصيدة يسير بالاتجاه المعاكس للأسطر الاولى، فأذا القصيدة تبدأ ب(ظهر أمس كنت عائدا الى غرفتي..) فأن السطر التاسع فيبدأ هكذا ( اليوم مررت من هناك ).. في المرور الثاني أمحّت كل معالم المكان الاولى التي رأها ( ظهر أمس ) وهكذا تضعنا القصيدة أزاء مستويات البناء السيميائي للنص، فينتقل القارىء من المألوف الى الميتا مألوف و( الصورة وحدها هي الكفيلة بهذا التحويل/ 109- ايمان الناصر) (8) ان السرد يستعمل الحكاية لاليغذي سيرورتها الى النهاية بل ليفجّرها وفق مقتضيات قصيدة النثر في البناء اللغوي الذي ينتقل من ( المجاز البلاغي ) الى ( المجاز البنائي ) وهنا تكون النقلة النوعية من ( أقتصاد المجاز ) الى( اقتصاد الصياغة )..هل نعثر على مفتاح لشفرة القصيدة في ثريا النص ( مقبرة في رأس ) ..؟ ولنفكك الثريا : مقبرة --------------------- في رأس
إذا هي ليست مقبرة في الارض، ويمكن ان تكون ثمة مقبرة في هذا المكان وامحّت لكنها ماتزال تنبض في الزمن النفسي لسارد الحكاية، وهذه المقبرة لايراها سوى السارد الذي وحده يرى ثيران مجنحة تحوم حول بيته ( فوجئت هذا الصباح بثيران مجنحة تحوم وتدور حول بيتي في الفلبين /ص69) وهذه الثيران لم يرها الجيران والسبب ( جيراني ليسوا مندهشين ولا أحد منهم ينظر الى السماء) إذاً لابد من توفر شرطين للرؤية (1)الدهشة (2) النظر الى السماء..وهكذا يعيننا هامش في نهاية القصيدة كمفتاح لشفرة النص : ( زرتُ باب سين، الموصل في العام 1965في فترة اندهاشي بالحضارة العراقية القديمة.بعد حوار مع عدد من تلك الثيران المجنّحة، تركت لبعضها عناويني: كيف عرفت انني أقيم الآن في الفلبين ؟ /71) حتى في الهامش يتماهى الارشيف في التخييل الحكائي.. ومن جانب آخر يومىء الهامش من خلال رؤية السارد ان وظيفة الرؤيا هي تنشيط الذاكرة التذكارية الدفاقة بالزمن النفسي . .
(4)
الشاعر يستعمل الواقعي لتثبيت الميتا واقع، أعني انه يستعمل لغة التوصيل، فتستحيل على يديه مشعرنة، ويصبح الغرائبي طبيعيا ضمن فضاء القصيدة، فنصدقه حين يقول ( أنني من اتباع زرافة /ص10)..أو حين يخبرنا ( أنتظر حوتاً يبلعني، ينقلني الى أي مكان/ 8) ولكنني لاأصدقه يقول (أكتب لأني أخاف / 51)، لأن صلاح فائق يعيش من أجل القصيدة وكيف يخاف من يحب الاعالي ؟ (أحب قمم الجبال /ص50) كيف يخاف من يلوذ بالفن ضد الاسلحة؟ وحين مسلحون يطرقوا بابه، فهو لايجيب ولايفتح الباب، يكتفي برؤيتهم من النافذة، ثم يخبرنا كيف يرد على الفوهات :
(أذهب ُ الى البيانو وأعزف ُ، فيشتد ُ الطرق ُ
أطلب ُ من دب ّ يخدمني أن يفتح الباب .يذهب
أسمعهم، بعد لحظات ، يهربون َ صارخين )
في هذاالكلام الكثير من الشعر، الذي يتقن الاقتصاد اللغوي.( ينبغي جرد هذه الكتابة من شائعات النساء ومن جمل طويلة تقترب من خيول لاتصهل / ص68- دببة في مأتم ) المتكلم في القصيدة منشغل بالفن، لأنه يملك ما ينوب عن الاسلحة، في القصيدة، الكثير من الغرائبي، والامر لايختلف مع العنونة التالية (ذئب يتغطى بلحاف من زجاج/ ص75) أو العنونة التي تسبقها..(زرافة تبكي في محكمة /ص33) أما ثريا المجموعة الشعرية فهي (دببة في مأتم) وهي أيضا تشغل العنونة الفرعية الاولى في المجموعة، المكونة من(48) مقطعة شعرية مرقمة من ص7 الى ص 30
(5)
ثمة ميتا شعر، داخل الشعر، على وزن ميتا نص داخل النص السردي، صلاح فائق يخبر في المقطعّة (8) من مفصل( دببة في مأتم ) بما يلي
(كل قصيدة لي، بدايتها أنثى
كل أنثى في قصيدتي
بدايتها صوت القلم عند َ الكتابة)
نلاحظ ان الشاعر، لم يقل ( كل قصيدة )، اذا لو قال هذا الكلام لفرض تعميماَ، لكن في قوله ( كل قصيدة لي ) نكون امام تجربة ذاتية محسوسة من قبل الشاعر نفسه فقط، وفي قوله ( بدايتها أنثى ) شخصيا ارى القصيدة هنا مكانا، و( كل مكان لايؤنث لايعوّل عليه ) بحسب بن عربي..أما في ( كل أنثى في قصيدتي بدايتها صوت قلم عند الكتابة) فأننا نكون امام النكاح المعرفي وجوبا.. بين أنثوية النص وذكورية القلم، وهكذا يسهم النص بتأنيث العالم . ولايقف الامر عند هذا الحد، فهو يسعى جاهدا الى تشويش مطلق للحواس، وينجر من هذا التشويش سلما، ليقطف من خلاله الخلاص الشعري، بمؤثثات غرائبية يسعى الى تذويت العالم، وحسب أوكتافيو باز: أحياناَ تكون إزالة الأضداد جذرية، فهناك من يتخلص من مصطلحي ( أنا ) و( العالم ) مؤكدا فراغا كونيا مطلقا لايمكن أن يقال عنه أي شيء، حتى فراغه الخاص. وهناك من يرى لم يعد يكفِ تدوير الوجود ..التاريخ..الجمال وفق نظرية العود الابدي.. أما ضمن منطق الكشف الشعري، فعلينا أن نصغي في قصائد صلاح فائق للخيال السمعي حتى نفاجىء القصيدة بلا وعيها ونحن نغوص في مياهها العميقة معانقين روح اللحظة المسكونة بكائناتها
(6)
يعود الشاعر صلاح فائق للمهيمنة ذاتها في المقطعة (18/ ص108) من المفصل الاخير الذي يحمل عنوان ( فجر يبحث عن عازف كمان ) حيث يؤكد ان ( القصيدة وحدها شلال محاط بشرطة/ ص109) والتعريف يمكن ان يعني ان القصيدة تتفرد بحرية الطبيعي المطلقة التي لايحدها حد كشلال منهمر بدويه الصخّاب، لكن حرية الشلال هنا مطوقة بقمع السلطة. والقصيدة تتساوق مع الأنا والآخر، في المجاهرة المحتدمة أحيانا
(أنا وأنت والقصيدة
كل واحد
مثل أمرأة ترقص في شرفة
ككلب يركض طول ساحل / ص108)
أو كمحاولة خرق المغلق نحو المفتوح ( أو كسجين يلقي رسالة من زنزانة )
ثم تتبادل الادوار في هذه اللعبة
(أنت والقصيدة
تشبهان تفاحة منسية
كميت منذ أسبوع في طريق جبلي
وكقطار ضائع)
(7)
تتوزع المجموعة الشعرية الى خمسة عنوانات أربعة منها ،كأنها اقفاص تحمل حيوانات ٍ
القفص الاول يحمل دببة ( دببة في مأتم )
القفص الثاني ( زرافة تبكي في محكمة )
القفص الثالث ( حتى تطير ثيران مجنحة )
القفص الرابع ( ذئب يتغطى بلحاف من زجاج )
العنون الخامس( فجر يبحث عن عازف كمان )
والشاعر مهدد بسبب هذه الحيوانات ( أتلقى كل يوم رسائل تهديد من مدافعين عن الحيوانات /ص113) والامر لايقف عند هذا الحد..( أنا مع فريق من المنقبين داخل أحدى قصائدي
لنحقق في صحة شائعات عن مشاهد مهربين، في بعض مقاطعها وهم يحملون غوريلات صغيرة في أقفاص حديد ).. والشاعر لاينفي هذه التهمة الغرائبية، بل يبررها بمنطق الكشف الشعري..( كنت أظن الحيوانات في قصائدي من السوائل ).. ويبقى الشاعر مهموما ضمن هذا الفضاء الاتصالي بين الشعري في القصيدة وتناوله الشعري للحياة لذا لايتردد عن اخبارنا
( أليّ تأتي كلمات أحبها، تحملها نمال، أعرفها تمر في كل مرة من أودية مخصصة لباشق في بطنه حفنة تراب من قرية عصرت أمامها زيتونا قبل نصف قرن فصفق حطابون تكريما لي/ ص89) أراني أمام جملة شعرية تركيبية، تستحق تكرار قراءة ،لأتذوق مافي مخيالهامن ثراء شعري باذخ أو في منطق الطير لدى الشاعر( كذلك تشغلني سمعة اللقالق في هذه البلدة /ص115)..وكأننا في حكاية مكتوبة للأطفال الذين لن يكبروا،وعلينا ان نقتنع حين يخبرنا الشاعر( فوجئت هذا الصباح بثيران مجنّحة تحوم وتدور في بيتي في الفلبين / ص69) ولا أحد سيراه أو يصدقه حين يخبرنا(كنت ُ مع سنجاب نشرب نبيذ الرز/ ص27) ( وفي سنترال بارك شاهدت دبا يرقص باكيا ) وهكذا يمنحنا الشاعر درسا في كيفية تناول العالم شعريا.. فيكون تعاملنا مع الواقع كحلم لااعتراض على مايجري فيه، وتكون رسالة الحلم طوع قراءات متصارعة أو متحالفة، ولنفعل كما فعل الشاعر( أبدأ بقلب جملة بعد أخرى على ظهرها .سيكون عليّ استئجار أحدهم اذا حلّ الليل ولم انته /ص88) ولن نكذب شاعرا مثل صلاح فائق، فهو يريد بقوة الشاعر تقليص البرزخ بين الذات - الموضوع حين يقول
(في أحدى قصائدي
ضبعٌ يخدم أمرأة ً تلد ُ في شقتي / ص29) وسيكون الامر ذاته في قوله :
(أكتشفت في أحدى مناماتي أن لذئب أعرفه ُ
أخا تعثر بيّ في ليلة مقمرة
وكنت ُ عائدا من جزيرة بعيدة بعد أن قايضت ثورا بأرملة /ص87) ليس لأن الشاعر يسرد حلما علينا فنحن نصدّق حلمه، بل لأن شعرية السرد وترميزتها سنجعلنا نفتح أعيننا على سعتها مبهورين بالسارد والسرد..وسيكون الانبهار حين يكمل علينا حكاية الحلم التي ستتحول الى حكاية ذئب تعثر بشاعر هو صلاح فائق تحديدا، فهو لو تعثر بشاعر عمودي لحاول الشاعر
ان يحاكي البحتري وهو يصف ذئبا، ولو تعثر بأنسي الحاج لعانقه فرحا، لأنه ذئب تلك الحكاية في قصيدة (الذئب – ص112- ماذا صنعت بالذهب ) ( 9 )، أما صلاح فائق، فسيبرر عدم اعتذار الذئب
(لم يعتذر وفهمت من سلوكه الصلف
عذاب مسافرين أحترق خانهم وهم نائمون
فهرعوا يقفزون من السلالم والنوافذ ونسوا حقائبهم
وكانوا محاطين بذئاب تعوي بنشاط منهم هذا الاخير )!! إذن الذئب من المتخمين ، منتهزي كارثة الحريق ،الذين أكلوا مسافرين متقافزين من النار ، فاذا بهن لسوء الحظ يسقطون
في مذأبة !! كم في هذا الحلم من رؤيا قابلة للتأويل ؟!
والقصيدة الاخيرة للشاعر متماسكة بقوة التشظية، محورها التشتت الجميل،في كل السطر
الشعري. وهذا مايثبته الشاعر في المقطعة المرقمة (19)
(قصيدتي الأخيرة
رسائل ممزقة في شرفة .
صرير باب لا أراه
هوس التطلع الى ستائر نوافذ
قراءات عن أرواح في البراري
معجزة الاستيقاظ من النوم
منجمون يحتضرون أمامي
يدي الضائعة في هذه الصحيفة أو تلك :
قصيدتي الأخيرة .) ومن أجل اكتشاف الواحد علينا ان نتأمله في المتعدد ، ويكون تأملنا بنبرة خافتة ،لنتأمل عميقا في المهمل واللامكترث له : مزق رسالة، صرير باب، هوس، يدي ضائعة..بهذه الهوامش ينبض المركز
----------------------------------------------------------
*المقالة منشورة في جريدة الزمان /24/ 9/ 2014
ا*المصادر
(1)صلاح فائق / دببة في مأتم – منشورات الجمل – بيروت – بغداد – ط1- 2012
(2) عبد القادر الجنابي/ قصيدة النثر وماتتميز به عن الشعر الحر/ منشورات الغاوون / بيروت/ ط1/ 2010
(3) نفس المصدر
(4) سعدي يوسف /أنا برليني / دارالتكوين / دمشق/ ط1/ 2011
(5) سامي مهدي / الموجة الصاخبة/دار الشؤون الثقافية/ بغداد /ط1/ 1994
(6) أوكتافيو باز / أطفال المستنقع / الشعر الحديث من الرومانسية الى الطليعية/ ترجمة أسامة أسبر/ دار التكوين/ دمشق/ ط1/2012
(7) شلوميت ريمون كنعان /التخييل اللقصصي – الشعرية المعاصرة /ترجمة لحسن حمامة/ دار التكوين/ دمشق/ ط1/2012
(8) ايمان الناصر / قصيدة النثر العربية – التغاير والاختلاف / الانتشار العربي/بيروت/ ط1/ 2007
(9)أنسي الحاج/ ماذا صنعت بالذهب ،ماذا فعلت بالوردة/ دار الجديد/ بيروت/ ط2/1994