سلطة الذاكرة وكائن نهاية التاريخ

2012-07-15

 يرى الآخرون

قراءة خالد زغريت

الحساسية الجديدة التي يخلعها القاص العربى الحديث من روحه عل جسد القصة ويغلغلها في كل خلية حية منها تحفز القصة في بنيتها إلى البحث الدائم عن حالة تسوية مع بنية القصيدة لمساواة حساسيتيهما. وطالما علت الأصوات لتكسير الحدود والتخلي عن حراسة الأجناس تحت رغبة الكتابة المفتوحة.

ونتيجة لهذا الولع بالتجريب والتجرد من صفات التجنيس غزت ساحتنا الكتابية موجة من القصص المنفجرة على عمود القص وأفقه المعهود والمستحدث على أن مثل هذه التجارب لتمتلك من النضوج والوعي والموهبة ما يقنع بوجودها البديل.

لكن مهما اضطربت هذه التجارب إلا أنها أبقت القصة العربية الحديثة على تشوفات حيوية لبنية تتجاذبها القصيدة روحا وجسدا.

وفق هذا التقييم يمكن الدخول إلى العالم الكتابي لقصص "زهرة الأنبياء" للقاصة سالمة صالح حيث تنتمي المؤلفة في كتابتها إلى أسرة إبداعية منتشرة كنجوم السماء العربية العريقة بحزنها، تستمد روحها من الآهات المعذبة لتتملاها وتمتلئ بها ومن ثم تبثها ضوءا خفيفا. بتعبير آخر مجموعة الكتاب العرب الذين صودر منهم حتى الهواء فباتوا يعيشون منافيا متوالدة. وأصبحت الكتابة لديهم حالة من استعادة الروح ..الهواء..الوطن..معنى الوجود..بهذا المستوى تكتب سالمة صالح قصتها فالكتابة عندها لحظة نادرة في ممارسة الحياة دون موت.. دون استلاب.. وهذا ما جعل قصة سالمة صالح هوية وجودية في نسيجها الكثير من الحلم تعويضا عن الواقع المفقود. وبالتالي تصبح القصة صورة بلا حدود للذات الموزعة بين الذاكرة والحلم، ووسيلة القاصة لردم الهوة أو الثغرة الفاقعة في المعنى الوجودي لكائن القصة والمتجسد بقفزة من الماضي إلى المستقبل تجاوزا للثغرة - الحاضر - العدم الوجداني. وسيلتها في ذلك المبنى الشعري للقصة وهذا ما يفسر تقنية القصة المنفتحة عند المؤلفة إذ ما نحظى به هو حكاية الذاكرة المنقطعة عن الحاضر بمعنى انفتاحي. أي تكمل دائرة حدثها الدرامي في المستقبل أو في مخيلة المتلقي، أنظر قصة الجبل، غزال.

وقصة سالمة صالح مكتوبة بمخزون ماضوي للذات..للغة..للقصة. فهي تَجلٍ لسلطة الذاكرة..تتلاشى المؤلفة وتغيب لتحل محلها ذاكرتها التي تدل عليها.. تمشهد روحها في ظلال الذاكرة في نص القصة..نص الذاكرة. وهذا ما يجعل الذاكرة تقوى على السرد وعلى أنا المؤلفة الآني والتي تضمحل حتى الهمود، تمنح حياتها حيويتها لطيفها المخزون في طيوف الذاكرة، تلمس دفء وجودها معناه من علائقها الماضية بالأشياء، فهي تستحضر معنى وجودها.. ذاتها باحياء سكنى وكائنات الذاكرة ومسرحها.

وهذا يفرض على السرد حالة وصفية خطرة مخشي جانب الانزلاق فيها إلى الإنشاء..الذهنية التركيبية. لكن لأن القاصة تستحضر بذاكرتها كيانها. حيوية وجودها فإنها تمنح روحها .. وجدانها .. شعورها ولا شعورها للوصف ليغدو معنى حياتها.. صورته. وهذا ما يجعله مخاطب الحيوية ومفعما بروح شاعرية تجعل المشهد القصصي الوصفي لوحة شعرية نابضة بالايحاء والدلالة والرؤى لأنها مضمون مخيلة ماهيتها انسياحها لا رسومها. أنظر قصة بيتنا، كيف تنبعث صورته بأنسنة درامية حتى يكاد كل جزء منه يحكي عن خلية في جسد المؤلفة.. بكاءاتها الموزعة أقمارا في منافي العرب الزرقاء كما في قصة ما من طريق يسلكه المرء مرتين حيث تقول المؤلفة "تنبعث في الذاكرة من جديد سحب الدخان ورائحة الخبز الساخن وطعم الانتظار لطفل نافد الصبر.... والمؤلفة ليست مغتصبة بذاكرتها إذ هي مدركة تماما بأن قصتها نص ذاكرتها، لذلك أتبتت تحت عنوان القصة بين قوسين عنوانا فرعيا آخر هو اسم قصة يقظة الذاكرة لكنه في الحقيقة جوهر الفعل القصصي في المجموعة ومداه، وتبرير هذا التبادل بين المؤلفة وذاكرتها نتيجة الاغتراب الذي تعيشه المؤلفة عميقا وفسيحا، ولكي لا تنمحي وجوديا لا بد لها من المناهضة.. من أجنحة .. للسمو على الموت وكانت الذاكرة استعادة الروح والتئام الوجود. لذلك نحس بلغة سالمة صالح بأنها مجموعة عوالم، فهي تخترق صورتها اللسانية وحقولها الدلالية لتصبح الجملة بتتابع مجموعة كلماتها عالما لا يحد. فالكلمة وطن..ماض..حلم..شهادة..عرس..وجود متكامل تستعيض به القاصة عن وجودها المقموع والمغيب "ألتفت ورائي فأرى هضبة خضراء عظيمة تحجب ما وراءها. خضرتها هي خضرة عشب الربيع الغض، خضرة متناسقة لا يخالطها لون آخر. بضعة أشخاص ينحدرون فوقها هابطين. تقول أمي: إنهم عائدون. لقد دفنوا ميتهم. أتمنى لو أن أمي غيرت طريقها وسمحت لي بارتقاء تلك الهضبة.

مسقط مائي في مكان ما من قرى الشمال، نتوقف عنده، ثم نمضي في اتجاه انسياب الماء بضعة أمتار، نرتقي درجات ثلاثا إلى أرض مستوية مربعة تشبه مسرحا. أين كان ذلك؟ لم تكن الذاكرة قد نضجت بعد لوضع كل صورة في إطارها ومكانها الصحيحين. لقد أخذت مكانها خارج النظام الزمني، وبقيت هناك."

إن في قصص سالمة صالح خشية الذات من زمنها، مما يجعلها دائمة التوق لتكسير معنى الزمن للخروج به إلى اللاتراتب، بل إلى التداخل وإعطائه حساسية شاعرية بالمشهدية القصصية لتكوين وعي خارق به. تكوين شعور تخيلي يساعد الكائن على الإحساس بمعنى وجوده الزمني وبالتالي الاتزان النفسي الذي يهيئ الكائن لتفسير اغترابه ومواراته للشعور العدمي الذي يكرس التأزم المطرد بفعل فقدان المبادئ الفكرية.. الفنية، الوجودية، للانضباط بصورة ثابتة نتيجة طبيعة حركية العالم بلولبية تهديمية إلغائية بالعموم لا تحولية بالمعنى التطوري وبالتالي يبقى الكائن في مهب الريح وليس له إلا الفهم الشعري احتراسا من المحاكمة العقيمة والجدل البيزنطي الذي سيتصف به تأطيره وفهمه العالم المنجرف إلى الغابة النرجسية المعتمة وراء ضجيجه الميكانيكي نحو العزلة والتصحر وانفلاش الأنا فيه حتى التلاشي، مما يجعل الحياة بلا طعم ولا لون وغير منسجمة مع أي تأويل. "لقد مرت سنوات أخرى، سنوات طويلة، ها أني أمر وأنا عائدة من المدرسة أمام امرأة تقترب من الشيخوخة، تقف بباب موارب فألقي عليها التحية، ترد تحيتي بوجه جامد، معلمتي الأولى، إنها لا تتعرف فيّ على الطفلة التي كنتها. بعد حين أشعر أن تحيتي فائضة وأنني ربما جرحت وحدتها فأوفر عليها هذا العناء."

إن شخصيات قصص زهرة الأنبياء بقدر ما هي فاقدة لإحساسها بكمالها الوجودي بقدر ما هي مفلسة وجوديا لأنها تجسد كائن حضارة الجثث، حضارة اليباب، حضارة الإنسان الروبورت، إنها شخصيات لا تدل عليها |إلا ظلالها التي تشير إليها بحسرة ذاكرتها، شخصيات يقظة الذاكرة. نعاين ذكراها.. طيفها وحسب... إنها شخصيات البرزخ..حلمها ارتدادي نحو الذاكرة.

وهي لا تقوى على مقاومة هذه الغواية لأنها ظل، أو طيف لكائن وقف عند نقطة زمنية محددة، أي يعيش ما بعد التاريخ.. نهاية التاريخ.

ولعل ذلك ما يحفز أكثر على إعادة قراءة زهرة الأنبياء، لأنها تصدر عن حالة إبداعية معقدة.. لأنها وليدة عقدة حضارية وأزمة إنسانية مبهرجة تسمى حضارة نهاية القرن العشرين. وهي على العموم قصص مشكلة لأنها تحمل إبداعات يجب كشفها وقراءة مرموزيتها ودلالتها ومكاشفة فنها الكامن ومخزون أسئلتها الإبداعية الغامقة الاستفهام.

 

جريدة السياسة الكويتية

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved