أضواء على مسيرة الشاعر ألفريد سمعان
الشاعر والمناضل في الفريد سمعان، لايمكن التفريق بينهما فاليد التي ترفع اللافتة هي اليد الملوحة لنا بأخضرار قصائدها وهذه اليد الندية سنبلة دائمة العطاء في الذاكرتين، ذاكرة النضال وذاكرة الشعر .. والشاعر في المناضل الفريد سمعان كرّس قصيدته ومايزال كخطاب اجتماعي جمالي يبث رسالته بإنحياز طبقي واضح الابعاد ولاعيب في ذلك وهذه قناعة شخصية نحترمها فيه، ولم يتوقف النشاط الثقافي للشاعر عند القصيدة، فهو جرّب الكتابة المسرحية والقصصية، وتعامل مع الجنسين الادبيين مثل تعامله مع القصيدة .. فاتحتُ الشاعرالكبير وجها لوجه، ان يكتب مذكراته واقترحتُ كتابا حواريا أجريه معه ولكن...مشاغل الشاعر الفريد سمعان .. هي السبب في تعليق هذا المشروع الذي اراه مهما جدا، خصوصا وقد خطى الشاعر خطوات في هذا المجال ،عبر مقالاته في جريدة ( طريق الشعب )..
(1)
(السنبلة ) .. كتاب شعري يحتفي بالحياة، ولايرى الوجود إلاّ إخضرار دفّاق، وهذه الرؤية ليست تأملات من نافذة عالية، بل هي خبرة من أكتوى بعذابات المناضل في دروب الحياة ومنعطفاتها المدلهة.. منذ أكثر من نصف قرن عراقي محتدم ومكتظ بالسجون والاحتراب والاصطراع بين اطياف الحركة الوطنية من جهة .. هاهو الشاعر يعزف على قيثارته وجيز سيرته الشخصية :
(سوف تروي دون جدوى
شهقاتي
بعض مامر
وماسارت عليه خطواتي
في كهوف الرعب
ألقتني أيادي الغدر
نالت مبتغاها
بعد اجيال تناءت
واتاني
أمل يطرق ابواب حياتي
ويصوغ الشمس
أكليل احتفال وتهاني
لم يعد في غابة الاهوال
ما أخشاه / ص73- نشوة التحدي )..في هذه العينة الشعرية، يشعر المناضل وجيز سيرته النضالية خلال أكثر من نصف قرن من الثبات في حضرة زهرة الرمان، فهو ذلك المناضل الفتى، السجين في زنزانة مجاورة لزنزانة ( فهد) سكرتير الحزب الشيوعي العراقي.... ولايكتفي بذلك فهو المؤرخ الشعري للمسيرة زهرة الرمان وفي ( هم يعرفون ) القصيدة والثريا لمجموعته الشعرية، يفتتح القصيدة بما يتقوله الآخر، الذي لايجيد في حياته سوى الانتقادات :
(يتساءلون
ولربما يتندرون
بحيرة يتساءلون
ماذا فعلتم
طيلة السنوات تحت مظلة الاهوال / ص18- 19)
ثم يطرّز الشاعر كلماته بملاحم انبياء الدرجة الثالثة، أولاد الصرائف وأكواخ الصفيح المضلع، مَن حوسمت الحكومات اعمارهم منذ قيام الدولة العراقية الى مابعد الآن .. الشاعر والمناضل الفريد سمعان يعطّر فمه وحياته بالبيرية المسلحة لنائب العريف قائد انتفاضة 3تموز 1963 وستعرف الانتفاضة باسمه فهي ( حركة حسن سريع ) التي تضم ( مجموعة من الجنود وضباط الصف، عاملين ومتقاعدين وهاربين، وكان بعضهم عمال مدنيون بزي الجنود ويجيدون استخدام السلاح / ص72- دكتور علي كريم سعد)..ويأخذ حسن سريع صورة المخلّص العراقي فهو نتاج مراكمة الخبرة الثورية للمسيرة الوطنية، وهو التحدي الأكبر بعد مايقارب خمسة أشهر على مجازر 8 شباط 1963 :
(وتجمعون من كل حقل زهرة ً
من كل نبع قطرة
من كل ثغر نغمة
من كل تنور رغيفا
ومن ذكرى الاباة الراحلين
منابع الفكر الجديد
وغضبة الانصار
والبطل الشهيد حسن سريع
أنشودة تتوزع الأشجان فيها
وتعلن الصرخات جذلى
انه آت
مع ريح الكرامة والرؤى
الخضراء
فجر الكادحين
آت ربيع الانتصار
محملا بأريجنا الثوري
آت على الصهوات
عبر مسيرة الفرسان يحتضن
النبؤات الجريئة
والتباريح المضيئة
يرويه فكر مناضلين تزاحموا عبر المسافات
البعيدة والسنين
كانوا ومازالوا قناديل الكفاح / ص20-21)
الشاعر الفريد سمعان هنا، يكتب ألياذة اليسار العراقي برعاية زهرة الرمان، وهي كتابة المساهم في سقاية الزهرة والمدافع الدؤوب عنها، فليس للشاعر سمعان غير قميص الجلنار الذي صار بشرته وعنوانه وعمره الدفاق وفي قوله الشعري لايتقنع بأقنعة الشعر، بل يعلنهاعالية كصواري السفن، هاهو يصرخ مثل ناظم حكمت وبابلو نيرودا وتوفيق زياد وسميح القاسم وجيلي عبد الرحمن، وهوشي منه :
(أننا أقوى من الموت
أعلى من مشانقهم
نوزع حبنا للخير والقيم النبيلة
تحميه أسوار الشغيلة
والشعوب
واننا
شيوعيون
تحتفل الرعود بصوتنا
شيوعيون
تلتمس الملاحم صبرنا
شيوعيون
تفتخر الشموس بفجرنا
شيوعيون
تمتلىء المروج بوردنا / ص23)..
وهذه القصيدة تبث ايمانها الأيدلوجي المطلق وتذكرني بقصيدة له قبل ثلث قرن وهي ( أحزان القمر الدامي ) والمسكوت عنه في النص ان القصيدة تخاطب المناضل السابق عزيز الحاج، الذي أعلن تنصله على شاشة تلفزيون بغداد/آيار 1969 يومها كان عزيز الحاج سكرتير (القيادة المركزية) : التنظيم الذي انشق عن اللجنة المركزية في (7- أيلول – 1967/ ص367/ بهاء الدين نوري )، ومن المنشقين معه : سامي أحمد، بيتر يوسف، همام عبد الغني المراني، محمود أحمد الحلاق، خضر سلمان، حازم جميل وغيرهم... ويختم الشاعر والمناضل الفريد سمعان ، قصيدته :
(أنت لم تطفىء عيون الحزب
أطفأت عيونك ..)..
والجانب الأرشيفي هنا ان للقصيدة وظيفتها التاريخية، فهي تتغذى من حدث موجع، من انهيار قائد شيوعي، تمرد على المسار ثم تخلى عن تمرده بشكل موجعٍ، في عام 1969..ان الفكر الماركسي الملتزم حزبيا، بالنسبة للشاعر الفريد سمعان، هو وعي الانسان الذاتي .. يقظته الذاتية في نبض العالم.. والنضال هو نبض الشاعر والعالم معا، وهو مصباح وعي العالم وهذاالمصباح هو بمثابة الاختصار الموسوعي للعالم وقيده الاخلاقي الاروع، في النضال رأى الشاعر والمناضل سمعان : اتصالية الانسان الحميمية مع العالم الفقير.. وحده النضال مَن يمحو الانفصال بين مواطنة الانسان وكدحه .. لهذه الاسباب تواصل الشاعر مع النضال من خلال الشعر كوظيفة اجتماعية – جمالية..
(2)
بطريقة شعرية غنائية، يمنحنا الشاعر الفريد سمعان درسا في محبة الحياة الدفاع عن السنبلة والوردة .. رمشة الشمس .. زقزقة الشجرة .. طراوة الهمس الناصع، شفافية العشب .. يطالبنا ان نتعلم حكمة الماء في خيوط الريح
(حين ترتاد خيوط الريح
أثداء النواعير
وتجري خطوات الماء في الوادي
يغيب الشوك
تصحو فرحة الاطيار
بعد الصمت
تمتد عناقيد السواقي
ويعود العشق للأرض
فيكسو وجهها العشب
تغنيها الفراشات
وتنمو
ثم تنمو
السنبلة / 1-2)..
الصورة الشعرية تركز على فاعلية الحركة ( ترتاد ) بهذا الفعل المضارع ولهذا الفعل بصمة دائمة في كافة قصائد الشاعر فهو فعل السيرورة الدائمة، فاعلية الديالكتيك، والريح في القصيدة : ذات قوة خيطية، اذا هي ريح هادئة الخطوات وموجبة في انتاجيتها.. والمحذوف من الصورة، ما حدث قبل ذلك ( بعد الصمت ) وكان سببا للجفاف .. للماء قوة الممحاة وترسيم ما بعد المحو :
(تجري خطوات الماء في الوادي
يغيب الشوك
تصحو فرحة الاطيار
بعد الصمت
تمتد عناقيد السواقي
ويعود العشق للأرض )..
نلاحظ كيف ان الشاعر الفريد سمعان ينوّع في المنظور وهو يلتقط صورا مائية :
*أثداء النواعير
*خطوات الماء
*عناقيد السواقي
ولايكتفي بذلك فإذا كان الماء صوتا طريا، فأن لهذا الصوت صداه أيضا، وسيكون الصدى
شعريا : ( يعود العشق للأرض – فيكسو وجهها العشب – تغنيها الفراشات – تنمو ثم تنمو السنبلة )...يلي ذلك فاصلة شعرية، ينتقل النص الشعري فيها من شعر التفعيلة الى عمود شعري شفيف، وعلى المستوى الاسلوبي تكون النقلة من الصورة الشعرية الى حوارية من خمسة أبيات
لاتخلو الحوارية من ارتداد الى زمن نفسي ينتهي يتساءل موجعا :
(وهل تستفيق شفاه الربيع
وقد خيّم الملح فوق السواقي ) وهذا التساءل خال من ترسيمة علامة الاستفهام (؟) ثم تعود سيرورة النص الى شعر التفعيلة بشحنتها الخضلة المشرقة بالمحمول التالي : رعشات القناديل – الايماءة الحلوة – صدور الكادحين – تغسل الآهات – توارى صدأ الاشجان – ثم تنتهي القصيدة بهذا النور الكلي الأخضرار :
(أورق النعناع
هذا المطر القادم
يأبى
ان يرى الأنجم في أسر سحابه
سيف النور
يجرح الظلمة
يعطي للغد الآتي
إهابه)
هنا تنتهي القصيدة الاولى، فقد اكتملت الصورة الشعرية الزاخرة بقامة السنبلة..
مايلي ذلك في القصيدة ،تكون وظيفته مراكمة تعريفات للسنبلة ذاتها..والشاعر المناضل يدرك جيدا...(كل الجسور تهاوت
وأمسى الطريق الى النبع
مزرعة للأفاعي
وكل النتوءات فوق الرصيف
عيون
وكل الاصابع صارت
لهاث بنادق
وحبل مشانق )
الصورة المعتمة لاتكتفي بالعام فهي تغمر الخاص بعتمتها ايضا :
(وجدران بيتك
كل زواياه ...
أمست بطاقات سوداء
تحمل اسماء كل الذين رأيت
وكل الذين عرفت
وما لم تجدهم
على صفحات الرسائل / 13)..
وهكذا تصاب الحياة بتعليق فينومينولوجي..لكن الشاعر يكون في قارب نجاة منحوت من شجر مكابداته :
(لأني أرى في السفوح
جمالا يفيض
وملحمة ..تعبر النزوات
الرهيبة
وألمح بين حشود الرزايا
شموعا
تشيّع قافلة النكبات
وألمح
تحت رماد اللهيب
ربيعا
يقمّط أبشع عاصفة للشتاء
ويكتم انفاس
كل الغزاة / 14)...
هل التفاؤل استراحة الشاعر المناضل ؟ فالشاعر يرى مايحدث وماسيحدث ايضا، فيزداد ألما ودمعا :
(انا لاابكي على نفسي
وأبكي
عندما تشتد دقات الطبول
حين لاتفلت من انشوطة الرعب
الخيول
عندما أنصت
في الليل
ولا أعلم
ماكانوا يقولون ؟
ومن كان يقول...؟/ 15- الوجع).. وماقاله في (السنبلة) عام 1999 سيراه ثانية في 2013
ويفضحه شعريا :
(لاتغمضوا أجفانكم
يا ايها الحراس
عما يدور في اغوارهم
يقايضون
حبكم للنور بالاكفان
يصنعون من اشواقكم
جسرا الى مرافىء العهر
وقتل الابرياء
ويرسمون للرعب تقاليد
وللرب مزامير
ويحرقون نغمة الايمان
بالقنابل المعربدة / ص53- اليك سيدة النجاة)..ويواصل الشاعر ابحاره صوب المستقبل ..
(توعدت ُ أمسي
ألاّ يعيد نشيج النواعير
أو يستعير ثياب الحزانى
وألاّ يمهد دربا
لنعش الأضاليل
أو يرتدي رعشة المستغيث/ص43- لهاث الحرائق )..
(3)
مع كل هذا الحراك الاجتماعي الذي يسهم فيه فثمة غربة يكابدها الشاعر، ولا أحد يقتسمها معه أو يخلصه منها، غربة لاتفضحها سوى غوايات القصيدة :
(وحدي يعانقني الصدى الدامي
وتحضنني الغيوم
حدقات أسفار يراودها النواح
تجاذبت أنفاس عمري
الجرح أطبق راحتيه)
(ترقد في ضلوعي
حزم من الآهات
تخذلني- ص67- أشرعة الاماني/ هم يعرفون)
(هل أتعبتك الليالي
وأطفأت اشذاء روحك
لفحة الآهات
والظلمات
وأجراس القيود التي
نامت على كتفيك /ص97- الليالي/ الطيور)...
(4)
لن يقهر وحدة الذات إلاّ العشق فهو يذوّب ذلك الجليد البنفسجي، ويزوّد المقهور بأجنحة الفراشة :
(تعشق الارض مزامير المطر
ترتوي الانهار
تخضر سلال الحقل
تصحو قبرات الصبح
يخلع الشاطىء ثوب المحل
ترتاد البراري
خطوات الخيل
والغزلان
تهفو
لطقوس العشق
أسراب العصافير
ورفات الوتر / ص47- 48/ السنبلة )
ولايتوقف الامر عند الاستعارة والمجاز فالبوح يختزل المسافة بمفردات طرية كالوردة ولامعة مثل كوكب الزهرة
(تمهلي
لاتبعدي الربيع عن سنابلي
هذي يدي قلادة
للعنق الوردي الذي يغفو على صدري
ويغريني حفيف ُ الهمسات
خداك نجمتان ينثران النور والانغام
وشاطئان تسبح الاشذاء فيهما/ ص15- هديل العاشقين / الطيور)..
وهكذا ان الحب والنضال هما جناحي الشاعر والمناضل الفريد سمعان وبهما يحلق في يوتوبيا
دائمة الازهرار ....
* المقالة منشورة / طريق الشعب / 30-10- 2014
*المصادر
*الدكتور علي كريم سعيد/ البيرية المسلحة/ حركة حسن سريع وقطار الموت 1963/الفرات للنشر والتوزيع/ ط1/ 2002
* مذكرات بهاء الدين نوري / دار الحكمة / لندن / ط1/ 2001
*الفريد سمعان :
*السنبلة /لاوجود لأسم دار الطبع/ 1999
*هم يعرفون/ دارئاراس / اربيل /ط1/ 2010
*التعب المسافر / دار ئاراس / أربيل / ط1/ 2006
*الطيور/ دار الأديب/ عمان / ط1/ 2013