من الصعب التمييز بين المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر للشؤون السياسية والأمنية وبين حلبة ملاكمة "للشؤون الرياضية".
اللكمات ضد نتنياهو من أعضاء الحكومة المصغرة ( وغير المصغرة أيضا ) لا تتوقف، نتنياهو يردّ بدوره ولكن حتى الآن لا نعرف من سيفوز بعدد النقاط لأنه يبدو ان الضربة القاضية في حلبة السياسة والأمن الإسرائيلية غير قائمة. حتى اليسار لا يجرؤ على المشاركة في حلبة الملاكمة السياسية، مختارا الاذناب، بمثابة "جمهور مشجع" لرئيس الحكومة، لعلّ وعسى يوجه نتنياهو ضربة قاضية لأحد شركائه وتفتح بذلك الأبواب واسعة أمام انضمام المذدنبين من حزب العمل للحكومة، إذ يبدو انه الطموح الوحيد لقادة حزب العمل في هذه المرحلة الحرجة، واهمين انهم قادرون مع نتنياهو "المعتدل" على تغيير نتائج "لعبة الشطرنج" العسكرية لمصلحة إسرائيل في الصراع ضد الشعب الفلسطيني. يبدو واضحا الآن ان قادة حزب العمل يرون ان وصمهم ووصم حزبهم باليسار، في هذا الوقت من الصراع القومي لإسرائيل بفكرها الصهيوني، ضد الشعب الفلسطيني هو أشبه بالإصابة بجرثومة "أبولا" القاتلة ( او انفلونزا خنازير جديدة ) .. لذلك يهربون قيادات وحزبا الى أحضان بنيامين نتنياهو... ولكن الجراثيم في السياسة اكثر عنفا قاتلا من جرثومة "ابولا" الإفريقية. هذا الدرس فات موعد تعلّمه على حزب العمل، لو طلبوا نصيحتي كنت أقترح عليهم الحلول مكان أفيغدور ليبرمان في بناء تحالف سياسي مع ليكود نتنياهو... بذلك يحققون إنجازا هاما لمواطني الدولة بتخليصهم مرة والى الأبد من أوهام وجود حزب يساري اشتراكي.. جعل من تعبير "يسار" كلمة مرادفة للخيانة القومية في إسرائيل!!
نتنياهو بالكاد ينقذ نفسه من ورطته في العدوان على قطاع غزة متوهّما ان "العتمة أصبحت على قدر يد الحرامي"، لعل أكبر إنجازاته في هذه الحرب تكون ليس بقتل قائد حماس، بل بقتل أوهام وجود حزب يساري سياسي منافس لليمين واليمين الفاشي في إسرائيل!!
كل العقلاء في إسرائيل يقولون ما قاله الشاعر العبري نتان زاخ: "إسرائيل أصيبت بالجنون، ايضا حماس جنّت، ولكن بمستوى أقل من إسرائيل"، يضيف زاخ: "انه لا يكتب للصحافة خوفا من أن يُعتدى عليه بالضرب، وان رئيس الحكومة لا يتشاور مع الأدباء، لأن ما يعنيه استطلاعات الرأي وليس رأي الأدباء".
في آخر ما سمعناه قال نتنياهو انه يريد خلق "آفاق سياسية جديدة"، مما يفهم منه انه تهديدٌ لشركائه بأنه يريد إقامة إطار حكومي جديد من قناعته ان ائتلافه الحالي بلا آفاق، وقد صار أشبه بحارة "كل مين إيدُه إلُه". لا أظن ان نتنياهو بما يعرف عنه من تصلّب توراتي متمسّك بالاستيطان يعني أي شيء آخر بجملته عن خلق آفاق جديدة. انه ليس رابين.. وحتى ليس شارون!!
السؤال هو: هل يملك نتنياهو جرأة على تغيير نهجه لخلق "آفاق سياسية جديدة"؟ وهل كان يعني بخلق آفاق سياسية جديدة تغييرَ التعامل مع الشعب الفلسطيني من العداء والعدوان الى الحوار والتفاهم، ام خلقَ حكومة جديدة أكثر انصياعاً لنهجه العدواني، وهو الأمر المرجح؟ على الأقل لا معارضه من اليمين، واليمين المتطرف، مما يجعل نتنياهو يبدو يساريا راديكاليا وهو أبعد ما يكون عن أيّ فكرٍ تنازليٍّ وسلميٍّ او مصابٍ بلوثةِ اليسار الصهيوني. نتنياهو هو الأكثر إصرارا على خلق وقائعَ تخدم منطلقاته اليمينية التوراتية من سائر التيارات.
في إسرائيل من الصعب الحديث عن تيارات سياسية، خاصة في اليمين، كلهم في صاع واحد وعقلية أصولية استبدادية واحدة، ولولا بعض القوانين التي تلاحقهم لكنا عرضة لجرائم لا تخجل أي تنظيم أصولي بمستوى "داعش"، اذ لم يبق من تيارات غير يمينة الا أيتام يريدون "المشاركة بالطعام على مائدة اللئام".
حتى لا أُتّهمَ بالمبالغة بإطلاقي صفة "داعش" على اليمين الفاشي والديني المتطرف في إسرائيل، هناك كتاب يوزعه اليمين الديني، يحمل اسم "توراة الملك" (التوراة هي العهد القديم، وكلمة توراة بالعبرية تعني أيضا "نظرية") يشرح كتاب "توراة الملك" متى يجوز قتل "الغرباء" ("الغرباء"- جوييم بالعبرية- حسب التعبير العبري هم غير اليهود، طبعا الفلسطينيون على رأسهم بحكم أكثر الغرباء قربا من بيت الأفعى).
كتب رئيس المدرسة الدينية "عود يوسف حي" ( يوسف ما زال حيا) الحاخام يتسحاق شابيرا، في كتابه "توراة الملك":" يمكن قتل كل غريب يشكل خطرا على شعب إسرائيل، حتى لو كان ولدا او طفلا"، وهناك أقوال أخرى أكثر بشاعة ودعوة للقتل.. سأعود اليها بمناسبة أخرى... السؤال: لماذا لم يحقّق المستشار القضائي للحكومة مع مؤلفي هذا الكتاب الإجرامي العرقي الذي لا يختلف بما يطرحه عن الفكر النازي الإجرامي.!!
هذا هو الإرهاب الحقيقي يا قباطنة السلطة في إسرائيل. تتشاطرون على محاكمة عضو الكنيست حنين زعبي، التي لا أتفق مع أقوالها، ولا مع مواقفها، لكن ما قالته لا يرقى الى ربع الفكر الديني "الداعشي" في "توراة الملك"!!
طبعا يكرّر نتنياهو اتّهامَه حركةَ "حماس" بالإرهاب ويقارنها بداعش وغير داعش متجاهلا ان حماس هي حركة تحرر وطني فلسطيني بجذورها.
نحن امام ظاهرة ثرثرة من اعلى المستويات في الدولة، تصريحات سحق وإبادة ينثرها السياسيين والعسكريين في الخدمة ومن الاحتياط، كلهم خبراء في طريقة تصفية "حماس" اي تصفية النضال الوطني الفلسطيني وحق الشعب الفلسطيني بالتحرر من الاحتلال. لا أعرف في التاريخ شعبا يناضل من أجل حريته الا وأنجز مشروعه الوطني التحرري.
يشغل إسرائيل اليوم سؤالٌ واحد: ضيف حي أم ميت؟ هل هذا سيقرر مصير الشعب الفلسطيني يا نتنياهو وزمرة اليمين وما يسمى يسار وسط؟؟
السؤال ليس إن كان قائد حماس محمد ضيف قُتلَ أم نجا من محاولة قتله، كل فلسطيني هو مشروع استشهاد. لكن قراءة الصحف العبرية، وما بين السطور، والجنون الذي أصاب قيادات إسرائيل من "ضيف وشركاه"، تكشف خفايا ونوايا يبدو انها قادت الى الجولة الجديدة من المعارك.
حسب ما لمّحت اليه هآرتس إسرائيل بدأت العملية بالادّعاء بأن حماس لم تلتزم بالهدنة وأطلقت ثلاثة صواريخ. لكن يتبين من سياق النشر والتصريحات الحكومية حول عملية قتل محمد ضيف (فشلها او نجاحها ليس هذا ما يشغلني) ان إسرائيل أعدت عملية اغتيال محمد ضيف، ومهدت للعملية بكذبة كسر حماس لوقف اطلاق النار – هأرتس نشرت مثلا" "ان إسرائيل قامرت على تحقيق انجاز معنوي". قامرت بنقض اتفاق الهدنة مستغلة الظروف الناشئة من الهدنة لإنجاز انتصار عسكري ومعنوي كبير بقتل قائد حماس. اذن من حقنا الاستنتاج ان إسرائيل هي من كسرت وقف إطلاق النار ممهّدة لذلك باتهامها ان حماس أطلقت ثلاثة صواريخ باتجاه الأراضي الإسرائيلية.
ان موضوع محمد ضيف أصبح من المواضيع شديدة الازعاج لنتنياهو، ضيف (ميتا ام حيا) أصبح أسطورة فلسطينية وكابوسا مرعبا لأعداء الشعب الفلسطيني.
nabiloudeh@gmail.com