كانت " العجوزة " التي لا يزال حيٌّ من أجمل أحياء القاهرة يتسمّى باسمِها، تتولّى، في مصر، أمرَ القاهرة .
وكان لها ولدٌ وحيدٌ، منحتْه من حنانها وحُبِّها ما يليق بولدٍ وحيدٍ لسيّدةٍ عظيمةٍ .
ومن فرْطِ خوفِها عليه، أرادتْ أن تطمئنَّ عليه في الآتي من أيّامه .
استدعت " العجوزةُ " المنَجِّمين، ليقرأوا طالعَه .
اجتمع هؤلاء المنجِّمون في غرفةٍ ، وحدَهم، ليتأمّلوا، ويتقبّلوا ما قد يواتيهم من عِلْمٍ بالغيب .
و " العجوزةُ " في مجلسِها، تنتظر .
مرّت ساعاتٌ وساعاتٌ، والمنجِّمون في غرفتهم، لم يبرحوها .
ضاقت " العجوزةُ " بالحال ذرْعاً .
أمرتْ بأن يؤتى بالمنجِّمين إليها .
جلسَ هؤلاء، صامتين .
قالت " العجوزةُ " : ما النبأُ اليقينُ ؟
ظلّوا صامتين .
ثانيةً، قالت : ما النبأُ اليقينُ ؟
همسَ أحدُ المنجِّمين : نرجوكِ أن تعطينا الأمانَ .
قالت : لكم ذلك . لكنْ، ما النبأُ اليقينُ ؟
قال كبيرهم بصوتٍ مرتعشٍ : سوف يقتله التمساحُ !
*
انتفضت " العجوزة"، وأمرتْ بأن يُرفَعَ جدارٌ عالٍ، يحجبُ النيلَ عن مَرْبَعِها بالقاهرةِ، فلا يرى الولدُ النهرَ
حيث التماسيحُ .
ثم أسكنتْ وحيدَها، غرفةً، في موقعٍ بقصرِها، لا يمكنُ أن يُرى منها النيلُ .
وأخيراً، لم تترك الولدَ يقرأُ حيث يقرأ الصِّبْيانُ .
جاءتْه، على طريقة أولادِ الملوك القدامى، بمن يُعلِّمُه الكتابَ والحكمةَ وأمورَ الطبيعةِ والطبائع .
كان الولدُ نبيهاً، شغوفاً بالعلمِ والتعَلُّمِ، مُلْحِفاً في السؤالِ إنْ غمُضَ أمرٌ أو استعصى فهمٌ .
*
في درسٍ من الدروسِ ، كان المعلِّمُ يُفَصِّلُ لتلميذه، عالَم الحيوانِ، الآبدِ منه والأليفِ .
ما يسعى ويزحف على البرّ، وما يسبح ويَلْبِطُ، في البحر والنهرِ .
وكان الدرسُ مشفوعاً بصوَرٍ ذاتَ ألوانٍ، رسمَها رسّامٌ إسكندريٌّ معروفٌ .
*
وصلنا إلى إفريقيّةَK وأنهارِها، ووحوشِها .
ثم إلى نهرِها الفريدِ الذي يجري شمالاً، النيل العظيم ...
ثم إلى ما في النيل من سمكٍ وسواه .
كانت الصوَرُ بالغةَ الجمالِ والتفصيلِ .
استرعت انتباهَ الولدِ صورةٌ لمخلوقٍ نيليٍّ عجيبٍ، مُخيفٍ، ذي حراشفَ وأنيابٍ وعينين جاحظتَينِ .
سألَ الولدُ مُعلِّمَه : ما هذا ؟
أجابَ المعلِّمُ : التمساح .
سأله الولدُ : أيعيشُ هنا، في هذا النيل ؟
( لم يكن المعلِّمُ عارفاً بقصة المنجِّمين )
أجابَ : نعم .
*
انتهى الدرسُ، وانصرفَ المعلِّمُ .
وفي الغَداةِ جاءَ إلى موعد الدرسِ .
قالوا له : الولدُ مريض .
ما به ؟
كان محموماً يهذي : التمساح ! التمساح !
*
ولم يزلْ على على هذا الحال، حتى توفّاه الله ...
*
لقد صدَقَ المنجِّمون :
سوف يقتله التمساحُ
وإنْ كان في بُرجٍ مشيَّدٍ ...
لندن 05.12.2015