سيد الجحيم

2020-08-24

ايناس

 

"يا سيد الأساطير والجحيم..

يا صاحب الشأن العظيم..

يامن له السبق في هذا الطريق..

أكتب إليك راجيا العفو والسماح.. طالبا رفقتك من جديد

 فلم أعرف إنسانا في هذا العالم أصدق منك، أنت تشبهني وأنا أشبهك..

فمن أين جاء الإنفصام بيننا ؟ وبم ظننت أني تميزت عنك ؟

تعال يا عزيزي.. تعال يا إبليس العظيم.. نطلب الرحمة معا أو نلعن الحياة، فلست الأسوأ من جنس البشر ."

 

 لم تكن في نيتي الكتابة إليه أو التأثير عليه لولا هذا الجيشان بداخلي، فأنا على يقين أنه يسمع صدى الحروف المختنقة في جوفي دون حديث، ويرى كيف أفضى بي الحال.. ؟ وحيدا في غرفة تطل شرفتها على شجرة مريرة كالزقوم، جافة الأوراق يابسة الأغصان، ألفتها وألفتني وحفرتها وشما على ذراعي ولو عرفت سابقا مقام العزيز إبليس  لحفرت شوكته أيضا على صدري .

 لا أتذكر ملامح طفولتي لأقصها عليه، أو مراهقتي التي راكمتها مذ زمن بعيد في خزانة النسيان، واليوم بتُ أعاشر الوحدة، أسكنها وتسكنني حتى نسيت معنى التعبير وصياغة الجمل والكلمات . لا يتحدث  إليّ أحد ولا يطرق بابي أي إنسان ولو عن طريق الخطأ، حتى بواب البناية لا يعيرني أي اهتمام أو يتكلف قليلا بإلقاء  تحية الصباح،  وجارتي التي تلوي لسانها كل صباح : "جود مورنينج ماي ليتيل كات" تلاطف قطتها السمينة التي ترقد أمام بابها لا تتنازل وتلقي عليّ بنظرة ، كأني أحقر وأضعف من خُلق .  تحول عني جميع الناس وتخلى عني الأصحاب وباعوا الود والوفاق، خانتني كل الكائنات حتى الهواء.. هذا الكائن الشفاف قذف بي بعيدا كطائر مسكين أثقلته الغيوم وتلاعبت به العواصف والرياح، لم يحترم أحد عذابي، وهكذا.. ؟ سلمني الرب للوحدة وهجرني  كما هجرني الناس والملائكة والشياطين . فكيف لا أدعوك وأكتب إليك ؟ وكيف لا أفضل  مرافقتك في النار على رفقتهم  في النعيم ؟

تعال يا عزيزي إبليس.. آنس وحدتي ولا تهجرني..

 تعال نعد معا من جديد.. بعد عشرين عاما عشتها حبيس الهم والأحزان، في غرفة ضيقة مظلمة وخانقة بالكاد تسع جسدي الهزيل كشعرة دقيقة، تنفست فيها وحدتي وكآبتي، في عالم مختلف له قوانينه الخاصة وأسلوب حياة يتفرد به . خلف قضبان مظلمة يتساوى فيها الليل والنهار على حد سواء، قضيت سنواتي الطويلة حتى فقدت القدرة على الصياح والنواح، ووجدت نفسي عالقا بين أضواء باهتة وتحت أعمال جبرية قاسية في بقعة منسية من العالم أو جزيرة معزولة عن الدنيا تسبح في محيط الكون الشاسع،  ظهري تقلب على لوح خشن، وسترت جسدي أسمال بالية في عالم اجتمع فيه الأخيار والأشرار، كل فرد فيه له قصته الكئيبة . وكل ماكنت أخشاه أن ألفظ أنفاسي الأخيرة في هذا المكان، فانتظرت الحرية بشغف مستبد .  

ضاعت سنوات عمري هباء ياصديقي، تناثرت أمامي كما يتناثر الرماد في العيون المهلكة  وأوراق الخريف الميتة على أرض جرداء،  وأنا..؟ أقف ساكنا مجمدا، تكبل الأغلال أجنحتي، تمنعني عن الطيران .

وإذ مرت السنون و جاء موعد إطلاق سراحي،  وخرجت إلى الدنيا والنور، إلى أرض الله الواسعة والسماء الرحبة، وكانت تلك أقصى أحلامي وغاية أمنياتي .  وكنت أظن الدنيا فضاء مفتوحا تستقبل أجنحتي بين ذراعيها الحنونين، لكني وجدت نفسي عالقا من جديد،  تحاشى الناس  النظر والحديث إليَّ، ألقوا الحجرعلى بيتي الزجاجي، غرسوا أنيابهم في ظهري وأنا أحاول التجديف بذراعين عاريتين .. أنا الغريق يا إبليس، وكلما حاولت حفر اسمي في الصخر من جديد كنت أتقازم حتى ابتلعني الوجود  والوجوه  تتعملق من حولي وتصرخ : "أيها السجين..أيها السجين" ثم تجلدني بلا رحمة أو شفقة .

انتقلت من جحيم السجن إلى جحيم أشد لهيبا، ياصديقي.. فهناك في زنزانتي  وخلف القضبان..؟ كنا جميعا سواء، لا وجوه تأكلني ولا ذئاب تنهش اسمي أو تنكر استقامتي، ولا قلوب تترصد الخطأ مني وتعايرني بالماضي .

فقد كل شيء معناه يا إبليس، جف ماء قلبي، ضاعت حياتي هباء لأجل لحظة واحدة، وسواي ضميره نائم و يعيش حرا تضمه الدنيا بدفء تحت جناحيها وتمنحه كل التبجيل والإحترام وتغرقه بالمال والجاه والسعادة،  أستميحك عذرا واسأل.. أتظل النقمة تلحق بي وباسمي رغم حسن طويتي ونقاء سريرتي وأظل ملعونا مثلك إلى آخر الزمان ؟ أينكر الناس والإله كل سنوات عمري أمام لحظة واحدة من الزمن لا تساوي شيئا أمام دهره الذي خلقه.. ؟ أيطردني من بابه يا سيد الجحيم ؟ هل العيب أني ولجت وغصت إلى جوانب الستر والخفاء في نفسي  كما ولجت جوانب النور منها ؟ لكني أشهد بالحق.. كل الحق لأنت أطهر مني وأفضل  بتحملك لعنة الإله والناس أجمعين مذ خلقت إلى يوم الدين، ورضاك بقدرك التعس وتضحيتك بشرف اسمك ومقامك ليتعرف الناس إلى نورهم من خلال ظلمتك .

"يا صاحب الجبروت...

يا إبليس..

 لك العمر المديد..

 أما أنا..؟ فلا  أريد سوى حياة نهار واحد.. أنهض راضيا مستقبلا الحب، وأصعد بروحي بهدوء وأمان للسماء إذ غابت الشمس خلف البحار .  فهل تعرف بلادا أزحف اليها.. ؟ بلادا بعيدة يركب أهلها الأيائل والأفيال، تصادق العفاريت  وتؤمن بالأساطير وقصص ملوك الجان والغيلان، لا تعرف للماضي معنى وتغرق في النسيان، أحلم.. والحلم فيها مباح  بمن يغمس كسرة خبزه في قهوة وحدتي . 

إيناس ثابت

كاتبة من اليمن

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved