قبل فترة وصلتني رسالة يكشف صاحبها عن هويته موضحا "انا سيف عوني كرومي، ابن المخرج العراقي المرحوم عوني كرومي. أعيش في الغربة وأتغلب بعودي عن المسافات عن جذوري وإرثي العراقي من عمق التاريخ"، لتكون الكلمات اشارة الى عزمه "نشر ألبومي الموسيقي الجديد" .
اليوم انهيت ملاحظاتي على الإسطوانة "ترف بغدادي"، ليتأكد عندي شعور مطلق بان الجذر الذي يمتد اليه الموسيقي الشاب، هو جذر الفنان الكبير الراحل عوني كرومي وفكرته الخلاقة فنيا وانسانيا، وان ذلك الجذر أصبح اليوم نبعا صافيا من الرفعة النغمية والروحية .
في البدء لا بد من القول ان كرومي الابن، يذهب الى أصعب مدخل في الموسيقى، الا وهو التأليف، فيكتب مقطوعاته مشدودا الى "جذوري وإرثي العراقي"، فثمة " بيوت على دجلة"، "واحات النخيل"، "أهوار"، "نينوى" فضلا عن المقطوعة التي منحت الاسطوانة عنوانها " ترف بغدادي". وفي مدخله التأليفي يزاوج بين ملمحين، التعبيري والتصويري، فثمة حضور ملامح المكان وبيئته وتأثيراته، فما ان تسمع "واحات النخيل"، حتى يمكنك رسم مشهد بساتين الشجرة الكريمة وهي تمر خاطفة عبر عين من يتطلع اليها وهو في سيارة تخترق شارعا ريفيا .
والجانب التصويري في التأليف بدا واضحا ايضا في "نينوى"، حيث شيء من الانغام الموروثة الدالة على إرث مدينة الموصل ومناطقها، كي يمكن استعادة الملاح المكانية للمناطق الممتدة عميقا في تاريخ بلاد الرافدين الذي يعلن المؤلف انه هويته وتاريخه الروحي والوطني، وهو ليبدو أمرا غاية الأهمية عند العازف الذي لم يزل يصر على هويته الأصلية رغم انه غادر بغداد وهو صغير مع عائلته، ليبدأ دون أن يدري رحلة "غربة"، لكنها ليست "اغترابا" فهو انتمى لا الى روح والده الثرية في سيرتها الفنية والإنسانية وحسب، بل روح بلاده ولواعجها .
بينما يذهب كرومي الى التعبير وينجح في ذلك، تحديدا في مقطوعته " في السماء" التي عبّرت عن جو نفسي تتداخل فيه مشاعر القلق بالتوجس والانتظار. وفي المقطوعة إياها وتحديدا في الدقيقة الأولى منها ثمة تداخل واضح مع اسلوب المؤلف الموسيقي الأرجنتيني غوستافو سانتيولا الذي وضع موسيقى واحد من افضل افلام السينما في العقد الماضي "بابل" للمخرج إليخاندرو أناريتو ( صاحب أوسكار أحسن فيلم لعامين متتالين 2015 و2016 )، وهو ليس أمرا سيئا، ولكن على الموسيقي الشاب ان ينتبه اليه عبر الكثير من جلسات الاستماع لموسيقات العالم، والأنغام المصاحبة لفنونه المعاصرة، وتحديدا في السينما والتلفزيون .
لا أعرف ان كان، سيف كرومي، يتقصد هذا التمهل حد البطء في لعبه على أوتار العود، فهو حين يفعل ذلك انما يلتقط واحدة من الملامح الجوهرية للموسيقى الشرقية والعربية على وجه الخصوص، فمع البطء هذا يمكن للتأمل ان يجسد فسحته مثلما للطرب أيضا، وقد يكون اشارة الى عدم اكتمال الخبرة، وهو ما يبدو العازف والمؤلف الشاب بحاجة الى معرفته، فثمة الكثير من النغمات المرتبكة مقاميا وعزفا .
شخصيا اقترح على العازف والمؤلف سيف كرومي، ان يواصل عمله عبر التركيز على جانب العزف بمواصلة المران ثم المران، ان اراد الإبقاء على صفته الحالية : العازف والمؤلف، فبموجب ذلك ستغدو نغمته صافية كما يريد، وليس كما هي تعاني بعض الإرتباك في العزف والمقامات .