القوة الدافعة للفعل السردي في رواية نور عبد المجيد ( أنا الخائن ) : هي انتاج الاسئلة والاجابة عليها وهكذا تتكون مسبحة سيرورة السرد من خرزات الاسئلة المبثوثة من قبل أصوات الشخوص . في الشاطىء الثاني من الرواية : الأسئلة تطيل عمر السرد على حساب عافية الشخوص، من هنا فأن مفتاح الخلية الموقوتة في ص119 من الرواية هو الآية الكريمة التالية.. ( ياأيها الذين ءامنوا لاتسئلوا عن اشياء إن تبد لكم تسؤكم وان تسئلوا عنها حين ينزل القرءان تُبد لكم عفا الله عنها والله غفور رحيم /101/ المائدة ) : يمكن ان تكون هذه الآية بوظيفة : منبّه نصي لما سوف يجري في الفضاء الروائي .. لأن أجوبة السرد لاتكتفي بل تتجاوز نحو الميتا أجوبة .. والسبب ( هناك أسئلة يجب ألا نبحث عن اجاباتها.. هناك أسئلة في حياتنا وهناؤنا أن نموت نحن وتحيا هي بعدنا بلا إجابة.. لكن نحن دوما نتعلم بعد فوات الأوان / 126 ) فأحيانا سؤال واحد، يشهر مسردة رشيقة وقد تتقاطع الاجوبة بالتشارك فيما بينها .. وهناك أسئلة يقشرّها المسؤول وفق : ،،ان سوء الظن من الفطن،، ،كما علمّنا إبن المقفع .. وهاهو السارد المشارك يعترف بذلك .. ( إن سألتني شهيرة .. هل أريد الخروج ظننته تهكمّا وإن سألتني إن كنت أريد النوم .. ظننته سخرية ومحاولة لمراقبة وجهي الآثم ../450 ) شهيرة بدورها استروحت بأنوثتها ما يريبها، فنسجت أسئلتها وانتظرت سردا من زوجها رؤوف ( بدأت شهيرة تطاردني بالاسئلة ../451 ) وحين تصغي لسرده / 464 تعيد إنتاج السؤال الاهم ( لماذا؟ ) وتنظر مِن زوجها سردا يبرر خيانته ؟
(*)
..( أقسى الأسئلة.. أمّر الأسئلة هي، لماذا.. خاصة إن سألها أحدنا لنفسه.. لا شيء في رأسي سوى كلمة صغيرة تسحق أضلعي جميعها.. لماذا؟/ 121 ).. ( لماذا نحب .. ولماذا نخون.. لماذا نعترف .. ولماذا نندم.. لماذا نقسو.. لماذا نصفح .. ولماذا لانفعل ؟/ 499 ) ..
(*)
السؤال الاول في السطر الاول من الرواية محذوف ينوب عنه الجواب ( أحتاج إمرأة /11 ) .. ( كيف بدأت النهاية ؟ وكيف ولدت ؟/117 ) .. ( هل أخبرتك منذ بداية القصة كم هي زهرة جميلة ؟/121 ) شهيرة زوجة رؤوف تصوغ سؤالها رسالة ً صغيرة ً الى المؤلفة ( سيدتي نور: أثق فيك وأحبك وأطلب مشورتك.. زوجي يضيع مني ../474 ) .. رؤوف زوج شهيرة يسأل المؤلفة : ( هل حقا تنقذينها ؟ هل تساعدنيها ؟/12 ) ( أما أخبرتك من أنا حتى الآن ؟/ 13 ) ( أولا، يكفي أني حفيد قامة كبيرة تدعى منصور عبد الجواد ؟! /15 ) .. الجد منصور يسأل حفيده الطفل رؤوف سؤالا تربويا ( هل أدّلك على شيء له مذاق أجمل وحلاوته أكبر ؟!/ 17 ) ( ومَن مِن الأطفال يرفض معرفة طريق الأجمل والأحلى ؟!/ 17 )
(*)
الجد منصور عبد الجواد، يقدّم للطفل رؤوف سردا مغايرا للمألوف / المؤتلف ويكون سرد الجد بصيغة سؤال :( ألاتريد أن تجرّب حلاوة القلب ؟!/ 17 ) .. الطفل رؤوف يسأل حين يكبر.. وهو يتذكر موت أمه فيصوغه سؤالا وجوديا ..( هل يشعر الموتى بخطوات الموت وأقترابها منهم حقا، قبل موتهم؟ /26 ).. الطفل رؤوف يحدس سرد الغراب حول أمه الحامل فيجيبه والده ويسأله في الوقت نفسه : ( لاتخف ..أمك بخير .. ألاترى الماشية في الأسطبل تلد عشرات المرات، وتنهض لتحمل في أحشائها ماتلد ه من جديد ؟ /27 ) ليلة موت الأم/ الماخض يتساءل الطفل رؤوف ( كيف ينام على فراش، أقتسمه معها أعواما، بعد ان خلا منها؟ هل يرى وجهها الى جواره أم تراه باختفاء جسدها عنه سعيدا؟ /33 ) وهو يسرد حياته يتذكر مؤثرية سرد اليتم في طفولته فيكتب هذه الوحدة السردية العميقة ( اليتامى يشيخون وإن كانوا أطفالا!! ) ولايشعر اليتيم بمذاق الحلاوة ولابسواها فمن فقد أمه ياجدي لايعرف للحلاوة طعمّا أو معنى.. لكن وعي رؤوف بعد تقادم السنوات ونضوج هذاالوعي، يجعله يسأل نفسه ( أخطأت التعبير؟ /37 ) .. لأن سؤال الطفل رؤوف كان سؤال اليتيم رؤوف، ذلك السؤال الذي جعل الجد يبكي كثيراً ..
(*)
يتناوب في سرد رواية ( أنا الخائن ) أكثر من سارد :
(1) السارد الرئيس : رؤوف توفيق منصور عبد الجواد، وما يسرده يتكشف لي كقارىء انها مخطوطة ارسلها رؤوف للمؤلفة نور عبد المجيد وسرد رؤوف بينه وبين المسرود مسافة زمنية، وستكون وظيفة السرد مساجا نفسيا للسارد الرئيس / رؤوف ( لو كنت أعلم أن كتابة كلّ منا لقصة حياته ومآسيها تجلب على النفس هذا الهدوء، لكتبتها قبل اليوم، بأعوام.. مَن يدري لو فعلت، ما وصلت الى ما أنا عليه اليوم ../46 ).. وسرد رؤوف محاولة للأستفادة من سرد سابق تعود براءة اختراعه للروائي بيسوا لديّ كتاب صغير.. أكتب فيه حين أنساك .. كتاب ذو غلاف أسود.. لم أخط فيه كلمة بعد !! ( قرأت كلمات، فيرناندو بيسوا،، بحثت طويلا حتى وجدت مفكرة سوداء، اشتريتها ووضعتها على مكتبي، وبقيت أعواماً بعد رحيل زهرة، أتمنى لو أكتب حرفاً لا، كلمة كما تمنى قائل الكلمات ../ 157 ) فراغ دفتر بيسوا ليس فراغا إلاّ من خلال العين العادية .. انه الملء الذي ينتظر الكتابة بالممحاة وليس القلم .
(2) السارد الثاني هو والد رؤوف أعني توفيق منصور عبد الجواد ..
حين يخبر رؤوف والده ان حبيبته هي زهرة حفيد وديع صفوان، سيتنوع سرد الأب
*السرد بصيغة بانتوميم ( كأن أفعى سامة وثبت الى وجه والدي الهادىء.. لم أر قبل تلك اللحظة أو بعدها حتى اليوم حدقتيّ عينين تهتزان وترتجفان كما رأيتهما في وجه أبي .. كانت أصابعه ترتعش، وهو يستند بها على حافة مكتبه الأنيق ليقف وكل قطعة في جسده تنتفض .. كانت يده ترتجف كجسده../123 ) ..
*السرد المدوّن ..( أخرج ملفّا صغيرا عاد به الى مكتبه، وأخذ يقلّب في أوراقه وهو يقول في صوت مبحوح ضائع : زهرة على الورداني..علي الورداني.. والدها من محافظة أسيوط ) ثم يخبرنا السارد الاول ( كان يقرأ بيانات زهرة وعائلتها.. تاريخ تخرج والدها.. مقر عمله.. عائلته.. تحركاتها وتحركات تحية أختها.. حتى قصة حبها وأسم حبيبها القديم عرفته من شفتيه .. متى جمع عنها كل هذه البيانات ؟ وكيف لم يرد في البيانات أسم أمها .. نجلاء وديع صفوان ../124 ) .. للسارد الاول اسئلتة حول تحريات والده المسرودة .. وللقارىء حق التساؤل هل ثمة مسردة بقلم الأب ؟ وهل هي مقتصرة على إجناسية الارشيف ؟ وماهو السبب وراء هذا السرد الخاص ؟ هل تنفعنا هذه الوحدة السردية الصغرى من قبل السارد الاول / السارد الرئيس .. هل تنفعنا بصياغة مفتاح شفرة مسردة الأب ( عندما رفع وجهه، كانت في عينيه دمعة لاتسقط .. لكنها تشتعل استعداد لإضرام حريق كبير .. وفي هدوء قال عبد الجواد كلمته ( هي محرمة عليك مادمتُ حيّا.. والله وحق رحمة أبي وأمي إن سمعتك تكرر هذا الاسم قتلتها أو قتلت نفسي ..!!/ 125 ).. هنا لدينا وحدة حوارية مشفرّة، تومىء الى نص مسكوت عنه في النص /الرئيس .. وهذا المشفرّ سيقود السارد الاول الى والدة زهرة ... وبشهادة السارد المشارك رؤوف
( لم تكن زهرة وحدها غايتي؟ تحول كل هذا في لحظة .. تبدل كل هذا وأصبح أملي وغايتي بل وتحدي العمر هو أن أعلم ،،لماذا،، /126 ) ..
(3) السارد الثالث : نجلاء والدة زهرة حبيبة رؤوف توفيق ..
سرد نجلاء بمثابة حركة نقلة وفق منطق المعتزلة .. سرد نجلاء يعتمد على سرد أمها فاطمة المتوفاة ( علمت أن زوجها على علاقة آثمة بزوجة الرجل، الذي يحبه سكان البلدة بأكملها.. الرجل الذي ساعد والدها على نفقات زواجها من وديع، بل وصديقه الحميم/ 128 ) نحن أمام سرد سري تسرده نجلاء ويصغي اليه رؤوف ثم يسرده رؤوف ويثبّت مؤثرية السرد فيه على مستويين :
*( تلك الخائنة هي جدتي.. وكان جد زهرة هو الرجل، الذي كان يضاجعها في غياب جدي وحبيبي منصور عبد الجواد../133 ) .. هنا نكون امام خيانة مزدوجة : خيانة المرأة لنفسها ولزوجها والخيانة الثانية : خيانة الصديق للصداقة العائلية بين العائلتين ..
*( كنت كالجريح.. نسيت الحب .. نسيت زهرة .. نسيت كل شيء إلا أني إمرأة، لوث والدها رحم جدتي، وسمم رأس أبي وذبح فيه الحب والثقة، وجعل منه ومني رجالا مشوهيين بصور غائمة مشوشة / 133 ) هنا نكون مع الأنعكاس النفسي للخيانة في أقرب الناس للخائنة : الأبن والحفيد.. لكن الأبن الذي هو والد رؤوف يطلع من التجربة الموجعة بدرس شهرياري ( رؤوف .. لاتدع امرأة تحطم كل شيء .. أحبّها كما تشاء.. تزوجها.. أنجب منها.. لكن لاتدع امرأة ترافقك في عمل أو قرار أبداً حتى بعد موتي../79 ) أما ابنه رؤوف وبشهادته ( أنا ذلك الطفل الممزق .. أنا من فقد الأم والجد والبيت /45 ) ليس هذا وحسب فقد درّبته أمه أثناء حملها كيف يهتم بأخيه الوليد وهكذا صيرّه موتها الأخ والأم بل والأب الثاني لشقيقه طارق.. وكان يسرد إليه حكايات عن وجه امهما وحنانها الثر .. كما زرع في رأس طارق لحظة رحيلها..
(4) السجين حسين وهدان ( 271- 314/ص ) :هو السارد الرابع، يسرد في فضاء مغلق وجيز سيرته حين كان تحت سماء زرقاء يسردها للسجين رؤوف توفيق .. وهذا السرد لاعلاقة له بالساردين السابقين ولايمت لهم بأي سابق معرفة، ولكن سيثبّت وشائج بين السارد رؤوف وعائلة المقتول حسين وهدان ..
(5) ثمة سرد وجيز( 294- 301/ص ) سينقله حسين وهدان الى رؤوف وهما بالسجن، أعني سرد الارملة حُسن المنشاوي الى حسن وهدان .. هذا السرد يستعين بحسين وهدان وحده وتحديدا يستعين بقلم الصحفي حسين وهدان، يمكن ان نطلق على هذا السرد اسم ( سرد علي مختار ) فهو السبب المؤدي الى سجن حسين وهدان ..
(6) السرد المحذوف هو سرد الصورة الفوتوغرافية، وهو سرد يحذفه بالقوة السجين رؤوف توفيق منصور عبد الجواد فهو يرفض صورة ولده البكر، الذي تزامنت ولادته مع حبسه وبشهادة الأب السجين .. ( رفضت ُ رفضاً هادئاً، لكنه كان صارما وقاطعاً، أن أرى صورة واحدة لولدي ضياء .. عذاب سيدتي أن تحملي في جيبك ورقة عليها وجه من تحبين وتشتاقين إليهم../ 252 )
(*)
.. من الأسئلة المحرّكة لسيرورة الرواية
( لماذا نرحل؟ لماذا نترك أرضاً نحبها؟ لماذا نبيعها؟ لماذا نترك بيتاً فيه دفء وحنان، وبقايا أنفاس من أحببناهم وأحبونا، كما لم يعرف الحب نفسه يوما؟ /41 ) ( ترى هل كتبت ِأنت ِ كل ماكتبته من روايات ومقالات وقصائد، لتتحرري من قصص سجينة وآلام دفينة في صدرك ؟ 47 ) ( قتل أمك ..هل نتركه ؟ /49 ) ( أنت حفيد الأسطورة؟ /59) (هل أنت حفيد منصور عبد الجواد أسطورة الشرقية؟/60 ( هل كانت طفلة في جسد أنثى، أم أنثى في ثوب طفلة؟ /67 ) ( زهرة..ألا تسألين الى أين ؟ /67 ).. ( رؤوف أنا أحبك !!/ 69 ).. ( لم نتجاهل كل تحذيرات القدر، ونغضب ونلعنه حتى لايجد أمامه مفر سوى تسديد ضرباته الكبرى ؟/ 77 ) ( متى جُن ّ آدم عليه السلام بالتفاحة ؟ متى أصبحت هاجسه وحلمه وكابوس أيامه ؟ /85 ) ( متى أصبحت التفاحة في عينيه أحلى وأغلى من جنات عدن ؟/85 ) ( هلا غادرت جفوني، لأعرف كيف أغلقهما وأنام ؟/87 ) (.. لكن لِم َ تركت هذه القطعة ؟ ولماذا تركت هذه القطعة ؟ ولماذا يقف مذعورا؟ ولماذا يحاول أن يغسل هيكل السيارة الخارجي؟ ماذا يغسل عنها؟/ 89 ) ( أين كان طارق ساعات ثلاث، والجريمة لايفصلنا عن أرضها سوى دقائق خمس ؟/91 ) ( كنت أبكي في جنون، وأنا أصيح من أسأل .. من يساعدني .. من يخبرني ماذا أفعل وأين أذهب ؟/93 ) ( صرخت رافضاً التوقيع .. من أنا لأفعل ؟ من أنا لأقرر نزع جزء من جسد رجل لايعرفني ؟/102 ) ( كيف لم تدمع عيناه، عندما سمع بتر ساق ضحيته ؟ كيف لم ينهر أو يعترف حتى أمام والده ؟ من أين للقلوب القاسية بقسوتها وجمودها ؟ هل حقا تسري في عروقها دماء كتلك التي تنساب في عروق زهرة أو حتى عروق بهاء الذي جعلته دمعاتها يتنازل عن كل حقوقه وألمه وانكساره، مدعيا انها سيارة نقل هرب بها سائقها؟/ 104 ).. ( هل تعلمين ماذا قال سيدتى لحظتها ؟/105 ).. ( لماذا أخفت تحية عن أمها قصتي مع زهرة ؟/ 113 ) ( هل هي الفتاة التي أردت إلحاقها بالتدريب معك في المصنع ؟/115 ).. ( وهل هناك على الارض من هو أشد حماقة وسذاجة من العشاق ؟/ 119 ) ..( هل تذكر أني أخبرتك مرة أنها من الشرقية ؟/ 122 ) ( حبيبتي حفيدة وديع صفوان ..هل تذكره؟ /122 ) .. ( متى جمع عنها كل هذه البيانات ؟ وكيف لم يرد في هذه البيانات أسم أمها.. نجلاء وديع صفوان ؟/ 124 ) ( ما القصة ؟ أخبرني أرجوك /125 ) ألم تكن زهرة وحدها غايتي؟ أما كان زواجي بها وحده أملي وقضيتي ؟ تحول كل هذا في لحظة.. تبدل كل هذا وأصبح أملي وغايتي، بل وتحدي العمر هو أن أعلم ،، لماذا؟،، /126 )
(*)
إتصالية اللامرئي بالمرئي ..
النص المرئي / المقروء هو ( أنا الخائن ) رواية المؤلفة نور عبد المجيد .. أما النص اللامرئي والمحسوس هو ألف ليلة وليلة وتحديدا ( ماقبل الليلة الاولى يكتسب أهميته بكونه العتبة التي تؤدي الى الليالي../ 26/ الاذن العصية واللسان المقطوع ).. أرى ان توفيق منصور عبد الجواد : طبعة منقّحة من شهريار الليالي الالف فهو لم يقتل أمه ولم يقتل أحدا بل قام بإخصاء نفسه بالقوة من خلال عدم زواجه بعد وفاة زوجته كما انه لم يمارس رجولته مع سواها .. ومثلما روضت شهرزاد شهريار بالحكايا وعالجته من إتصالية العنكبوت / الذبابة استطاعت شهرزاد أعني شهيرة .. معالجة والد زوجها .. حتى صار لايستغني عن رعايتها له..
*نور عبد المجيد / أنا الخائن / الدار المصرية اللبنانية / ط3/ 2013
*مقداد مسعود / الأذن العصية واللسان المقطوع/ اصدارات اتحاد الادباء والكتاب العراقيين في البصرة /ع15