في الصيف الأول من زواجنا، كنت وسعاد نسير مع هؤلاء الذين يخرجون من منازلهم كلما فتر الحر قليلا، وأمام أحد المحلات التي تبيع الحلوى والمثلجات وألوان شتى من عصير الفواكه، لم تكن زوجتي قادرة على كبح الرغبة في أخذ ثليجة، أنا أيضا أخذت واحدة، وفيما راحت تتذوقها عند الباب بتلذذ فائق، ربما يفوق تلذذ الأطفال بها، بقيت في الداخل أدفع ثمنها. صرخت .التفت لأرى طفلا يحاول افتكاك القطعة منها، فيما هي تمسكها بكلتي يديها، كما طفلة صغيرة تماما. أسرعت نحوه فقفز إلى الشارع هاربا. في الشارع كادت تصدمه سيارة. كالبرق انحرف من أمامها، فجهز للسائق الفرصة ليخرج من النافدة يده الضخمة والمشعرة ويتلقف الطفل من أثوابه. ويمضي وهو يجره ويضربه على إطار السيارة. نحن كنا على الرصيف جامدين نتابع ما سيؤول إليه الأمر.
مسكين، قالت سعاد. -
وبقيت ساكتا أفكر: كان أحرى بنا تركه يأخذ القطعة ونشتري أخرى ولن تقوم القيامة . ولكنه فاجأ سعاد فصرخت وفاجأتني فجريت نحوه واستمرت المفاجآت بينه وبين السيارة وسائقها.
سيقتله،عادت تقول. -
ولكي أخفف من وخز الضمير قلت: لم اقل أن يقفز إلى الطريق.
أردت أن تضربه..-
يكفي -
وسكتنا معا. لحسن حظه أن أماسي الصيف في أزقة المدن القديمة لا توفر للسيارات فرصة للسرعة لامتلائها بالعربات والمارة و إلا لكان مات.
ولما أفلته السائق خرج الرصيف يواصل تربصه بالمارة غير مفكر فيما يجري له.
بدا الانفراج على سعاد فعادت تقول: لم يقع له شيء.
وماذا تريدين أن يقع له؟-
انه لا يبكي.-
ولماذا يبكي؟-
لقد ضربه.-
-عليه ان يبكي العمر كله إذا.
قلت هذا رغبة في جعل نهاية لهذه الحادثة حتى لا تشغلنا عن نزهتنا، فنحن نريد أن نتمتع بالمساء، وحياة المدن الداخلية خلال الصيف لا تبدأ إلا مع الأصيل. سرنا نعبر الدروب العتيقة والأزقة الضيقة، نبحث عن الجمال والدهشة في ألواح الأبواب والنوافذ والشبابيك والأقواس والوجوه والأصوات، فيرتد بصرنا نحو الذاكرة والقلب الشعور. حتى انه ليخيل إلينا أحيانا أنه خلف جدران البيوت يسكن المورسكيون. فإذا أرجعنا البصر كرتين نجد انه غير ممكن تفادي تلك الحادثة كلما طلع طفل من أولئك في الطريق.
وهكذا قالت : إنهم ضائعون...لماذا لا تأخذهم الدولة؟
-ولماذا ستأخذهم الدولة؟
-تنقذهم...تبني لهم ملاجئ..خيريات.
-لا مكان لهم في تفكير الدولة ـ
-قد نكون نحن أيضا خارج تفكير الدولة.تعال،تعال.
وصعدت ثلاث درجات لتقف بباب محل للمجوهرات. ووقفت أنا في الدرجة الثانية.صاحب المحل كان يعرض على شابتين خواتم و أساور من ذهب.كان واضحا أنهما لا ترغبان في شراء أي منها. والتاجر كان اعرف بهذا الأمر. ومع ذلك كان خدوما يعرض نفائسه عليهما من غير ضيق ظاهر. وهذا بالضبط ما كانتا تستغلانه من أجل تسريع الإحساس بلذة مؤجلة.
فواصلت حديثي همسا: أيهما أولى بالتعداد على منبر البرلمان أو أمام وسائل الإعلام بالنسبة لوزير،هل بناء كذا ملجأ أم الإعلان عن مشروع مستقبلي- ولو كذبا- لبناء سكة طرامواي فوق هذه المدينة، فكثير من احيائها محرومة من وسائل النقل عدا البدائية منها. كانت تحرك رأسها فقط. كأنها تقول: «نعم» وكأنها تقول :« ليس هذا مكان الحديث عن المشردين». لحظة، وانصرفت الشابتان. بادرنا الرجل بالترحاب. عرضت عليه سوارا وأبدت رغبتها في استبداله بأخر، لأن النقوش التي عليه أصبحت (قديمة).انخرطا في حديث عن الموديلات والأشكال والأوزان . حاول المجوهراتي إقحامي في الحديث غير أنني أجبت بكلمات كشفت جهلي بالموضوع فانصرف عني. في آخر الأمر أعادت حليتها في يدها وخرجنا تواصل حديثها عن النقوش ومحاولة جعلي أتذكر بعض النماذج التي في حوزة إحدى قريباتها أو إحدى صديقاتها. سدى.
تجولنا كثيرا..
مضت ساعة بعد منتصف الليل. ونحن نتعشى في احد المطاعم، فاذا طفل يدخل في لمح البرق ويقف وراء سارية، أسنانه تصطك من الخوف. تتبعه جلبة ركض كركض البغال. الطفل صغير في سنته الثامنة أو التاسعة، وسخ كقرد. يحمل صندوق ماسح أحذية،عاجله العامل في المطعم:« اخرج،اخرج من هنا». وبدأ يجره والطفل يستجديه أن لا يطرده، حينها وصل ثلاثة شبان سود( و ربما صاروا كذلك من الخمر والتبغ والليل)، فتركه العامل.
لم يكن في المطعم زبائن غيرنا. البغال الثلاثة يقفون بالباب. بدؤوا يعزفون على آلات الهارمونيكا وينتظرون الصبي، هو يرتعد. توقفت اللقمة في حلوقنا، والحق أن عزفهم منتظم مما أعطانا الشعور أنهم عازمون على بلوغ مرادهم، خمنت أنهم يريدون ابتزاز الطفل دراهمه التي جمعها من مسح الاحذية . أردت أن أقول شيئا لسعاد ولكنني سكت حتى لا يكشف صوتي مقدار خوفي .
لم يدم الأمر طويلا فالبغال واصلوا تيههم عبر الليل. أول الأمر ظننت أنهم فقط انحرفوا عن الباب لإغراء الصبي بالخروج. لكن العامل وقف بالباب ونظر يمينا وشمالا وقال له:« لقد ذهبوا، أخرج». فخرج يجري عكس اتجاههم. أسرعنا نحن أيضا بالقيام لتفادي اللقاء بهم. فماذا أملك أمامهم لو هاجمونا؟ ولما دفعت ثمن الطعام للقابض سألته: ماذا يريدون منه؟
بسخرية قال لي : ألا تعرف ماذا يريدون منه؟
ثم أضاف: هم أيضا كانوا مثله. وهو سيكبر فيقطع الطريق ويطارد الأطفال ويدخل هنا ليطلب طعاما وان لم نعطه يقف بالباب و يمنع الزبائن من الدخول.
- واتصلوا بالبوليس
- البوليس؟ يرد بسخرية زائدة
بعصبية أقول : البوليس نعم البوليس يأخذونهم إلى السجن. ألا يوجد سجن؟
صرخت زوجتي:هيا.
خرجنا نسرع نحو ملتقى الشارعين فذلك يوفر فرصة أكبر للحصول على سيارة تاكسي. انتظرنا طويلا. ربما أكثر من خمس دقائق. وجاءت سيارة، ومرت سريعا، فكرت أنه علي إظهار بعض الشجاعة، دقائق أخرى..
ـ هل نواصل السير؟
ننتظر قليلا ـ
ومرت سيارة أخرى ثم..ثم توقفت، جرينا نحوها ور كبنا.. سارت سريعة يساعدها فتور حركة المرور..سعاد تضع رأسها على كتفي وأنا أمسد شعرها بأصابعي. .مطمئنان.. لا نفكر في شيء..
hassanchlih@hotmail.com
21 05 2000

