(*)
هل يمكن اعتبار رواية ( وردي فاتح اللون ): الكتاب الأول ، يليه الكتاب الثاني :( سعيدة هانم )
رغم المسافة بين الإصدارين : حلم / 2009 ورواية سعيدة هانم : 2015 فالكتابان يقتسمان الحدث والمكان والزمان، في الروايتين نحن في بغداد بعد الإحتلال.. وثمة شخصية نسوية رئيسة هي نقطة الرواية مع الاختلافات الفرعية في الشخصيتين ، أعني شخصية ختام في رواية وردي فاتح اللون وشخصية سعيدة هانم في الرواية الثانية والمرأتان تتميزان بالغرائبية في السلوك اليومي وبنفس الوقت بالوعي الوفي للمكان ..
(*)
الشخصية المحورية في الروايتين هو البيت والوطن هو البيت في قصيدة لإبن الرومي ( 836- 896 ) حين حاول جاره اللئيم ابن أبي كامل أن يجبره على بيعه، ثم أغتصب بعض جدرانه مماجعل الشاعر في غضبة، دفعته أن يفزع إلى والي بغداد سليمان بن عبدالله بن طاهر ويقدم شكواه بصيغة قصيدة هذا مطلعها :
( ولي وطنٌ آليت أن لا أبيعه ُ وأن لاأرى غيري له الدهر َ مالكا )
للبيت عند الإنسان العراقي مكانة شاهقة تخترق التابو، يشخصنها المثل الشعبي ( رحت البيت الله وجيت، مثل بيتي ما لكيت ) .. في منتصف السبعينات صدحت حنجرة المغني صباح غازي بقصيدة لمظفر النواب، على شاشة الأبيض والأسود
( أبويته ونلعب بي شلهه غرض بينه الناس
لابينه الهمّازة ولابينه الغمّازة ولابينه الماتحب المكتب
ميْلَنْ غاد عن دربنه
ميْلَنْ غاد عن درنه
يم شجرة التفاح حبنا أزدهر
شوك وهوى وقداح ولعة وسهر
ماريد درب الصفصاف كرمة علي ودوني ) ..
(*)
رواية ( وردي فاتح اللون )، ندخلها من ذلك البيت الذي يسرف السرد في تناوله وللإسراف ضرورته الشعرية – إذا جاز القول - لكن البيوت في الروايتين منزاحة بشراسة عن بيتوتيتها، فالبيت لم يعد المكان الذي نقبل فيه، بل المكان الذي سنقتل لعدم توفر أسباب القتل !! فالمكين ليس في مكانه والتمسك بالبيت حالة فردية/ إستثنائية، وهو تمسك منبثق من تماسك المرأة العراقية في الرواتين، وبشهادة نادية، التي كانت تدرّس في ليبيا (عدت من الجبل الأخضر في ليبيا لأجد الجميع قد تركوا بيوتهم، فروا إلى مصر والأردن وسوريا / 85- 86/ وردي فاتح ..) بيت أهل نادية في الغزالية ..( وتعرف كيف أصبحت الغزالية ) فأضطرت نادية وأستأجرت هذا البيت ريثما يجتمع شمل عائلتها.. وأهل هذا البيت الذي أستأجرته فروا للأردن.. أما عمار الفلاح فبعد ما تعرض للأعتداء ،، سهوا،، !! قرر مغادر بغداد والعودة إلى بيتهم في الديوانية ..
(*)
لأسباب وطنية، يفشل الحب بين ختام وابن عمها الذي صار خطيبها؟! والفشل سببه الحرب، والحرب سببها غطرسة الحكام وأختر ماتريد من الحروب التي مربها عراقنا المحارب طوعا وكرها، ويومها لم تكن للعنكبوت شبكة افتراصية حتى يتواصلان يوميا نص يوم في الأقل، لكن ختام تتقدم خطوات على العالم الافتراضي المريض وتشتري بيت عمها بدافع ( يكزبر الجلد ) كما نقول نحن أهل البصرة، ( لايضيع البيت وصاحب البيت /97 ) وبالطريقة ذاتها تخاطب نادية بخصوص ياسر( فلاتدعيه يرحل، ويضيع كما ضاع المهاجر .. تزوجيه لاتدعيه يهرب كما هرب الجميع.. إنه جميل وسينجب طفلا جميلا مثله.. لاتدعيه يهرب.. يا إلهي أكاد أجن.. لماذا يهرب الجميع ..؟/ 79 ) .. وحين يغيب ياسر بزنة روزنامتين، تواسيها ختام ( فلاتهتمي ! أن يعتقل ياسر هنا أفضل من أن يسافر ويتغرب ويضيع هناك ../ 136 ) .
إذن ختام منشغلة بصيانة المكان وإنتظار المكين الذي صار: في منزلة بين منزلتين، كما يرى معتزلة البصرة، وكذلك ستفعل سعيدة هانم، التي تكره التفكير في مغادرة ما،) ساقي لن تحملني إلى أبعد من ذلك وهذا ماحملني على البقاء هنا وحدي ولم أشعر بندم.. ( نلاحظ ان سعيدة مجبولة من أصرار ختام ونادية في رواية ( وردي فاتح اللون ) وسعيدة هانم تتضامن مع المرأتين العراقيتين : ختام / نادية، وتعلن تضامنها فهي لن تجعل الغير يحصل على اللون الوردي .
(*)
سعيدة تتواصل مع شقيقها الذي تخلى عنها وغادر بغداد مع زوجته الى أرض الله البعيدة، والرابط التفاعلي بين سعيدة وشقيقها يمر بتنويعات: نكهة الاطعمة أثناء الطبخ أو الركعة الأخيرة في الصلاة وكذلك سيكلوجية الملابس، فهي تغسل ماتبقى من ملابس العائلة، بين الحين والحين وتذهب بها إلى اللوندري، ليكويها وتعيدها الى البيت.. كأنها بوظيفة ( الحارس الأمين لهذا البيت من كل الجراثيم والأوساخ، فتروح تتفحص محتوياته وتنظر إليها حتى ذابت عيناها من كثرة النظر، وتحوم حول القنفات والكناتير حتى ساف نعلها من المشي بين الغرف . وكل ذلك يحدث دون أن تجرأ على التخلص من قطعة أثاث واحدة أو خرقة صغيرة من الملابس التي لايستعملها أحد، بل إنها في كثير من الأحيان ترسل الملابس التي يوسخها الغبار للتنظيف الجاف ولاتنسى أن تتفحص جيوبها قبل ان ترسلها ) .. !!هل سعيدة هانم .. سعيد خانم .. خاتون ..؟ هل هذه السعيدة مريضة بتثبيتات السعادة، هذا المرض الذي يشعرن المكان والمكين كما شخصه عياديا المعلم الأجمل غاستون باشلار؟!
(*)
سعيدة تتشبث بالماضي .. ختام، ترفض الماضي، تحرق صور العائلة، تقذف قفص الطيور وتنويعات الأثات في الشارع.. وتقرر محو ذاكرة الجدران وما ألتصق فيها / عليها من أنفاس وروائح العائلة من خلال طلي الجدران بالأصباغ، وبشهادتها ( .. أريد أن أبدأ من جديد...إن البشر الذين يجمعون الانتيكات من حولهم ستحولون هم أنفسهم إلى عنتيكة ../ 141 )
وهنا أمتياز ختام وتفوقها الذاكراتي على سعيدة خانم ..
(*)
ختام لا تفكر بغير هذا الحاضر الشرس الذي تقف أمامه منتصبة كسارية علم وطني في الهواء الطلق، ختام لاتخشى فوهات المحتل ولاتفخيخ الإرهاب ولاتخيفها فوهات مستوطنة، لذا فهي تلبس ماتريد من أزياء وتتحرك حسب قناعتها في وحدتها، خلافا لذلك تتثنى إلى أثنتين سعيدة هانم، ملابسها مخشوشنة ووجها شبه خال من المكياج في الدوام، وفي البيت تخلع أسمها بنسبة 50% وتخلع سلطة الشارع / العمل، حين تخلع ملابسها وترتدي ماتحب وتصنع لها أجنحة من فرشاة ولوحات ترسمها.. وتسمّي نفسها في البيت : مليكة جان ..
(*)
في) وردي فاتح اللون ( ليس ختام تعيش وحدها بقرارها الشخصي، هناك جارتها وهي الشخصية الرئيسة في الرواية، والتي لايشع اسمها في الفضاء الروائي سوى مرة واحدة وهي تلفظه أمام ختام : أسمي نادية، هذه الشخصية اعني نادية تصنّف سياسيا ضمن المهجرات، فقد أضطرتها غابة الفوهات المستوطنة : ترك بيت العائلة في الغزالية وتأجير بيت في أربع شوارع، وهي استاذة في علم النبات، وكانت في سنوات الحصار تقيم في الجبل الاخضر في ليبيا.. سنلاحظ ان نادية وصديقتها ريم، لاتختلفان عن سعيدة في الملابس العادية وقلة استعمال المكياج، بل ان ريم لا تغسل سيارتها للأسباب نفسها.. نلاحظ ان المرأة المتعلمة نادية وختام في ( وردي فاتح اللون ) وسعيدة في الرواية الثانية : لاأحد يحميهن سواهن فمنطق الذكورة العائلية : متجرد من رجولته ومنتبذا عن عالم النساء الوحيدات ..
(*)
مع الصفحة الأولى نتأمل الباب العالي لذلك البيت، ثم ندخل البيت بمعية الساردة نادية، تستقبلنا زقزقة الغصون والحمامات البدينة بين ثيل الحديقة، وفضاء البيت يحتوى أغلب فضاء( وردي فاتح اللون) .. ومع الصفحة الأولى تسلمنا السارد خلاصة الخلية السردية الموقوتة التي ستتظى على مدى الرواية كلها ..( كيف خطر ببالي أن أسكن ذلك البيت ذا الباب العالي ؟ وهل كان هو الذي أختارني عن عمد أم أنا الذي أخترته دون قصد ؟ وكم كانت غريبة تلك الأيام قضيتها فيه، عندما حدث أن نظرت إليه ونظر إلي وأبتسمنا وحسم الأمر،عندما كان العكس هو الصحيح ، كنت أنا موجودة في ذلك البيت المقابل ذي الباب العالي أنظر إلى هذا البيت الذي أنا موجودة فيه الآن، واستغرب مما يحدث فيه من عجائب ختام ..) ثم ينغمر صوت نادية الساردة بحنجرة غاستون باشلار في شعرية المكان ..( هذا البيت الذي أريد.. له، مثل البشر لسان يتحدث به ورائحة يتميز بها وذكريات يتحسر من أجلها...)..الساردة نادية بالرؤية والملامسة، ترى/ تلامس باليد سردا مغبرا أكتنف البيت، أعني ماسردته الطبيعة من قسوتها فيه / عليه .. وبهمتها العالية المستقوية بممحاة مائية ستعيد لسرد البيت نسخته الأصل :( كان قاسيا هذا الصيف، وأنا أقطعه وحيدة المنزل، أحاول أن أزيح عنه طبقات الغبار الأحمر التي تطمر البيت بين عاصفة وأخرى، بجعل الماء الصافي ينهمر ويطرطش في أرجاء البيت ليعيد له رائحة الطابوق الأولى، ويغسله إلى جمال قديم هو الوحيد الذي تبقّى../ 33 )..نادية العائشة وحدها في منزل مؤّجر تعي جيدا..( لايمكن للبنت أن تعيش وحيدة المنزل إلاّ في مثل هذه الظروف التي تباعد فيها الأهل وتشتّت ذو القربى فأصبحت وحدتي بانتظار العائدين ممكن ../53) وأصبح حضور الرجل الغريب في البيت..(يطغي على المكان إلى الدرجة التي كنت أسمع فيها أفكاره تدور حولي كالهباء../ 72 ) والرجل الغريب هو ياسر شقيق سارة زميلة نادية ومع ياسر أمه وستكون نادية مرغمة بالسماح لهما بالبقاء في البيت فهي مستأجرة وهم أصحاب البيت( وأثاثهم موجود في غرفة مقفلة ../88 ).. وهي في وحدتها تنتظر / تستعين: بالجمال القديم الوحيد المتبقي ( بين خرائب العالم الخارجي الذي لم يعد له وجود/ 33 ) فذلك الجمال الذي كان يتمدد ويتمطى في الهواء الطلق، تضاءل وأنكمش خارج مديات العين المجردة وبشهادة الساردة نادية .. ( وربما أحتاج الأمر إلى تلسكوب فضائي جبار لأكتشاف ماتبقى فيه من جمال خافت لايزال موجودا تحت غبار الحرب وكونكريت الحواجز ومخلفات الأنقاض .. ) وانمسخت سيرورة الحياة اليومية بطريق ( مغلق بقفل من حديد ؟ ) وأصبح البلاد والعباد ( مكان جيد للموت لا للحياة ) والموت لايطرق الأبواب بل يستهدف مذهبية التسمية ( تارة أبو عمر الذي قُتل وهو يقف في باب البيت، وتارة أبو حيدر الذي باغته الرصاص وهو يقفل محله قبل أن يذهب إلى البيت../33 ) والحركة تتحرك على كرسي متحرك ( الكل جماعات.. ولاأحد يسأل أو يريد أن يسأل ../55 ) ..
(*)
العباد لايملكون إلاّ شحنة الأدعية وشموع النذور ونوافل الركوع والسجود، يمدون هذه الجسور ليعبرون إلى أمان ولومؤقت ..وبشهادة نادية ( عمتي وجدتي لايمللن من النذور والزيارات، لكن الخذلان كان النتيجة : ( واحدة نذرت أن ترقص في الشارع إن عاد ابنها سالماً من الجبهة، والأخرى نذرت أن تعبر جسر الأئمة حافية القدمين إلى الكاظم لو عاد ولدها سالماً من الأسر../52 ) العمة ستذهب للقبر حافية فقد تحول ابنها من كائن بشري إلى خبر موت.. والثانية سترقص في الشارع رقصة الموت مع خروج جنازة ابنها من البيت ..).. في الحرب لاسيادة لغير الظلام الكاتم الصوت والفوهات .. الظلام قماط المكان والمكين والظلام أشباح ترانا ولانراها ( من شدة الزعل صامتة وتنوس خلف الأبواب..) والمسافات بين البيت إلى الشارع لاتقاس بالدقيقة بل بإحتمالات الموت .. ( يالها من خمس دقائق تقضينها بين الشوارع الأربعة والغزالية .. إنها أخطر خمس دقائق في العالم أجمع../53 ) .
(*)
أم ياسر هي التي تسرد للقارىء من خلال سردها لنادية وجيز حياة الجارة ختام /96.. وختام هي التي تسرد لنادية تفاصيل سيرتها، فتقوم نادية بتقديم وجيز حكائي لسيرة ختام /136 للقارىء.. ثم تسرد ختام سيرة بغداد 137- 141 وجيز الإصطراع والأحتراب بين قوى الحركات الوطنية وتركز أثناء السرد على إنسانية تعامل عبد الكريم قاسم مع العراقيين .
*هناك مفصل يسرده السارد العليم بعنوان ( رسالة لم يرسلها ياسر / ) وأشكاليات شخصية ياسر سنعود إليها في قراءة إنتاجية خاصة ..
*المقالة منشورة في (طريق الشعب) 14/ 8/ 2016
*ميسلون هادي
(1) حلم وردي فاتح اللون / المؤسسة العربية للدراست/ بيروت /2009
(2)سعيدة هانم ويوم غد من السنة الماضية / المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت / 2015