بإحدى الفضاءات بالمكتبة الوطنية بالرباط، التأمت ثلة من المفكرين والمبدعين والأدباء للإحتفاء، بالأديب أحمد المديني ،بعد مسيرة إبداعية امتدت نصف قرن من الإنتاجات الأدبية، ولعلها أغنت الساحة الثقافية والمشهد الثقافي المغربي ، هاته المسيرة الإبداعية والتي عرفت انطلاقتها بإصدار رواية (العنف في الدماغ)سنة1971 ثم لتمتد إلى رواية( رجال الدار البيضاء)سنة 2021،وما زال المعين عند المحتفى ينضب ويتدفق بغزارة العطاء الأدبي،هذا الاحتفاء كان بحضور شخصيات وازنة من مختلف العوالم المتنوعة من الفن والثقافة والأدب والإعلام.
ويأتي هذا الاحتفاء الأدبي المتميز والفريد من نوعه في نوعية الحضور أولا، وثانيا على مستوى المشاركات والمساهمات والقراءات والإضاءات من التجربة الأدبية للمحتفى به، وذلك بمناسبة صدور الطبعة الجديدة والأنيقة من المجموعة القصصية (العنف في الدماغ)، لتتحول اللحظة إلى فرصة للوقوف والمساءلة والتشريح النقدي من خلال الوقوف على أبرز المحطات الأدبية التي عاشها احمد المديني، وذلك من خلال استحضار تجربته الأدبية الغنية في التنوع في مجالاتها متعددة، حيث هناك: الرواية والقصة القصيرة والشعر والنقد والرحلة
والمقالة، وليراكم على امتداد خمسة عقود من الزمن رفوفا من الكتب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأستاذ: مبارك ربيع
الأستاذ: مبارك ربيع في كلمته احتفاء بالكاتب ومسار تجربته الادبية:
ولتنطلق هاته اللحظات الأدبية والحميمية بامتياز، وفي جو خريفي أنعشه دفء القاعة ونوعية الحضور، تحت إشراف وتدبير الأستاذ الدكتور: مبارك ربيع بكلمة ترحيبية، اعتبر فيها أن هاته اللحظة هامة، ودالةK في زمانها، ومكانها، لسببين على الأقل، ثانيهما قبل أولهما ،
أنها مفتتح موسم ثقافي جديد،ومن هاته المعلمة (المكتبة الوطنية)، ويأمل ـ حسب تعبيره ـ أن يتسم هذا اللقاء الاحتفائي بتجدد العواطف والقوى الثقافية المنتجة (بما فيها من شخصية وغيرها)K من ذاتية ومعنوية وأخرى موضوعية مادية، وذلك لما تم تسجيله ومعاينته ومعاناته من الجائحة الكورونية بإسقاطاتها المختلفة المباشرة وغير المباشرة على الشأن الثقافي، وعلى كافة ما يرتبط به على وجه العموم، ولقد سجل الكاتب مبارك ربيع جملة من الإسقاطات الكورونية على الشأن الثقافي كغيره من المجالات بطبيعة الحال، وهو يعلم جيدا أنها لا تمثل أكثر من قيمة سلبية جديدة مضافة إلى ما تراكم مما يشكو منه الجسم الثقافي في بلدنا في أحواله المعتادة، في اعتبارها ثانوية او شبه كمالية ضمن الهم الثقافي العام، مما يتطلب منا وباستمرار أن يتغير بجدية نحو الأحسن والأفضل على المستويين المادي والمعنوي، مؤكدا أن المغرب موقعا ومكانة وعراقة تاريخ وحضارة وتطلعا وشموخا ، لا تكتمل شخصيته ويتعزز حضوره إلا بالبناء الثقافي الجاد والمتجدد، أما أول السببين في توهج هاته اللحظة الرائقة فهو ما تمثله من فرصة اللقاء، أصبحت نادرة ومنشودة في الظروف الكورونية التي نعيش لظاها منذ قرابة سنتين بين وجوه وشخصيات ثقافية ابداعية من ظواهر المشهد الثقافي في بلدنا ، مع ما يتضمنه ذلك من احتفاء بالثقافة المغربية عبر الإجماع على علم من أعلامها المبدعين المجددين في مختلف المجالات الأدبية، من رواية ،وشعر ،وقصة ،وترجمة ،ودراسات نقدية وإعلام ثقافي،إنه الاستاذ المتفرد استاذنا بخصائص وسمات خاصة واستثنائية الأستاذ العبقري المتكامل أحمد المديني، بما له من طلاقة فكرية وسلاسة عبر نفس طويل أصيل على مدى نصف قرن ونيف من الزمان، وهي لحظة بقدر ما تعني من تحمل ومعاناة بقدر ما تحمل من مشاق مادية ومعنوية للمثقف ضمن ظروف اقل ما يقال عنها إنها غير مسعفة ، واستحضر من ذلك المشهد، أبسط ما فيه من أحوالنا تلك المعتادة منذ نصف قرن ، وهو المتمثل فيما يشكله إصدار عمل إبداعي وإيصاله إلى القارىء بمشقة مادية على وجه الخصوص مقارنة مع سلاسة ظروف اليوم، وبقدر ما تعني أيضا ومن تجذر روح المواجهة والمثابرة وعمق الفيض الإبداعي المعطاء لدى الأديب أحمد المديني، ومن تم فهي حمالة مثال نموذجي ثقافي إلى الأجيال مؤداه أن الثقافة بوجه عام والإبداع على وجه الخصوص مهما تمثلت في تجلياتها النهائية بمنتهى رونق وصفاء وجمال فهي ليست مجرد نزوة زمام أو ظروف عابرة بقدر ما هي رؤية وموقف ومسؤولية كما تجسدت في زاخر عطاء الأستاذ: احمد المديني .
وإذ يحتفي الاستاذ مبارك بهاته اللحظات الثقافية النبيلة، فإنه يحس بعمق التقدير والإكبار لطائر الضفاف الجميلة لأديبنا الكبير أحمد المديني، وهنأه على منجزه الابداعي على مدى نصف قرن ثقافي متمنيا له المزيد مع موفور الصحة والعافية والهناء،كما وجه تحية خالصة له أديبا مبدعا وإنسانيا وفيا رائعا .
وأغنت لحظات هذا الملتقى الرائع بمشاركة نخبة من أعلام الفكر المغربي في مجالات الثقافة المختلفة من النقد والإبداع أبوا إلا أن يستوفوا، وما أكثر ما وفوا واجبهم نحو الثقافة المغربية في تجلياتها ، على مدى نصف قرن عبر الحضور المتنوع لأديبنا أحمد المديني، ومن بين الحضور الادباء والنقاد والمفكرين من أمثال: محمد الأشعري، شاعر وروائي، ووزير الثقافة الأسبق، الذي ما تزال لمساته على مؤسساتنا الثقافية حاضرة وملموسة، والأستاذ عبد القادر الشاوي الروائي المناضل والكاتب الملتزم،و الأستاذ نجيب العوفي، فارس النقد كما يحلوا له ان يلقب به، ثم الأستاذ الصديق ابراهيم الخطيب الكاتب المتخصص في الترجمة الأدبية والنقدية والباحث المتخصص في الدراسات الأدبية، كل هؤلاء وغيرهم حضروا هذا الاحتفاء بنصف قرن من مسار تجربة احمد المديني .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأستاذ: محمد الأشعري
مداخلة الاستاذ: محمد الأشعري
بدأ الأستاذ: محمد الأشعري كلمته معبراً عن سعادته بهاته المساهمة، في حق زميله المحتفى به، مبيناً ومستعرضاً،عن بعض الوشائج التي تجمعه بالمحتفى به، وهو يستعيد من خلال هذا اللقاء شذرات من الزمن المشترك قائلاً (نشترك في شيء عميق، ومستمر، في هذا النصف من القرن الذي عبرناه بأجسادنا ولكن أيضا بنصوصنا، وأحلامنا، وخيباتنا، ونجاحاتنا الصغيرة، وعبرناه أيضاً بكل الأمل، الذي ما زال يسكننا في أن تعرف بلادنا أياماً أفضل)، وهنأ في البداية صديقه الأستاذ : أحمد المديني، على هذا التراكم الاستثنائي في تجربته الإبداعية، والتي لاتوجد تجربة أقوى وأكثر انتظاما من تجربة الأستاذ أحمد المديني، (نحن معرفون بالأسف ببلد الكاتب، صاحب الكتاب الواحد، ولسنوات ظل كتابنا مقلون جداً في إنتاجهم، ولدينا أسماء لامعة في تجربتنا الأدبية، لم يكن لهم سوى كتاب واحد، يمثلهم عن جدارة واستحقاق الشاعر الكبير احمد المجاطي الذي لم ينشر سوى ديوان واحد، هو ديوان (الفروسية)، في حين أن كاتبنا الاستثنائي له ما يفوق من سبعين كتابا، تحتل فيه الرواية مجالاً واسعاً، لكن فيه القصة القصيرة، الدراسة الأدبية، والدراسات النقدية، والرحلة والشعر والمقالة الصحفية، وله من الغزارة المعرفية بمكان، و تراكم كبير ومنتظم واستثنائي في تاريخ الأدب المغربي، فلذالك فأنا أهنأه مرة أخرى على التراكم، وهذا الأ خير لم يكن ممكنا لولا تفرد الاستاذ : أحمد المديني، بإخلاص صوفي للكتابة الأدبية وعلى مدى سنوات، (رغم كل الجعجعة التي عشناها في السبعينيات وفي الثمانينيات، ورغم انخراطه في العمل الصحفي وفي الصحافة الثقافية على وجه الخصوص وهي تأكل جل الطاقة وجل الوقت الذي يكون رهن اشارة الكاتب رغم انغراسه ايضا في التربة السياسية والثقافية للبلد، ليس هناك أديب بهذا المعنى لامس كل القضايا التي عاشتها البلاد ملامسة مباشرة أو غير مباشرة مثل ما فعل أحمد المديني)، وقد يكاد يكون الكاتب الوحيد الذي شارك في المسيرة الخضراء، ولم تكن مشاركة استعراضية حيث كانت مشاركة مهنية، يوميا كان ينقل أجواء المسيرة الخضراء في جريدة المحرر، وبغض النظر عن هذا الإنخراط الفعلي في الحياة العامة للبلاد، فان احمد المدني يمثل نوعية من المثقفين الذين عاشوا تحولات المغرب بوجدانهم، واستطاعوا أن يمتحوا منه ملامح في كتاباتهم، وباستمرار لن يكون استطراداً أن عمله في الصحافة الثقافية وفي (الملحق الثقافي لجريدة المحرر) على الخصوص كان عملاً رائداً ولحسن الحظ في هذا البلد، أن نجد أديبين كبيرين : (عبد الجبار السحيمي في جريدة العلم الملحق الثقافي) و(أحمد المديني في الملحق الثقافي لجريدة المحرر) فهما صنعا النسيج الأولي للأدب الحديث في المغرب من خلال الأسماء التي كانت تنشر في الصفحات التي كانوا يشرفون عليها .
عبر هذا التقديم البسيط، استعاد الاستاذ : الاشعري شيء شخصي بينه وبين المديني الذي تعرف عليه في بداية السبعينيات، عبر لقاءآت عابرة وسريعة، لكن في منتصف السبعينيات جمعهما لقاء أدبي في فاس، في قرءآت شعرية، وقصصية، وفي قاعات (كلية الآداب بظهر المهراز)، في شهر دجنبر، هاته النقاشات صاحبتها أجواء من الخطاب البوليميكي، الذي ينتقل فيه الأُدباء من الحديث عن الأدب، الى الانغماس في السياسة، والقضايا القومية، والقضايا الاجتماعية وغيرها، لأنهما مسكونان طبعا بالأدب، ولكن أيضاً بالقضايا المحيطة بهما وبالمناخ العام، الذي كانا يعيشان فيه، ولاشك أن أحمد المديني، تذكر هاته النقاشات وكان يسميها بالنقاش الشامل على طريق الكرة الشاملة، ( الكل يدافع الكل يهاجم في تلك النقاشات الطويلة والتي تنتهي ببيان شعري وبعدد من التوصيات)، تذكر محمد الأشعري خلال هاته الكلمة الأستاذ أحمد المديني (دعاني الى العودة معه من فاس، وهو متجها إلى الرباط، ركبت في سيارته التي كانت تبدو خارجة للتو من فيلم ايطالي، وفي المقعد الأمامي جلس محمد زفزاف، وفي المقعد الخلفي جلسنا أحمد الجماري وعبد ربه، طبعا أحمد المديني كان وقتها يرتدي معطفه الأسود الطويل ويسدل على كتفيه شعره الفاحم)، وكان يقول للبلاء طيري أو أطير، وبالفعل أول ما رأيت منه بعد تلك النقاشات والجدالات، رأيت منه شاباً يطوي المسافات طياً، ربما تخلف لدي من تلك المسافة رعب حقيقي من مصاحبته في الطريق، لان السرعة التي كان يقود بها سيارته سرعة لايضاهيها سوى التحليق، ولعلني ارتعبت كثيراً، ودخت في الطريق وجدتني اصرخ في مكان ما : فين احنا ؟ فرد علي هادئا احنا في وادي نفيفيخ، منذ ذلك الحين ارتسم طريق الدار البيضاء في ذهني، بثلاثة أشيا ء: وادي نفيفيخ، والجسر المعلق، وشواء بوزنيقة، وذهبت إلى الدار البيضاء، ولماذا ذهبت إلى الدار البيضاء ؟ لماذا لم انزل في الرباط ؟ وجهتي الطبيعية آنذاك ؟ أقول الآن بشكل بعدي، بأن الغواية هي التي قادتني إلى الدار البيضاء، والغواية للمكان، لان الدار البيضاء كانت من الكثافة ومن القوة الوجدانية في نسيج المدن المغربية، بحيث لا يمكن أن تطمع في الإقتراب منها، وفهمها والتسلل الى خباياها، لا أظن أن أديبا مغربيا لم تغويه هذه بطريقة او بأخرى، وغواية رجال الدار البيضاء لقد مر وقت طويل بالنسبة لي لم أكن أعتبر فيه الدار البيضاء، وجهة مكانية رغم أمكنتها اللذيذة وهي كثيرة، ولكن وجهة انسانية نحن نذهب إلى الدار البيضاء لنلتقي بالجماري، والزفزاف، وفي مرحلة ما بالشيخ الذي كان رفيقهما في المعاريف، واحمد بن ميمون الذي كان أيضاً هناك، ونذهب لنلتقي بمحمد وديع الأسفي، وثريا السقاط ، والمجاطي، ووديعة الطاهر، وانوس سعد الله، وعدد كبير من الناس كانوا جغرافية)، هكذا صور لنا الأشعري رحلته مع الأستاذ : أحمد المديني في طريقه الى البيضاء، وبداية عشقه لهذا الفضاء والمكان الصاخب، الذي كان مصدر إلهامه لأدب الدار البيضاء .
ثم انتقل بعد ذلك الاشعري الى الحديث عن حقبة السبعينيات وهي فترة موسومة وما قبلها بقليل في النصف الثاني من الستينيات، بعنف كبير مارسته السلطة على المجتمع، وكانت فترة اعتقالات كبيرة، وجل المعتقلين يعرفهم أحمد المديني، وكانت محاكمة مراكش الكبرى، وقد كان فيها أزيد من ثلاثمائة معتقل سياسي، وكانت المحكمة العسكرية، تحاكم عدداً من قادة أحزاب اليسار، وتذكر أن عدداً من هؤلاء القادة عندما خرجوا قبيل المؤتمر الاستثنائي لحزب الاتحاد الاشتراكي، كانوا ما يزالون يحملون في أجسادهم آثار التعذيب الذي تعرضوا له، ومنهم عمر بن جلون، الذي كان يترأس اجتماعات كثيرة واقفا لأنه لا يستطيع الجلوس بسبب ما تعرض له من عنف، ولقد وجد الكاتب هذا العنوان مطابقا للمرحلة، لأن المرحلة كانت عنيفة جداً عبر محاكماتها وتعذيباتها، وعبر محاولاتها الإنقلابية، وعبر الحركات الاجتماعية التي كانت من أقوى الحركات الاجتماعية في ذلك الوقت، (اضرابات الفوسفاط،) (اضرابات السكك الحديدية) وفيما بعد اضرابات قطاعات أخرى، وكل هذه الإضرابات والحركات الاجتماعية جوبهت بوحشية لا مثيل لها، لذلك وجد أن (العنف في الدماغ) ربما هو المشهد المقاوم، الذي يقومون به عندما يستدرجون إلى أدمغتهم، وإلى أذهانهم، ليروضوا به هذا العنف وهذا الشيء( العنف) هو البحث الجمالي، والبحث في إنتاج الحكايات، وإنتاج الأدب، الذي بدونه لا يمكن أن نبني مجتمعاً للحرية، ومن المؤكد أن هذا العمل الذي هو عمل فريد، لم يكن فريداً، فقد تزامن مع ظهور نصوص ستظل في الذاكرة المغربية، نصوصاً مؤسسة : ( المرأة والوردة)، لمحمد زفزاف، أعمال خير الدين : (اكادير)، وقصص وأعمال محمد الهرادي، وقصص ادريس الخوري، و(الغربة) لعبد الله العروي، واستسمح هناك العديد من النصوص كانت في ذلك الوقت مؤسسة في الشعر كان : (ما قبل الكلام) : لمحمد بنيس، و(اهداني خوخة) لمحمد صبري، بمعنى أن هذا الانبثاق العنيف كان انبثاقا فردياً لأحمد المديني، ولكن أيضاً في نفس الوقت كان انبثاقاً جماعياً لنصوص فارقة في تاريخ الأدب الحديث وبصفة عامة كان هناك المناخ السبعيني الذي هو مناخ جمع الجميع في تمردهم، في ثورة جيلهم،على المحافظة وعلى التقليد، شعراً، وقصة، وغناء (ناس الغيوان)، الى الحركة التشكيلية التي كانت كما تقول طوني مارينيMaraini Toni،(اللغم الذي انفجر في الساحة الثقافية المغربية إلى الحركة المسرحية ) وخصوصا مسرح الهواة، التي كان لها طبعا وقع جميل، ثم السينما على يد بعض السينمائيين الطلائعيين، الذين كانوا في ذلك الوقت مؤسسين لكن مع الأسف فان هذا التأسيس سرعان ما انكسر بعد ذلك في السنوات التالية، حيث أن الإنتاج الأدبي لم يكن إنتاجا مغلقاً، بل كان إنتاج له وشائج مع الواقع الاجتماعي والسياسي في البلاد، وله أيضاً وشائج قوية مع مختلف التعبيرات الفنية، والجمالية، والتي كانت سائدة في المغرب، وعندما ننظر إلى هذا التاريخ المركب والبسيط، وفي نفس الوقت المليىء بالممكن، والمليىء بالمستحيل، وعندما تستعيد تلك الفورة القوية التي كانت في اللغة وفي البناء وفي طريقة التناول وفي المقاربات المجالية واذا جاز لنا أن نستعمل صورة استعارية لوصف هذا المسار، فإن الروائي والكاتب يميل إلى استعادة الأشياء التي تنام في هاته الاعماق، وربما لهذا السبب يميل الأستاذ أحمد المديني من كتاب الى آخر، وإلى استعادة هاته الأشياء التي استقرت في اعماق هذا النهر الخمسيني حقبة الستينيات، ولقد راينا ذلك بطريقة جلية في رواية (ظل غريب)، ورايناه بطريقة مباشرة في رواية ( رجال الدار البيضاء)، التي عندما يقرأها أي شخص عاصر أحمد المديني سيتقاسم معه كثير من الاشياء المرتبطة بهذه الرواية، إن المديني لم يموه كثيراً في هذه الرواية، فقد وضع الشخصيات باسمائها الحقيقية، وبعض الأسماء وضع لها أسماء ايحائية تكتشفها بسهولة، والأجواء كلها أجواء حياتنا التي نزلت إلى أعماق النهر، والتي استطاع أن يستعيدها بتلك القوة، وبتلك الدقة في رواية تفوق ستمائة صفحة، ولكننا نعبرها كما نعبر حياة سريعة، وليرجع لنا الكاتب المبدع الاشعري الى النقطة التي ذكرها بخصوص العنف في الدماغ، انها كانت مجموعة تمثل إلى حد كبير، كما أن الدار البيضاء ايضاً تجسد إلى حد بعيد حياته، وليس صدفة أن الروائي ليس كاتبا للنص ولكن أيضاً نص داخل النص، وهكذا استطاع احمد المديني خلال خمسين سنة أن يمر بسلاسة وسهولة من سرد العنف على سرد الهوى .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الاستاذ: نجيب العوفي
مداخلة الاستاذ: نجيب العوفي
ألقى الأستاذ كلمة في اللقاء الاحتفائي بالكاتب أحمد المدينين بمناسبة صدور الطبعة الجديدة من مجموعته القصصية : العنف في الدماغ في الذكرى الخمسينية لصدورها قائلا ما يلي :
إن هذا اللقاء الاحتفائي أتاح له فرصة نادرة لتجديد اللقاء بأصدقائه القدامى والجدد، هذا اللقاء سيبقى في قلب محور تواصل بينه وبين الاستاذ احمد المديني ،عميد الأدب ، الادب المغربي الحديث،وقدم كلمة شهادة عجالة عن احمد المديني وخمسون عاما من الادب، (لا أخفي أيها الإخوة أني أحس بدبيب خشوع رهيبة، وانا محفوف في هذه الجلسة، وعلى هذه المنصة بوجوه وأسماء أثرية مضيئة من مغرب السبعينيات والثمانينيات الملحمي أحمد المديني، عبد القادر الشاوي،محمد الأشعري، ابراهيم الخطيب، ووجوه سبعينية مخضرمة حاضرة معنا في هذه اللمة الادبية الاحيائية، وجوه تعبر من زمان مغربي رمادي سلس القياد يخفض جناح الذل، إلى زمن مغربي حار وحرون منذور للمجابهة والتحديات وعلى ايقاع ذلك الزمن الساخن، كان الادب يعيش عنفه في الدماغ ،حسب الشفرة الابداعية، لرفيقي المرحلة وفارسها المغوار، احمد المديني ،وقد جدت واشادت بلا شك وقائع ورجات ومتغيرات منذ أن سكن صهيل الجيل الجريحة ،حسب الشفرة الاستعارية، للشاعر والروائي ،محمد الاشعري وتمخض اليسار المغربي ،وهو معقد الآمال عن تجربة الحلم والغبار حسب الشفرة الاستعارية الاخرى ،لشاهد المرحلة عبد القادر الشاوي، او توفيق الشاهد في رواية اخرى، وعلى الرغم من الأسماء والإصدارات عددا، ومددا ،وتقاطعت الحساسيات، والرؤى واللغات ودخلت وسائط التواصل على الخط فشرق الادب المغربي وغرب وصال وجال على سجيته وهواه في حرية رخية كان دونها خرط القتاد في الازمنة الماضية ومن تم تبقى مرحلة السبعينيات والثمانينيات من القرن الفارط بمعزل عن اية نوستاليجيا محطة ادبية وتاريخية مضيئة لاينكسف وهجها واحسب أن جيل السبعينيات يكاد يكون محطة فارقة وساقته في سردية الادب المغربي الحديث على غرار اجيال كانت لها بصماتها وتواقيعها)، كما استحضر الاستاذ : نجيب العوفي جيل النكبة العربية1948 وجيل الستينيات في مصر بعد هزيمة 1967 حتى لانذهب بعيدا في التاريخ، فمعظم افراد جيل السبعينيات من مواليد عام النكبة وما جاورها عاشوا مآسي وأحزان ،هزيمة 1967 حتى النخاع ،فهم (جيل القدر) حسب رواية رائدة مطاع الصفدي السوري، وبالمناسبة فمعظم أفراد جيل السبعينيات من مواليد عام النكبة وما جاورها ، وعاشوا دوار هزيمة 1967 حتى النخاع. . . وليس في قولنا هذا أية نرجسية جيلية ، أو طللية جيلية ، وإن كان الزمن العربي برمّته في ألفيته الثالثة ، قد استدار إلى زمنه الطللي – الجاهلي، قد لا تنظر الأجيال الجديدة إلى أدب الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الفارط بعين الرضا،فتحيل جزءا كبيرا منه على الرفّ . معتبرة إياه من كلاسيكيات الأدب المغربي . او كما يروج عادة ، من مخلفات زمن الإيديولوجيا والإلتزام، ولعل عبارة (القرن الفارط) في حدّ ذاتها، مستفزة ومنفّرة للأجيال الجديدة . وهنا مربط الإشكال بين جدلية الأجيال . هنا تلتبس مفاهيم الزمن الأدبي، ومعايير الحداثة الأدبية ، حين يتسلل مكْر التاريخ لخلط الأوراق والمفاهيم والقيم،بين عشية وضحاها، وراح الكاتب والروائي نجيب العوفي مستفيظا في هذا الكلام،أن ما ينقص أدبنا اليوم ، هوشيء من ملح الإيديولوجيا والالتزام، وحتى نتخفّف من الحمولة التاريخية نقول إن ما ينقص أدبنا اليوم، هي البوصلة الفكرية (المقاصدية) الموجهة لخريطة الكتابة،مستحضرا، أسئلة سارتر الشهيرة / ما الكتابة ، لماذا نكتب، ولمن نكتب ؟
هذه الأسئلة الجوهرية فيما يبدو، غير واردة أو غير معنية لدى كثير من كتاب الوقت .علما بأن هذا الوقت حصرا وتحديدا، أكثر استدعاء لهذه الأسئلة، وما تُرانا نعيد من هُمومنا، إلا مكرورا،أشد عتقا، إن أدباء السبعينيات والثمانينيات المُخضرمين، عابرون للأجيال الأدبية صامدون ومرابطون ومتجدّدون في سُوح الكتابة والإبداع والممارسة الثقافية ، ما وَهنوا أو تراخوْا وإن وهَن العظم واشتعل الرأس، بل إن رموزا منهم ما زالت في الصفوف الأمامية من المشهد الأدبي المغربي، وليس ثمة قطائع في السيرورات الأدبية ، والادب لا يجبّ بعضُه بعضا) وقد أصاب الكاتب أحمد المديني وسدد ، حين بادر إلى عقد هذه اللمّة الأدبية احتفاء بخمسين عاما من الأدب المغربي ، من خلال روايته (العنف في الدماغ ) 1971 إلى آخر رواية له (رجال الدار البيضاء ) .
وهو الاحتفاء الذي يتوج كذلك صدور الطبعة الجديدة من مجموعة ( العنف في الدماغ ) مشفوعة بقراءات جديدة،إنه احتفاء رمزي جميل بالأدب المغربي الحديث من خلال أحد رموزه المخضرمة الفاعلة, ولسنا مبالغين إذا قلنا بان ( العنف في الدماغ ) هي بمثابة بيان ثوري مبكر ( مانيفيست ) للحداثة القصصية المغربية، سواء في نهجها القصصي الخارج عن العروض القصصي، أو في مقدمتها النظرية التي تطرح تصورا حداثيا مبكرا للحداثة القصصية ، وهي مقدمة تاريخية بامتياز ، وهاجس التجديد والتحديث واختراق الأزمنة ، هو الذي سيلازم المديني عبر مساره الأدبي الطويل ، كفينيق متجدد باستمرار، عابر للأجيال منخرط في غمار الأدب المغربي، لايلوي إلا عليه يسبح بحمد ربه بكرة واصيلا.
من (العنف في الدماغ ) إلى (رجال الدار البيضاء) مسار نصف قرن بالتمام والكمال من الادب ،راكم فيه المديني وحسب التعبير العربي ، حمْل بعير من الكتب ، موزعة بين القصة والرواية والرحلة والدراسة النقدية والترجمة ، كتب أثبتت حضور واستمرارشعلة السبعينيات عبر الأجيال ، وليواجهوا اليأس والإحباط وكآبة الوقت، وهذه بالضبط هي رسالة الأدب في زمن تغييب الأدب،وجميل أن يختم الأستاذ العوفي هاته الكلمة بمقطع قصصي ، قصير من نص: (العين الثالثة) من مجموعة( العنف في الدماغ)حيث يعلن السارد على الملا حقه في الصراخ وبصوت عال:
(...إني أملك أن أصرخ وأظل أصرخ ، إنه عاري أكثر منه قدري . ولا أحد يا بيدباي ( بيددبا الحكيم ) يستطيع منعي من الصراخ ، ضعوا الكمامات ، ضعوا المقصلات في المصاعد والمنحنيات ، والصرخة دوامة ، والدوامة جحوظ المسعورين في تجاويف البحار ، من يكبت السعار ؟ ) ، ص 101 من الأعمال الكاملة لأحمد المديني ، وزارة الثقافة . 2012 ، وما أشبه الليلة بالبارحة،في طلائع السبعينيات، من القرن العشرين، يصرخ المديني بصوت عال منددا بالكمامات على الأفواه، وفي عشرينية القرن الحادي والعشرين ، أي بعد نصف قرن كامل من الزمن ، تكتمل المهزلة – الفجيعة ، فتهجم الكمامات طوفانا كاسحا على الأفواه والوجوه،
وما أحوجنا عودا على بدء، في زمن الجائحة وكمامات كورونا التي أضافت كمامات جديدة إلى كمامات قمعية قديمة .. وجرت رياحها بما يشتهي أصحاب الشوكة والسلطة ، ما أحوجنا في زمن الانهيارات والانكسارات والهرولات العربية البيئسة، إلى صرخات وصيحات احمد المديني السارية المفعول والصلاحية إلى إشعار آخر،ما أحوجنا حقا إلى عنف في الدماغ جديد منقح ومزيد، فتحية لمولاي أحمد المديني).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الاستاذ: عبد القادر الشاوي
مداخلة الاستاذ:عبد القادر الشاوي
بدأ الأستاذ عبد القادر الشاوي تدخله بتقديم الشكر لمسير الندوة والى كافة الادباء والحاضرين لهاته الندوة ، وخاصة الاستاذ المحتفى به، فبين الأستاذ الشاوي أن فيك وعنك وحولك يطيب الفكر والثناء، وأنت أهل لكل قول حسن، بدوري أهنأك أمام هذا الحضور الكريم، بصمودك الثقافي الهائل الذي لا زال مستمرا في الزمان، ولكنه بلغ سنواته الخمسين، وأثني على تجربتك الثقافية المتواصلة ،بكثير من التقدير والإعجاب، سأتكلم عن مفهوم التجريب كملمح من ملامح الابداع القصصي لدى احمد المديني، وساحيط بالموضوع من خلال بعض المداخل آمال أن تذكرنا جميعا، بما كنا عليه قبل خمسين سنة، عمر هذا المجهود الخلاق الذي عبر عنه المديني في مساره الثقافي، أشياء سبقني الى ذكرها الصديق العزيز الاستاذ محمد الاشعري وصديقي ورفيقي الاستاذ نجيب العوفي، ولكنني سأنظر اليها من زاوية مختلفة باختصار، من ذلك مثلا أن نشر الكتاب الأدبي والابداعي على وجه الخصوص في مغرب ذلك الوقت لعموم من عاش تلك المرحلة كان محدودا جدا على نحو واضح، واذكر ان هذا النشر في أعمه، كان يعد بالنسبة للكثيرين حدثا ثقافيا،أو أدبيا يوجب الاهتمام وفي كثير من الاحيان كنا نراه بنوع من الاعجاب
كان المعطى الرئيسي الذي اشتغلت عليه مجموعة أنفاس ، وهي بالأساس مجموعة فؤنكفونية،لكن الطموح لديها لم يتغيير ،بعدما فتحت فضاءاتها ومجلاتها للادب المغربي المغاربي والعالم الثالثي الخارج من مرحلة التحرير، وكان يغلب عليها تيار اشتراكي ماركسي القريب من حزب التحرروالاشتراكية، وكان على رأس هاته المجموعة المرحوم : عزيز بلال، وابرهام السرفاتي، وعبد اللطيف اللعبي،ومولاي أحمد المديني...، ويمكن اعتبار هذا النوع من التجربة الأدبية نوعا من النقلة الموضوعية في التطور الأدبي، هو استجابة لسؤال يتطلب تجريب اجناسي مثلما كانت الحياة الثقافية والفكرية الناهضة نفسها تنشد التطور والتغيير من خلال الاهتمام بمعنى الادب وحداثته واهميته ودوره وطبيعته وعلاقته بالقارىء وبمجال نشره وكذا بالمحيط الاوسع الذي مجال القراءة والانتشار، هذا فضلا عن المجال الاوسع الدي يمثل في حالتنا العالم العربي.
في التجربة المباشرة لاحمد المديني من خلال العنف في الدماغ، إشارة الى ان مفهوم التجريب ارتبط بثلاثة عوامل:
أولها: ان احمد المديني كان في تلك المرحلة ادبا ناشئا يعني في بداية حياته الادبية يحاول في ميدان الكتابة، وفي بيئة شحيحة على جميع المستويات، بما في ذلك على مستوى النشر.
ثانيا:أنه كان منتسبا الى جامعة عصرية( كلية الاداب بفاس) تلك الجامعة التي اعتبرت باستمرار كما نعلم طليعة المجتمع ليس الفاسي فقط ، ولكن المغربي كذلك، والمجتمع الثقافي نفسه من حيث الوعي والادراك والانخراط في الشان العام، وأكبر دليل على ذلك انها خرجت العديد من الكتب والشعراء والباحثين فضلا عن الاطر التعليمية التي كانت تدرس فيها، كانوا من اعلام الثقافة والفكر في المغرب : أحمد اليابوري، محمد برادة، السرغيني، ابراهيم السولامي الى آخره.
ثالث هاته العوامل أن المديني ارتبط بمجلة انفاس وهي حالة فريدة من نوعها،إنه صوت أدبي حديث العهد بالتخرج يرتبط بمجموعة ادبية ثقافية انفاس وعندها منشورات دار الاطلنط، وربما الكتب الوحيد الذي صدر باللغة العربية عن الاطلنط هو العنف في الدماغ، والباقي كله باللغة الفرنسية.
هذه العوامل مهمة في تكوين هذا المنظور الذي سماه التجريبي ،الذي دشنه احمد المديني في مجموعته( العنف في الدماغ) بالا ضافة إلى اهتمام المديني بالخصوص بالقصة القصيرة كتابة وليس بالشعر في بداية حياته على الاقل مما نشر منه، ولكن سيطور هذا الاهتمام إلى انشغال جامعي بحثي فيما بعد حقق به دبلوم الدراسات العليا:( الفن القصصي في المغرب)، ولم يكن الاهتمام بالفن القصصي بالخصوص في المغرب في هاته المرحلة على المستوى الجامعي الا من خلال اطروحة السيد: أحمد اليابوري التي نشرت فيما بعد، وتلتها اطروحة احمد المديني1978 ، هذا الاهتمام كان مهم لماذا؟لانه اطلعه على طبيعة المتن من الزاوية التاريخية والمقارنة ثم طبيعة الاسهامات المنتجة في هذا المتن القصصي وعرفه بممارسيه، وكانوا في تلك المرحلة من الشهرة بمكان نذكر منهم: عبد الجبار السحيمي، ومحمد الهراد ونجيب العوفي والذي بدوره نشر بعض القصص في الملحق الثقافي.
من هاته الناحية اعتبر (العنف في الدماغ )، نتاج ادبي تجريبي في السرد القصصي المتحلل من الاشكال السابقة عليه، في الابداع القصصي المغربي، الذي كان قد استقر في مجال القصة على التركيز ،والتلميح، والاقتصار في الابداع عن الموقف في الابداع والحداثة، حيث اختار المديني صيغة مختلفة، وارى ان العنصر الجوهري في هذا التجريب قام على بلاغة اللغة في التعبير عن التفاعلات التي تمور في الوجدان وفي العقل ولا تستقر على أي فعل ، ولا تجيب ايضا على أي سؤال، إنما مرادها أن تحقق ما يمكن تسميته با لإنفجار الذاتي النابع من البوح الرامي ، وإن كان البوح يرمي إلى شيء، إلى تغيير المعنى والأشياء واضفاء طابع المغايرة على المجهودات وعلى الكلمة نفسها، وهكذا جاءت هاته اللغة على منوال ما أراد لها صاحب التجريب ، أي معبرة لا واصفة بقوة عن الشعور الداخلي باهمية التغيير لها بمنطق مختلف في الوصف الذي لا يعتد بالتفاصيل، ولا بدقائق المواقف ، بلاغية التعبير من حيث اشرت الموقف الرافض للسكون والثباث، وهي تقريبا لغة ذاتية مستنبطة من طبيعة الموضوع الذي ترمي الى التعبير عنه بل ويمكن القول أن العنوان الذي اختير للمجموعة وقد اشير إلى ذلك، كان مثيرا واستفزازيا ومزاجيا ايضا يعكس أن الإعكاس يفيد القصدية طبيعة التجريب الذي رآه أحمد المديني في مجال بلاغية اللغة هذه التي ذكرتها، فاهمية اللغة المعبرة كما أشرت أنها مولدة ومتدافعة ،أي أنها كانت تتفاعل من منظور ذاتي وبطريقة ضدية مع اللغتات الزائدة في مجال القص والإبداع بشكل عام، أي مع نوع من الانسجام اللغوي المرتبط بالمعنى في مراهنته على الإبلاغ والإفادة والتحصيل والوضوح والتقرير ايضا، وفي تقديره الشخصي إنها بطوابع العامة كانت تطبع الاساليب المتهجة في مجالات فكرية وادبية كثيرة، ولا أعني بأنها كانت سلبية أو ايجابية ، ولكنها المبرر الذي ربما جعل اطلاقا مما ذكرت من عوامل، فأحمد المديني ينحاز الى مفهوم التجريب في بداية حياته الأدبية، ثم انه كان صوتا في تجريبه اللغوي الخاص ، في حين لم يتطور التجريب في الأدب المغربي الحديث كتيار له خصائص معينة ، بل يمكن القول ايضا إن المديني تخلى فيما بعد عن مفهوم التجريب، كما انتهجه في بداية علاقته بالكتابة القصصية، وبذلك قد يكون عاد تدريجيا وربما في مناخ جديد من الإبدالات والتراكمات الى حاضر سماه هكذا في عجالة نيو كلاسيكية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الاستاذ: ابراهيم الخطيب
مداخلة الاستاذ: ابراهيم الخطيب
في البداية شكر الاستاذ ابراهيم الخطيب ، الأستاذ: احمد المديني على دعوته للمشاركة في هاته الجلسة، وفي الذكرى الخمسينية لصدور مجموعته القصصية الاولى: (العنف في الدماغ)، قائلا في مداخلته أنه سوف يتحدث عن الكاتب ككاتب القصة القصيرة وليس ككاتب رواية، وسيركز حديثه حول مجموعته القصصية:( رؤيا السيد سين)، و التي مثلث تطورا جديدا في كتابة احمد المديني، انتقالا من العنف في الدماغ التي شكلت نوعا من الرعونة اللغوية الى سرد قصصي كلاسيكي، ولكنه مستمد من حياة احمد المديني ويعني بالضبط من اقاماته المتعددة في العراق وفي فرنسا وفي الجزائر وفي الدار البيضاء، وفي ذاكرته صورة تحضرني بين آونة وأخرى، ففي أوآئل السبعينيات كنت اقيم صحبة محمد الاخضر وامين الخمليشي بشقة صغيرة تقع عند زاوية التقاء شارع علال بن عبد الله مع زنقة الاسكندرية في الرباط، وكان يتردد حينها على احدى المقاهى المواجه لمبنى جريدة العلم حيث يتوارد الاصدقاء في وقت معلوم من النهار الواحد بعد الآخر للتشاور...وفي التعليقات حول الحياة الثقافية والحياة السياسية، وذات صباح وقبل أن يحتل مكانه في الشرفة وراء الزجاج المشرف على الشارع ، فإذا بي ألمح احمد المديني جالسا الى الكونتوار وهو يكتب باستغراق وقد وضع إلى جانب أوراقه مشروبا، علمت فيما بعد انه كان يكتب قصة قصيرة يريد تسليمها الى جريدة العلم فور الفراغ منها ، ولم ينسى الاستاذ ابراهيم الخطيب قط ،هاته الصورة ليس لكونها ذكرى فقط ، وإنما لأنها جسدت في خياله جوهر احمد المديني ككاتب فقد كانت الكتابة بالنسبة له ولعلها لاتزال عملية تخيل مباشر قوي يعتمد على تدفق لغوي واستلهام عفوي، وقد تكون كتابة المديني تغيرت اليوم وهي بالفعل تغيرت المشهد القديم ، مشهد ذلك الفتى الطويل النحيف بالشعر الكثيف والغزير والذي كان قد جاء من الدار البيضاء على عجل ليكتب في الرباط قصة واعتبر احمد المديني، أحد ابرز كتاب القصة القصيرة في المغرب، لأنه ما يزال يمارس هذا الشكل الأدبي الذي يعتبره بعض الروائيين مجرد مرحلة إلى الإنتقال الى الكتابة الروائية، وآخر مجموعة قصصية قرأتها للمديني: (عند أبو طاقية)،وما يثير استغراب الاستاذ ابراهيم الخطيب أن احمد المديني يجمع بين الوان عدة من الكتابة الادبية من قصة ورواية ومقالة وشعر مما يفسر انه كاتب متكامل بكل ما في الكلمة من معنى،وفي قراءته لكتابة احمد المديني عبر هاته السلسة التي بداها من السبعينيات الى الان يبدو للكاتب ابراهيم الخطيب ان احمد المديني تأثر في بدايته:
يكتب أحمد المديني، ولكن القصة القصيرة تلفت انتباهه بكثافثها وإعجازها الذي يشبه في بعض الأحيان اعجاز بناء شعري..ربما فسرت لنا هاته العلاقة أيضا لما ذا يكتب الشعر، وقد فوجئت قبل قليل بأنه أصدر أربعة دواوين وإنما أعرف فقط ديوانا واحدا : (أندلس الرغبة)، ربما فسرت لنا هاته العلاقة لماذا يكتب الشعر ولماذا يصر خلافا لبعض الكتب على نشر شعره...
أما التيار الأول يتمثل في الممارسة القصصية لكل من محمد زفزاف، وادريس الخوري، وعبد الجبار السحيمي، ومحمد شكري، ومحمد برادة، ومحمد ايت بوعلو، وهم أبرز قصاص الجيل الثاني ممارسة ،وتستمد هاته التجربة جذورها من القصة القصيرة كما تطورت في مصر ولبنان والعراق، مع الاهتمام بالجانب الفردي أبرز ذاتية السارد في محاولة لتطوير الرؤية القصصية عن طريق فك ارتباط اللغة بالايديولوجيا، ولقد احتك احمد المديني بهذا التياروتأثر به.
أما التيار الثاني الذي تقاطع في حياة المديني فيتمثل في التفكير الادبي الذي عملت مجلة أنفاس على نشره من خلال الحث على نقذ مبادىء الخطاب الأدبي الكلاسيكي والواقعي المتكلس، والدعوة الى تعبير متحرر من عوائق المحاكاة نحو ابتكار لغة جديدة عبر ما كان يسمى تدمير اللغة المتداولة سواء في الشعر او غيره،ولقد تركزت حداثة جماعة انفاس في باديتها على مجال اللغة الفرنسية، لكن ظهور تلوينات سياسية للخط الثقافي للجماعة (الماركسية والاشتراكية)،أدى الى تبنيها تيار الحداثة الذي كان يعلن عن نفسه على صعيد اللغة العربية، ويعتقد الدكتور ابراهيم الخطيب أن اهتمام أحمد المديني بالتنظيرات القصصية المتداولة في الثقافة الفرنسية والمغلفة بفعل الكتابة، إنما كانت استمرارا ضمنيا في تطوير أفكار جماعة أنفاس على الصعيد الأدبي ، إن قراءة المحموعة القصصية لاحمد المديني أشبه بالدخول الى غابة لايعرف العابر فيها ما الذي سيجده في الطريق، ويجهل قارىء هاته المجموعات القصصية ما يعثر عليه من اكتشافات لغوية وفنية وادبية وفكرية وسياسية واجمالا حاول الكاتب ان يصنف هاته المجموعات الى اربعة انماط:
النمط الاول:قصص أخذت توجها واقعيا حيث يكون السارد ناحية الزمن والراوي ،وهنا استشهد بقصة فقر النغم، وزاوية حادة، ووقت المرأة الوحيدة.
النمط الثاني: قصص ذات توجه نقدي مباشر يتحول فيه السرد الى خطاب متميز بميوله الساخرة ،واحيانا ينحو منحى الهجاء وأستشهد هنا بقصتين للكاتب وهما: التعليق على ما لم يحدث، وقصة مصيرية العنف.
النمط الثالث: قصص ذات توجه عجائبي حيث يبدو العنصر المحور في السرد هو الوضعية الاستثنائية للغرابة التي سيؤول اليها المحكي ويشير في هذا النموذج الى مدينة البدل كائن ميداني تنبيه الغافلين ثم رؤيا السيد سين،
النمط الرابع: قصص ذات توجه شاعري يكون السرد فيها ذاتيا والواقع موصوفا انطلاقا من رؤية لاتخلوا من براءة لكنها مدخولة بشقاوة الحياة وأشار الى قصة: حب في الدار البيضاء وهي قصة جميلة جدا .
بعد هذا التصنيف التحكمي سيتحدث عن المجموعة القصصية لأحمد المديني حيث استرسل الكاتب ابراهيم الخطيب بالحديث عن بعض مجموعاته القصصية التي استخرج منها الكثير من الاستكشافات اللغوية والفنية مع ربطها بامكنة واقعية عاش فيها احمد المديني واثرت على توجهه الفني والسياسي، حديث عن حياته في الجزائر، وفرنسا ،والعراق ،وخصوصا الدار البيضاء، وقدم الكاتب نماذج من روايات وقصص احمد المديني التي مارس فيها شغفه وتعلقه بتلك الامكنة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ