ثلاثة جياد

2020-08-11

بين الروائي أري دي لوكا والقاص محمود عبد الوهاب والشاعر بلند الحيدري

إلى .. أخي وصديقي ولدي الغالي مسعود

  • 2

حين اشتريت نسخة ً من رواية (ثلاثة جياد) للروائي أري دي لوكا  في 28/ 1/ 2019 تأملتُ عميقا : عنوان الرواية.. نزهتي الثانية في الرواية : تموز 2020 وضعت ْ خطين بالقلم الرصاص تحت السطر التالي  في ص103: (عمر الإنسان يطول بقدر أعمار ثلاثة أحصنة وأنت قد دفنت الأوّل).. ما بين القوسين اعادني إلى لقمان بن عاد والذي وهبه الله – نقلا عن عبدالله بن عباس – عمراً بطول عمر سبعة نسور..

(*)

منتصف ص30 نقرأ السطر التالي ( منذ فترة جاءت امرأة لزيارتي . فتحتُ لها الباب . كانت كما كانت عليه منذ عشرين سنة ) ثمة شفرة مخبوءة في الوحدة السردية الصغرى ( كانت كما كانت عليه منذ عشرين سنة) يبدو أن هذه المرأة تنتسب للثابت لا للمتغيّر . ثبوتيتها اعادتني إلى أجمل روايات ألدوس هكسلي (لكي يقف الزمن)

(*)

بحسب قول السارد المطلق (هذه فترة زمنية يبدو الآن كما لو كانت رحلة بالترام) سؤالي كقارىء ماذا تريد هذه المرأة من مجيئها ؟ يخبرنا السارد المطلق عن غايتين :

*(تريد أن تستطلع أخباري) -----------  : فضول إستطلاع

*(أن كان  بالإمكان التوفيق بين زمنين )  --------- : محاولة افتراضية  مستحيلة..

 

(*)

حين نتوغل في المسافة السردية للرواية نلاحظ أن : بطل الرواية نال التوفيق بين زمنين عبر رياضات التكلم، فالرجل المطارد بسبب ثوريته : (يتكلم عن الماضي بصيغة الحاضر/  107 ) وهذه كرامة من كراماته الثورية تعقبها قوله (المستقبل لا يحتاج إلى استعمال الفعل بل إلى الاسم ).. يا له من رجلٍ بمهارة يتلاعب مع الزمن والكائن اللغوي..

(*)

نعود إلى المرأة التي ظهرت في ص30 من رواية (ثلاثة جياد ) يخبرنا السارد المشارك بالحدث وهو بطل الرواية : (أخرجت من جيبها رسائلي . قرأتُ  الرسائل لأول مرة، فأنا حين أكتب الرسائل لا أقرأها..) هنا تتحول ورقة الرسالة مرآة ً، يرى السارد ما كان عليه (خلف الورقة القديمة لمحت ُوجهي القديم.).. القدامة : كانت قبل مساهمته الثورية، أما ما تطلبه  هي الآن فهو المستحيل (أخبرتها أن احتضانها الحنون لي يعود إلى ذلك الزمن الذي كنت فيه شاباً يافعا) المحذوف بين القوسين أن المتكلم مكتملٌ بشيخوخته، ثم يضيف (وقلت لها أنها امرأة رائعة مثالية وفي مقدورها أن تعثر على شباب من ذلك الطراز..) السارد : يقترح بديلا عنه يسد مسده ُ .. هنا تنسف المرأة العاشقة  ماضيه وحاضره، في قولها (إذا لم تعد كما كنت فهذا يعني أنك لم تكن كما كنت ... /31   ) .. فيشن الرجل الذي كان عشيقها هجوما مقابلاً  كاتما يتدفق صخبا جوانيا (أنا لن أتردد في القول : هذه الجائزة التي تحملينها أيتها السيدة الخالدة، والمتمثلة في زيارتك لي، هي في الواقع زيارة لخالي .أنا الآن خال ذلك الشاب الذي كتب تلك الرسائل..) ومع هذا الرد الجواني المكتوم، يطفح الرد البراني البارد (غير أنني أكتفيتُ بالقول، أنا الآن لست ما كنت عليه آنذاك )

(*)

 المشهد الروائي بين العاشقة التي زارت عاشقها وهي تحمل معها عبق همسات زرق، تعيدني إلى (امتياز العمر) إحدى قصص (رائحة الشتاء) لأستاذنا المطوّب ثلاثا محمود عبد الوهاب، فعل القص يفتتح بطقس مكتبي (كعادته، كل صباح جمعة . دخل غرفة مكتبته/ 47 ) يقوم برفع الكتب من المنضدة واعادتها إلى أمكنتها من الرفوف فيخبرنا السارد (استوقفته مجموعة من الرسائل الخاصة . رسائل زرق أنيقة اعترضت طريقه عندما كان يبحث في درج مكتبته . عدّل من جلسته، وتناول نظارته الطبية كأنه يستعد لاتخاذ طقس خاص بها) .

(*)

الطقس الأول كان : دخول المكتبة صباح يوم الجمعة، والطقس الثاني أكثر دفئا وليس بشكل دوري بل حدث  أثناء ترتيب الكتب – كما يوهمنا السارد-  !! هنا سنلمس أن الرسائل هي الدافع القصصي الأهم وما قبلها عتبة نصية، وهكذا يكون فعل القص من لحظتين : الحاضر يتجسد بدخول الرجل المثقف إلى غرفة المكتبة، واللحظة الثانية هي الزمن المطوي المخبوء في الرسائل :

*(تفحص الرسالة الأولى : ماض بعيد  يهجم عليه بتفاصيله كصديق مهاجر عاد تواً) : هنا تتضوع الصداقة المعلنة بين رجلين .

*(تناول الرسالة الثانية : كانت مسودة بخط يده. أخذت قسمات الماضي البعيد تتجمع أمام عينيه في صورة فتاة جريئة كانت تلتقيه على دراجتها الهوائية كل مساء في محلته الشعبيىة، وقبل أن يطوي المسودة قرأ : هل تدركين ماذا يعني أن يفترق أحدنا عن الآخر؟ إنه موتي المحقق ! وإن الحياة من دونك لا تطاق./ 48) .

نلاحظ أن هذه الرسالة ملجومة لم يرسلها السارد الفتي إلى حبيبته، لأسباب لم يفصح عنها السرد ثم يعيد الرسالة إلى مكانها بين حزمة الرسائل .

فتبث الرسالة الملجومة شفرة ً  في كاتبها : (التفت كأنه يخاطب صديقا يجالسه : هل أنا حقا ذلك الذي كتبَ هذه الرسالة ؟ وهل كنت أفكر فعلا على هذه الصورة ؟) .

(*)

 أستاذنا محمود عبدالوهاب – طيّب الله ثراه – ينهي طقس الرسائل بسؤالين . والروائي أري دي لوكا :  ينهيه بصوتين : جواني/ براني، علما ً أن القاص محمود عبد الوهاب غادرنا : الأربعاء 7 كانون الأول 2011 الساعة الثانية والنصف من بعد الظهر..  أما رواية (ثلاثة جياد )  فقد ترجمها الأستاذ نزار أغري إلى العربية في 2015 .. إذن ما يجمع بين الأديبين العراقي البصري محمود عبد الوهاب والأديب الإيطالي  أري دي لوكا : هو رهافة الحس الإبداعي ..

(*)

 بكل ما في البطولة من كرامة وتحدٍ، يكتمل بطل (ثلاثة جياد)  أممياً مع سليم الأفريقي ويعينه بأزهار الميموزا ليتقوّت منها في بيعها للناس . يخبرنا السارد عن حرية القدمين  (يتحدث قليلاً عن بلده حيث يمشي الناس حفاة ولهذا يتبادلون الأحاديث بحرية../57  ) كقارىء تداعت ذاكرتي في علاقة إفلاطون مع الكتابة : (حين اخترعت الكتابة كانت في بدايتها طفحاً جلدياً، على البشرة الناعمة للثقافة الشفاهية، فهي مصنّعة، ومشروطة بأدوات ولوازم : جلود حيوان، ريشات للكتابة، أحبار، دهان.. ربما لهذا السبب نظر إليها إفلاطون بوصفها تكنولوجيا.../ 126- 127زيادة معنى العالم)..

(*)

نعود إلى قدميّ سليم  ليحدثنا عن مؤثرية الحذاء على اللسان (حين يرتدي المرء ُ الحذاءَ يتوقف الكلام..) !!.. أرى أن مشاعر سليم لا تكذب فهو يرفض أي عازل بين القدم والأرض فعلا يا سليم الطيب (إذا لم نقف على الأرض بأقدام عارية، مثل الأشجار، نصبح معزولين..) ثم يقوم بطل الرواية بتخريج الحذاء من معناه المعجمي إلى تشظيات الدلالة، وهكذا يتكاثر الواحد (هذا صحيح إنها الحقيقة بعينها.تاريخنا كله عبارة عن حذاء يفصلنا عن الأرض . الحذاء هو البيت، السيارة، الكتاب / 57) هنا أيضا تداعت ذاكرتي الثقافية واستقرت عند قصيدة للشاعر العراقي بلند الحيدري  طيّب الله ثراه - وتحديدا  قصيدته (ثرثرة في الشارع الطويل )

(أمؤلم ٌ أن تلبس الحذاء كل يوم...؟

   أجل ..أجل أكره أن أنزعه

  أكره أن ألبسه

أكره، لولاه ما كانت لنا

  غير مسافات الرؤى في النوم

لولاه، لم نسأل

        ولم نرحل

ولم نكن لغير أمسنا البخيل

لولاه ما كان لنا في الشارع الطويل

الرّعب

والضياع

والمدينة القتيل

  • كيف إذن شريته..؟
  • شريته...! يا لك من مجنون

مَن يشتري حذاءه اللعنة، من ؟

مَن يشتري أستغاثة التاريخ والزمن ؟

من يشتري رائحة العفن ..؟)

هذه القصيدة من ديوان ( أغاني الحارس المتعب ) الصادر في 1971 : هنا يتحول الواحد الحذاء إلى تعددية السالب في حياة الإنسان.. ثم تتصاعد التعددية لتبلغ ذروتها التطويقية في الأسطر التالية :

(فكلكم

 أصغر مَن فيكم

أكبر مَن فيكم

القوم كل القوم

أمسكته حذاءه الملعون..)

(*)

لا أحد سرق َ من أحد : العمالقة الثلاثة : دي لوكا / محمود عبد الوهاب/ بلند الحيدري : تتنفس أحلامهم من مجرة ٍ كونية واحدة ..

  • دي لوكا/ ثلاثة جياد / ترجمة نزار أغري / منشورات الجمل/ بغداد – بيروت/ ط1/ 2015
  • محمود عبد الوهاب/ رائحة الشتاء/ دار الشؤون الثقافية/ بغداد/ ط1/1997
  • بلند الحيدري/ أغاني الحارس المتعب/ دار الآداب/ بيروت / 1971
  • مقداد مسعود/ زيادة معنى العالم/ دار ضفاف / بغداد- دولة الإمارات المتحدة/ 2014

 

 

 

مقداد مسعود

مقداد مسعود (من مواليد 15 أكتوبر 1954م البصرة، العراق)، هو شاعر وناقد عراقي بدأ النشر منتصف السبعينات من القرن العشرين ولدَ في بيتٍ فيه الكتب  أكثر من الأثاث . في طفولته كان يتأمل عميقًا أغلفة الكتب، صارت الأغلفة مراياه، فعبر إليها وتنقل بين مرايا الأغلفة، وحلمها مرارًا . في مراهقته فتنته الكتبُ فتقوس وقته على الروايات، وقادته إلى سواها من الكتب، وها هو على مشارف السبعين في ورطته مع زيت الكتب وسراجها بقناعة معرفية مطلقة

مؤلفاته
الزجاج وما يدور في فلكه
المغيب المضيء
الإذن العصية واللسان المقطوع
زهرة الرمان
من الاشرعة يتدفق النهر
القصيدة بصرة
زيادة معني العالم
شمس النارنج
حافة كوب ازرق
ما يختصره الكحل يتوسع فيه الزبيب
بصفيري اضيء الظلمة
يدي تنسى كثيرا
هدوء الفضة
ارباض
جياد من ريش نسور
الاحد الاول
قسيب
قلالي

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved