ثلاث حقائق موضوعية عن العنف

2009-09-22

العنف ظاهرة معروفة، رافقت الإنسان وتطوّرت معه عبر مراحله التأريخية المختلفة، واتخذت أشكالاً وألواناً متنوعة، تبعاً للهدف الذي مورست من أجله هذه الظاهرة.
بمعنى عام وبعيداً عن الأضاليل، فليس العنف فقط مسألة جروح أو قتل، إذ يُمكن أن يكون التحطيم سيكولوجياً بواسطة التعذيب أو النفي، أو الإيذاء في الممتلكات، أو إلغاء لغة الجماعة، أو ثقافتها، أو معتقداتها، أو يعني الحرمان من العمل.. ألخ: ولا أدعي بأن هذا الوصف العام هو تعريف وافي، بل أنني أردت من ذلك الحيلولة دون إفلات العديد من مظاهر العنف عندما يُمكنه التقدّم التقني والقدرات الأدائية من أن يُمارس بشكلٍ مكتمل وواسع: فبدل تنفيذ الإعدام، يُمكن تنظيم معسكرات عمل يموت فيها المعتقلون من الحرمان والإنهاك، وبدل التعذيب يُمكن اللجوء إلى معاملة طبية نفسية، وبدل الاعتقال يُمكن القيام بمضايقات إدارية غير محددة أو الحكم بالنفي ألخ... ويُمكن أن يتخذ شكل ظاهرة اجتماعية بين مجموعتين بشريتين لهما قناعات متضادة بيقين متكافئ.
حيث وُجد من يُروج للإرهاب معتقداً بأن ما يقوم به لا يتعارض مع المعايير الأخلاقية آنذاك.
ومن الأمثلة التاريخية المهمة ما حدث إبان عهود الإرهاب المختلفة، فهذه النسبية بين الإرهاب الثوري في عهد الاتفاق الوطني بفرنسا (1792م) والإرهاب الستاليني، ونفي الهوغونت الفرنسيين بعد نقض مرسوم نانت من طرف لويس الرابع عشر في 1185م (وكم أجبر ذلك من السكان ممن هاجروا من فرنسا إلى عدة دول أوروبية)، ونزوح لاجئي جنوب شرق آسيا، كل هذه الأمثلة تستوجب منا النظر إلى الوقائع ضمن ظروف إنتاجها التاريخية، وضمن تنوّع الإدراكات الممكنة لها.
الحقائق الموضوعية الثلاث:
1. لقد كان العنف، الذي هو ماثل اليوم في معظم المجتمعات بأشكال متعددة يبتدئ من أكثر الأشكال اختفاءً (نقص التغذية) إلى أكثرها ضراوةً (الإعدامات)، والتي هي من بين السمات المميزة لمجتمعات القرن العشرين وما تلاه، فقد حدثت حربان عالميتان انتهت إحداهما بما يُشبه القيامة النووية (هيروشيما)، والعديد من الإبادات، وأشكال مختلفة من العنصرية ومن الاضطهاد ومن عدم التسامح، والحروب الاستعمارية الجديدة وحروب التحرير، والأنظمة العسكرية والبوليسية ومعسكرات الاعتقال والتجميع، وتشويه التربية الاجتماعية، والإرهاب، والتطوير العلمي لغايات التعذيب، والاضطهادات والسيطرة والمساومات الاقتصادية، وأخيراً الإجرام والذي هو جزءٌ مهم من العنف، ولكنه مستغل من طرف الإعلام: إن هذه اللائحة مملة وغير وافية، وهي تقدم لنا على كل حال، حصيلة لما قد يحدث للمجتمعات التي تريد أن تتوجه نحو الاشتراكية والديمقراطية والتقدم والوفرة .. ألخ.
2. لقد تسبب هذا الحضور القوي والمثير للعنف (لكن الذي أصبح للأسف مألوفاً) في أن يكون أحد أشكال الفشل الأساسية للفلسفة السياسية، لقد فقد الفكر بالانتقال من مغامرة إلى مغامرة، يقينياته و مُسلّماته وتراجع سواءٌ تعلّق الأمر بالادعاءات المنطقية أو المعتقدات المذهبية الخاصة بالأفكار الثورية، وبمظاهر الشلل أو التخدير المبرمج تجاه الوقوف ضد الأنظمة الاستبدادية والهذيانات الفاشيستية، وبالتبريرات الباردة للاختيارات النووية في الحروب بحجة التحرير أو مكافحة الأرهاب، وبالنزعة المتطرفة للاتجاهات الإرهابية. لقد انفتحت الأعين وتبددت الأوهام، لكن لتترك المجال لنوعٍ من الغباوة تجاه عالم تضاعفت فيه العلاقات الدولية والتحالفات الشاذة، وتحوّلت فيه في الأغلب والأعم المشروعات الثورية إلى أشكال من الاضطهاد وباسم الواقعية المُشوّهة، فقضايا اللاجئين تُناقش أحيانا من خلال وتبعاً لقيمة المواد الأولية التي تحصل عليها الدول الغازية. كما وأصبحت بعض الأقليات تساوي ثمن العلاقات الدبلوماسية، وباستثناء بعض الحالات النادرة فإن الفكر كان على الأكثر في حالة جري وراء العنف، الذي أوصلنا إلى حالة العمى، ونقطة العمى كانت وتظلّ هي الفاصل القائم بين المثل والإمكانات الفعلية للتحرر (الذي لم يكف أي نظام في القرن الماضي عن ادعاء الانتماء إليها)، وبين واقع المصالح الفاحشة والحسابات التي شوّهت التاريخ، وبين الاعلان المستمر عن غايات حسنة سخية بالوعود وواقع الممارسات الخسيسة التي تُمارس تحت عدة ذرائع، وأصبح العنف لغزاً مألوفاً أحياناً، وكأنه لابد أن يوجد ليخدم أهدافاً أخرى، أو يُخفي عمليات أخرى، أنّه لا يستطيع أن يكون فقط على ما هو، بل يجب أن يُحال إلى واقعٍ آخر، كان من اللازم إذن فهمه، وفك رموزه وتأويله بتبرير مشروعيته أو بإدانته باسم مجرى التاريخ، وبنية المجتمعات، وأزماتها ومخاض تقدمها. وكان من اللازم إيجاد أسباب له أو غايات سامية.
3. وبإزاء بداهة هذه الأشكال المتعددة من العنف وهذه التنظيرات الفكرية الناقصة تُضاف روح الحذر المرتبطة بنزعة طائفية ونسبوية متنامية. ومن مغامرة تاريخية إلى أخرى بدا أن معايير إدراك الواقع متغيرة ومتعددة. وبصدد حالة العنف، حيث تتصارع وجهات النظر المتعارضة، أخذ هذا الحذر الشكل التالي: ماذا علينا أن نعرف، وماذا يُمكن أن نعرف وما الذي نُريد فعلاً أن نعرف عنه كلما نظرنا إليه؟ هل أصبحنا فقط أكثر حساسية تجاه ما يلحقه من دمار أم أن أهوال القرن الماضي كانت هي فعلاً أهوالاً جديدة لم تكن معروفة سابقاً؟ لا يتعلّق الأمر، على وجه التأكيد، بأن نجعل من العنف مجرد طريقة في الرؤية، بل أنه يُقدّم غالباً كتهديد أو وباء جديدين بحيث يكون من الضروري التذكير بنسبية الإدراكات الاجتماعية: وهذا أمرٌ هام، ففي الوقت الذي لا يرى البعض إلا قدرية البؤس، نرى أن آخرين يُدينون الاستغلال البشع، وما يدعوه البعض عملية إعادة التربية، يدعوه آخرون عملية غسل الدماغ. إذا كان العنف ظاهرة مُعاصرة عن أشكال العنف التي عرفها التاريخ، فإنها تجري من خلال التدخل المزدوج للتكنولوجيا والترشيد في إنتاج العنف بوسائل متعددة: مثل تكنولوجيا الوسائل والتسيير وتكنولوجيا الأشخاص العاملين وتكنولوجيا الإعلام.
وهناك مواضيعاً مهمة يُمكن التعرّض لها بدراسات متأنية مثل نظريات النزعة العدوانية ونظريات انقسام المجتمع والتباسات التنظيم الاجتماعي، والعنف والأخلاق، أتمنى من الأخوة المتخصصين أن يضعوا دراسات لاحقة لهذه المواضيع.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved