ذو الوجه النحاسي..!

2021-06-26

وَجْهٌ نحاسَيٌّ، أجِدُني مراراً أعصر مخي لأتذكر أينَ واجَهَني، أو واجَهْته، فهذه الأسنانُ المتآكِلَةُ، وهذا الأنفُ العريضُ، وهذا الفَمُ المنْفَرِجُ باستمرارٍ، وهذانِ الحاجبانِ المقَوَّسانِ مثل القارَبِ، وهاتانِ العينانِ الحزينتانِ ليستَا غريبتانِ عَني، كانَ يرتمي على كؤوسِ الشَّايِ والقَهْوةِ والمشروباتِ الَّتي يِجدُها فوقَ الموائدِ المتَراصَّةِ عبر بوَّاباتِ المقاهي، بعد مَزْجِ بعضها ببعض، ثم ينظرُ إلى الجالسينَ بابتسامٍ، ثم يقومُ بإلقاءِ الدُّروسِ في الفلسفةِ والأدبِ والتَّاريخِ...نصوصٌ ونصوصٌ من المقدمةِ، والغربالِ وشعر لشعراءَ رومانسيين...ثم يرتشفُ من الكأسِ المَمْزُوجِ وهو يلعنُ البشرَ...الناسُ ينظرونَ إليهِ في امتعاضٍ، وهو غارقٌ في الضَّحِكِ والإبتسامِ....

فجأةً انْقَضَّ عليْهِ النادِلُ المشدوهُ، وهو مستَمِرٌّ بحركاتِ يدِهِ وفَمِهِ التي لم تتوقَّفْ، وهو يُلَقِّنُ الدُّروسَ بالعربيةِ والفرنسيةِ وكلمات بالإنجليزيةِ أيضاً...يتكلَّمُ باستمرارٍ، يكرِّرُ ويُعِيدُ الصياغاتِ، ويُقَلِّبُها ثم يُعِيدُها ويقلِّبُها مرَّةً أُخْرَى، على وَجْهٍ ثم على الوَجْهِ الآخَرِ، ويَعْجِنُها ثم يعْجِنُها كُرةً قويةً دامغةً يَقْذِفُها في وَجْهِ المتَطَفِّلينَ المتعطِّشينَ الَّذينَ لا يَشْبَعُونَ مِنْ أَكْلِ لُحُومِ البَشَرِ، وَمِنَ التَّشَفِّي والسُّخريَةِ من الآخرينَ كلَّمَا سنَحَتِ الفُرصَةُ، ثم هو يُلَوِّحُ بحركاتٍ تليقُ بمقامِ الأستاذ، كانَ يشرَحُ ثمَّ يشدُّ بيدِهِ علَى لحيتِهِ ثم يبتَسِمُ رافعاً تارةَ أُصْبُعَه وطوراً يدهُ إلى الأَعْلى، ثم يُقَوِّسُ إحدى عَينَيْهِ كأنَّهُ خَلُصَ إلى الفكرةِ السَّديدَةِ، ثم يعودُ إلى حالتهِ الأُولى فيُزَمجرُ ويَفيضُ غَيْضاً وشَتْماً عَلَى أَعْدَاءَ وَهميينَ، ولعناتُهُ تجلجلُ المكانَ، النَّادِلُ يَنْهَرُهُ بحدَّةٍ.. لكن ذو الوجهِ الفحمي النُّحَاسِي يصيرُ مثلَ طَيْرِ الصَّاعِقَةِ، يُرَفْرِفُ مثلَ شَبَحٍ أَعْمَى، المخَالِبُ كأظافرِ النَّسْرِ، ثم ما يلبثَ أَنْ يبَدَّلَ هَيأتَهُ فتصيرَ ساعِداهُ مثلَ جَناحَي الطَّائرِ الكاسِرِ مَكْسُوَّتينِ بالرِّيشِ الكَثيفِ، ثم يبدأَ يُعَرِّيهِ من ملابسهِ، يأخذَ بخنُقُهُ بمخالبِهِ الحادَّةِ المكْسُوَّةِ بالصُّوفِ أيضاً، والشَّطَطُ يَنبَعِثُ مِنْ مَساماتِ وَجْهِهِ الحانقِ، والشَّرَرُ يتطايَرُ من عينيهِ الدَّامِيَّتَيْنِ، وفَمُهُ يلْتَهِبُ بالنَّارِ الحارِقَةِ الَّتي تنبثَقَتْ مِنْ أَعْمَاقِه ينفُثُها عليهِ كالتِّنِّينِ، حتى تخمدَ أَنْفاسُه، ثم أمسكَهُ وقادَهُ، يسلكُ الطَّريقَ الَّذي لا عَوْدَةَ لسالكهِ إلى دارِ الظُّلمَةِ، إلى الَّذي لا يَرجِعُ من دَخَلَهُ، والَّذي حُرِمَ ساكنوهُ من النُّورِ، حيثُ الحجَرُ والطِّينُ، والتُّرابُ طَعامُهُمْ وهُمْ كالطُّيُورِ مَكْسُوُّونَ بأجنحةٍ مِنَ الرِّيشِ، ويعيشُونَ في ظلامٍ دامسٍ لايَرَوْنَ نُورَاً...

وَالنَّاسُ هنا وهُناكَ يجلِسُونَ في طوابيرَ مُتَراصَّةٍ على جنباتِ المقاهِي والمحطَّاتِ ينتَظِرُونَ عودةَ ذو الوَجْهِ النُّحاسي، فَهَلْ تُراهُ يَعودُ ؟!

 

 

محمد آيت علو

باحث وكاتب من المملكة المغربية، لديه إصدارات شعرية وسردية قصصية .

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved